التليفزيون عالي الوضوح سوسن المصري

التليفزيون عالي الوضوح

إن التهافت على نقل أي فكرة إلى حيز التطبيق إضافة إلى التنافس التجاري ومدى تقدم التقانة وتوافرها في فترة ما، كل ذلك يساهم في طرح أي منتج بشكل غير مثالي أو غير مقبول أحيانا. ومن الأمثلة على ذلك، نذكر التليفزيون بشكل عام، والملون بشكل خاص، فمثلا يعلم القارئ أن تشكيل الصورة يعتمد على مبدأ المسح، وهو مبدأ يدخل تحت تصنيف التقنيات  التمثيلية، ويعلم كذلك أنه لو أردنا رؤية رقعة أكبر من المنظر مع المحافظة على حجم عناصر الصورة للزمنا شاشة أكبر، لكن كبر الشاشة دون زيادة عدد خطوط المسح، يعطي أثرا "سيئا" يجعل العين تميز الخطوط وتشاهد الصورة وكأنها أشرطة متقطعة، لذا يجب زيادة عدد الخطوط، لكن هذا يصطدم بزيادة عرض مجال القناة التلفزيونية، إذ إن عرض المجال يتناسب مع مربع عدد الخطوط. كذلك هناك عيب آخر في تقنيات التليفزيون المستخدمة حاليا فمع أن نظامي ال Pal وال Secam أفضل من النظام الأمريكي الذي طرح في عام 1953 (نظام NTSC ) إلا أن الأنظمة الثلاثة كلها تعاني من نفس العيب في الصورة إذ إن إشارتي النصوع Iuminance واللون Chrominance تتشارك تردديا وهذا يسبب ظهور آثار غير مرغوبة، مثل ظهور بقع على الحواف المتحركة وألوان زائفة في بعض الحالات.

ومع أن بعض المؤسسات قد بدأت بتعديل نظمها كما حدث في بريطانيا التي تستعمل نظام (Pal المعدل) حين طرحت نظام ال MAC (Multiplexed Analogue Component) وهو نظام يفصل بين إشارتي النصوع واللون زمنيا أي يقوم ببثهما باستخدام مبدأ تقسيم الزمن وذلك مع المحافظة على التردد.

ومع أن بعض أنواع التلفزيونات الأخرى طرح نفس الفكرة، ولكن بفرض استعمال تقسيم التردد (وهذا يقتضي زيادة عرض المجال) خاصة لأغراض الاستقبال المباشر من التوابع الصنعية التي تبث بثا موجها (DBS) إلا أن هذه الحلول كلها كانت علاجا مؤقتا لأخطاء أساسية. ومن هنـا جاء التفكير فـي التليفزيون عـالي الوضوح (HDTV) الذي يمكن من استعمال شاشة قطرها أكثر من مترين (نحو 80 بوصة) بل حتى شاشة عملاقة على جدار كبير جدا ولكن مع الحفاظ على جودة الصورة كما في الشاشات الصغيرة، إضافة إلى التخلص من الآثار غير المرغوبة التي ذكرناها بالنسبة للنصوع واللون، وبحيث إنه في آخر الأمر نجد أن صورة التليفزيون عالي الوضوح تماثل صورة فوتوغرافية ملونة لفيلم (35مم).

بالطبع يقتضي ذلك زيادة عدد خطوط المسح والتفنن في تقنيات النصوع واللون وهنا نذكر مع الأسف أنه يجب علينا الإبقاء على النظم الحالية، إذ لا يمكن تركها فجأة ورمي الأجهزة المستثمرة حاليا والتي يبلغ عددها مائتي مليون جهـاز في العالم، لذا نجـد أننا مجبرون على قبـول تقنيات الانتقال التدريجي وهنـا نقـول إن ال (HDTV) هي تقنية الحاضر لا المستقبل، إذ إنها تستخدم حاليا وبكثرة في جميع أنحاء العالم وهي قيد التطوير دوما وانتشارها يزداد خاصة بانتشار استعمال الكابلات الضوئية كوسط ناقل مادي أو بالاستقبال مباشرة من التوابع الصنعية (DBS) وعلى سبيل المثال نذكر أن عرض مجـال قناة ال (HDTV) النظامية هو نحو (27 ميجا هرتز).

ثورة رقمية

إن المستقبل، يقينا، سيكون للتقنية الرقمية، تقنية المعلومات، وهي التي ستحدث ثورة ليس في التليفزيون فقط بل في الفيديو والصوتيات وكل مجالات الحياة.

ولن يغير التليفزيون عالي الوضوح أو يقلب عادات المشاهدين فقط ولكنه سيخلق أيضا ثورة في أنظمة الإنتاج والإخراج وكل الأجهزة السمعية البصرية. فبفضل التليفزيون عالي الوضوح ستصبح صالات بيوتنا في المستقبل القريب كصالات السينما، وذلك بفضل الشاشة الواسعة والصوت الذي يحيط بنا من كل النواحي.

الواقع أن أول ما يلفت النظر في شاشة التليفزيون عالي الوضوح هو شكلها فهي أكبر من الشاشة التقليدية وتقدم تتالي صور أعلى بحيث نقترب من الشعور الذي يتملكنا عندما نشاهد أحداثا حية في الواقع.

لنأخذ مباراة كرة قدم مثلا فعندما ننقلها عبر شاشة تلفزيون عادية أو تقليدية فإننا نحتاج إلى عدد كبير من اللقطات لتصوير الأحداث واللاعبين ومتابعتهم وهكذا يمكن أن نعاني في النهاية من صعوبة جمع هذه المناظر في تشكيلة واحدة منسجمة، إذ يتوجب علينا أن نستخدم لقطات أوسع وأوسع بحيث لا يتمكن المشاهد من ملاحظة الانفصال في المشاهد. أما في التليفزيون عالي الوضوح فيمكننا مشاهدة الحدث بوضوح كامل انطلاقا من ثلث الصورة على الأكثر، إذ إن اللقطة تشغل حيزا واسعا من المنظر أو حتى كله أحيانا.

من مزايا الصورة في التليفزيون عالي الوضوح الصفاء الأكثر في التفاصيل وكون تدرجات الألوان أكثر عمقا ودقة بالإضافة لغياب بعض العيوب السيئة الملاحظة عادة في التليفزيون التقليدي مثل النقاط السوداء. وكنقطة تشابه مع الشاشة السينمائية فإنه لدينا في شاشة التليفزيون عالي الوضوح إمكانية التحكم بالصفاء والضبابية، بحيث نتحكم ببروز بعض المشاهد عن غيرها. وعدا عن التأثير الرائع للصورة فإن تأثير الصوت سيكون بلا شك أكبر وأعظم، لأنه سيكون محيطا بالمشاهد إحاطة تامة ومن كل الجوانب بحيث يحمله إلى قلب الحدث.

تقنية التليفزيون عالي الوضوح ستكون موضوع الرهان بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا واليابان بغرض تحديث أجهزة التليفزيون في العالم.

اليابان تبدأ التحدي

الآن هل تعني هذه التقنية عملية تحديث في القريب العاجل أو في وقت آجل لأكثر من 180 مليون جهاز تلفزيون في العالم؟

في الحقيقة هناك صراع يومي حول هذه التقنية التي شغلت العالم وأثارت إعجاب الملايين، بحيث إن الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وأوربا واليابان تضع كل استطاعتها في محاولة لسبر كل النجاحات السابقة وتطويرها ولا يكاد يمر شهر دون أن يفتح ملف هذه التقنية أمام أجهزة الإعلام الواسعة.

هذا الرهان وبالتالي الصراع سيكون محتدما بين مصنعي الأجهزة التلفزيونية الذين سيجدون أنفسهم مضطرين للتوافق مع هذه التقنية الحديثة.

لقد كانت البداية التاريخية للتلفزيون عالي الوضوح في عام 1983 عندما قدم اليابانيون للمرة الأولى أجهزة تلفزيون أحدثت ثورة في هذا المجال بشاشاتها الواسعة جدا وميزاتها الرائعة من حيث الوضوح، وقد أمكن الحصول على هذه الميزات العالية جدا باستخدام عدد كبير جدا من خطوط مسح لتعطي تحديدا أفضل، فلقد قدم النظام الياباني الجديد 1125 خطا مقابل 625 خطا في الأجهزة الحالية نظامي بال وسيكام أو مقابل 525 خطا في النظام (NTSC) وقد سمي هذا النظام باسم (MUSE) وقدمه اليابانيون كنظام مستقبلي، ولكن كانت له سيئة أنه غير متوافق مع الأنظمة الحالية وسيكون لزاما - فيما لو تم تبنيه مستقبلا - تحديث جميع الأجهزة التلفزيونية الموجودة حاليا، بل وأيضا تحديث كل أجهزة الفيديو والبرامج المتعلقة بالنقل التلفزيوني وعندئذ سيحقق المخترعون اليابانيون ربحا ملحوظا وبذلك فإن العالم سيواجه خطر اجتياح الأجهزة اليابانية جميع الأسواق العالمية.

وبالنسبة للأوربيين الذين شعروا بهذا الخطر فقد كانوا أول من فكر بمواجهة التحدي الياباني، الذي ستنجم عنه كوارث صناعية حقيقية محتملة، وهذا قد أدى بهم في النهاية إلى تبني نظام جديد سمي (MAC) الذي تحدثنا عنه في مقدمة هذا المقال وهو من أصل بريطاني وسيتم تبنيه من خلال خطة تمتد من عام 1991 إلى 1996 وفيها سيتم تبني نظام انتقالي سمي (D2 MAC) ويحوي نفس عدد الخطوط في الأنظمة الحالية ولكن ميزاته ستكون أفضل لأنه سيكون مزودا بأنبوب مسح مضاعف وبعد هذا النظام سنجد النظام النهائي (HD MAC) وسيكون متوافقا مع النظام الانتقالي، ولكن عدد خطوط المسح سيكون مساويا تماما لضعف العدد المستخدم في الأنظمة الحالية.

وخلال هذا الوقت بقي الأمريكيون صامتين وفي عام 1990 بثت بعض وكالات الأنباء أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تكون قد وضعت قرارها فيما يتعلق بالتحديات اليابانية والرد الأوربي عليها، ولكن هل سيكون القرار تبني النظام الياباني أو الأوربي؟

رد أمريكي ثوري

إن القرار الأمريكي أسفر عن أنه لن يتبنى أيا من هذين النظامين فقد أكدت الأنباء أن الاختيار وقع على نظام حديث تماما فقد اختير النظام الرقمي بالكامل ليكون أساس تلفزيون المستقبل.

هذا التليفزيون الرقمي بالكامل هو حلم العالم بأسره لأن كلا من النظامين الياباني والأوربي يقدمان تحسينا لخصائص الصورة التلفزيونية مع الاحتفاظ بنفس مبادئ الإرسال التلفزيوني القائمة حاليا مثل الإرسال وإعادة استخراج الصورة بشكل إشارة تماثلية على شاشة مهبطية. أما النظام الرقمي أو التقنية الرقمية فهي تطوير أو ثورة حقيقية فكل نقطة من نقاط المنظر المراد تلفزته يتم ترميزها بتتابع من الأصفار والواحدات وهذا التتابع هو الذي ينقل إلى أجهزة التليفزيون وهي نفس التقنية المستخدمة في الكمبيوتر وفي هذه الحالة يجب أن يتم نقل المعلومات بسرعة كبيرة، وأن يكون عدد النقاط كبيرا جدا ولكي تنجح هذه الفكرة لجأ الباحثون إلى التفكير بتقنية ضغط الصورة وتصغير عدد العناصر المطلوب نقلها دون التأثير على جودة الصورة. إذن يكفي أن تزود أجهزة التليفزيون بعلبة إلكترونية قادرة على ترجمة المعلومات المرسلة وإعادتها بشكل صورة تلفزيونية.

لا جدال في أن الرقمية هي الحل المستقبلي فكل الشركات الصناعية الأوربية تعمل منذ سنوات في تقنية ضغط الصورة ولكن حتى الآن فإن هذه التقنية ليست سوى تمتمات ونظام التليفزيون عالي الوضوح لن يصبح مستعملا قبل العقد القادم. من الآن وحتى ذلك الحين فإن النظام الأوربي سيؤمن عبورا هادئا باتجاه تلفزيون المستقبل.

لقد قدمت شركة طومسون في عام 1990 أول أجهزة تلفزيون متطورة جدا تستخدم النظام (MAC) وتم أيضا اختبار التقنية الجديدة خلال الألعاب الأوليمبية الشتوية في البرت فيل عام 1992.

لقد كان للصحوة الأمريكية تأثير إيجابي وهو أنها سببت تقاربا أوربيا يابانيا فاليابانيون الذين توقعوا ثماني ساعات من الإرسال بالتقنية HD، بدءا من أول ديسمبر الحالي، تعرفوا بشكل واضح على النظام الأوربي هذا وأبدت مؤسسة التليفزيون اليابانية (NHK) رغبتها واستعدادها للتعاون مع الفرنسيين لتأمين الدمج بين برامج (HDTV) والنظام الأوربي وبالتبادل هذه الخطوة مهمة جدا لأن عرضا جيدا وغنيا لبرامج ما بهذه التقنية سيقنع الملايين من المشاهدين في العالم بتبني هذا النظام المستقبلي.

 

سوسن المصري 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




التليفزيون القادم.. يتماشى مع الكمبيوتر





صور رقمية شديدة الجاذبية