مهرجان البندقية... تاريخ سينمائي لا يرتاح ولا يريح محمد رضا

مهرجان البندقية... تاريخ سينمائي لا يرتاح ولا يريح

المأزق الذي وضع مهرجان البندقية نفسه فيه هو أن كبر الحجم وكبر الطموحات بحاجة إلى معين ثابت من الأفلام كما إلى إدارة جيدة وذكية. والمهرجان في الشطر الأول من هذه الاحتياجات مازال رهن ما توفره السينمات العالمية من أفلام جيدة، ثم رهن ما يرضى منها بالتوجه إلى البندقية عوض برلين أو كان. من ناحية أخرى، فإن محاولة البرهان على أن المهرجان مازال يستطيع التعبير عن خصوصيات سينما المؤلف الأوربية، في الوقت الذي تعزف السينمات الأوربية عن تلك النظرية من قبل أن تجد أخرى قوية، يصيب المهرجان بمأزق من نوع البحث عن هوية تتوافر شروطها.

هذا ما يتعلق بالشطر الأول من هذه الاحتياجات. ما يتعلق بالشطر الثاني له علاقة بكيف يفكر الإيطاليون وكيف ينفذون تفكيرهم.

إذا ما كان المهرجان هو طلقة الفن في مواجهة التجارة، وسهم الحاضر في مواجهة التكنولوجيات المعقدة كما نص محور اللقاءات التي عقدها المهرجان تحت عنوان "السينما في الألفية الثالثة" فلماذا الإصرار على جذب محاكاة اهتمام جمهور الشباب بعرض أفلام من نوع "يوم الاستقلال" و "آخر رجل صامد"؟. إنه بصرف النظر عن مستوى الفيلمين وأفلام هوليوودية أخرى عرضت خارج المسابقة فإن هناك ازدواجية ملحوظة بين ما يأمله المهرجان وما ينفذه، خصوصا أنه يحاول الإسهام في الحد من هيمنة الفيلم الأمريكي فوق رأس الصناعة الأوربية.

جذب الجمهور من الشباب الذي لا يعرف التفرقة بين السينمات أو الأشكال أو التيارات يبدو إصرارا من جانب المهرجان عبر تخصيص فرق روك موسيقية حديثة. وأين تعتقد أن المكان الأفضل لنصب منصة تلك الفرق ونشر مكبراتها المجسمة؟ تماما في مواجهة تلك الصالة الفقيرة المخصصة للعروض الصحافية والنقدية. هناك، وبينما تحاول جاهدا متابعة الفيلم في صالة غير مخصصة للمشاهدة أصلا، تستطيع أن تسمع ضربات الألحان الناشزة فوق رأسك ومن ثم، ومن بين الرءوس التي تفصل ما بين عينيك والشاشة وتحتل جزءا لا يستهان به من حجم الشاشة (تشاهد ثلاثة أرباع الفيلم وإن بقيت لآخره ولم تنم)، عليك أن تنسجم وتخرج مدافعا عن المحاولات الشابة والسينما الفنية والتيارات الثقافية.. إن وجدت.

في جلسات المؤتمر الجانبية التي خصصت للحديث عن مستقبل السينما وقد اقترب القرن الحادي والعشرون الميلادي من بدايته، تباحث السينمائيون في شتى جوانب الموضوع. في الواقع كان الحديث عن مستقبل السينما بقدر ما كان عن سينما المستقبل. لكن الجانبين يتعلقان بالتطورات التقنية التي تبدو أقرب إلى إنجازات في مجال التعليب وحفظ الطعام أكثر مما هي إنجازات فنية ترقى إلى شروط الحضارة الإنسانية.

وكان المخرج البريطاني نيل جوردان (الذي خرج فيلمه الجديد "مايكل كولينز" بالجائزة الأولى من هذه الدورة) محقا حينما قال: "دعونا نأمل ألا يموت الفيلم في أذرعنا". ويسمع المرء منا هذه الكلمات الحارة بوضوح وهو يرقب أفلام "يوم الاستقلال" و "تويستر" و "المهمة مستحيلة" و "الماحي" أو غيرها من الأفلام التي تعتمد على الكمبيوتر معينا لإتمامها ونجاحها.

بل لعل المتهم بحملة التفجيرات التي توجهت ضد العاملين في مجال تطوير الكمبيوتر والتكنولوجيات وتدريسها في أمريكا كان على حق في اتخاذ موقف معاد من كل تلك الهجمة على التحديث. وإن كنت أعارض بالطبع الطريقة التي عبر فيها عن معاداته تلك. السينما في السنوات اللاحقة، باستثناء تلك التي ستنجو من فخ شبكات "الملتيميديا" والتي ستتوجه إلى القدر المحدود من المشاهدين الذين نجوا - حتى الآن - من عملية غسل الدماغ، ستكون عبارة عن أفلام تنفذ كما تصنع الأدوات الكهربائية اليوم: قطع وأسلاك ومقابض وأزرار ودماغ حاسوبي كان قضى على أرزاق عاملين (أو سمهم فنانين) وهو الآن يقضي على استقلالية مشاهديه وإمكان تحررهم العقلي من الضغط التقني الممارس عليهم. إلى جانب كل هذا، فإن مهرجان البندقية يبدو كمن يمشي فوق قضبان حديد ضيقة. فهو كناية عن تاريخ حافل بدأ عندما قرر موسيليني الاحتفاء بالسينما عام 1932 وعاصر، طوال نصف قرن، تيارات ومدارس واتجاهات والكثير من النجاحات، لكنه وصل إلى حيث لا يعرف كيف يستمر وأعباء تاريخه هذا ولا من دونه.

كل هذه المداولات، وغيرها، التي حفلت بها ندوات المؤتمر، تمت بينما كانت الأفلام المعروضة على شاشة مسابقة المهرجان تعكس معاناتها من مستويات مختلفة من الأزمة الحالية.

"مايكل كولينز" ربما كان أفضل فيلم عرض من نواح كثيرة أهمها ناحية تقديم فيلم يصل إلى الخاصة والعامة معا. يعرض مرحلة سياسية من الصراع الأيرلندي، وفي ذات الوقت يعممه شكلا سينمائيا يرضي المشاهدين عموما. نيل جوردان حاول أن يفعل ذلك في "مقابلة مع مصاص دماء" قبل عامين لكن المشكلة هناك هي أن القضية الذهنية ومستوياتها الاجتماعية أو الفردية، كانت غائبة. تقع أحداث "مايكل كولينز" في مطلع القرن لتتحدث عن بطل قومي حقيقي حث الناس على مقاومة الوجود البريطاني ونيل الاستقلال الأيرلندي "يقوم به ليام نيسون". وبما أن الموضوع الأيرلندي ما زال ماثلا على طاولة مشاكل العالم الحديث وحروبه، فإن المرء يقدر رحلة الاتصال التي قام بها المخرج ما بين الأمس واليوم في ذهنية المشاهد ويتمنى لو أن المخرج السويسري جان - لوك غودار تمكن من قطع مسافة هي أقصر زمنيا من تلك التي عند فيلم "مايكل كولينز" إذ يتحدث في فيلمه الجديد "موتزار للأبد" عن القضية البوسنية وهي بعد ما زالت معيشة.

"موتزار للأبد" هو أفضل فيلم، والعمل الذي لم يكن من المتوقع أن ينال جائزة ما ليس فقط لأن رئيس لجنة التحكيم "المخرج رومان بولانسكي " لديه خط مختلف تماما ولا يطيق غودار أو يهضمه، بل أيضا لأن أيا من أفلام غودار هو بمنزلة جزيرة تحوم من حولها أسماك القرش التي تمنع المشاهد من السباحة، والوصول إليها بحاجة إلى طائرة، وليس كل طائرة لديها إذن الهبوط في مطار غودار غير الدولي.

ينقسم الفيلم إلى أربعة فصول يربطها محاولة البعض تحقيق فيلم وسط ظروف العالم التي تحدثنا عن بعضها. التجارة، والابتلاع الثقافي للمشاهدين، وغياب الفهم الفني وعدم تقدير دور الفن. بين كل ذلك تبرز القضية البوسنية من خلال محاولة البعض الوصول إلى ذلك الجزء من أوربا ووقوعهم أسرى الصرب. الفيلم ينتقد الصرب ويصورهم همجيين وعدوانيين لكنه تبعا لأسلوب غودار المحير لا ينوي تحليل الوضع على نحو الصديق والعدو والطيب والشرير بل يعود بنا إلى السؤال المقلق في بال غودار: كيفية سرد فيلم روائي في فيلم غير روائي. المعضلة هي أن القصة التي يريد توفيرها للمشاهد يريد - في ذات الوقت - ألا يسردها كقصة.

على الرغم من صعوبة خوض غماره، يبقى "موتزار للأبد" أنصع هدفا وأفضل صنعا من فيلم آخر يدور جزئيا حول الموضوع البوسني هو "عصابات".

المخرج هو الجورجي أوتار إيسولياني الذي لم يكن، أصلا، أكثر من هالة فارغة صدق النقاد الغربيون أن فيها فحوى فنيا وثقافيا جيدا. في فيلمه الجديد هذا يحاول مهاجمة السلطة من خلال تقديم تاريخ موحد لها، كلها، باعتبارها ممارسة عشائرية للانفراد بالحكم. وينطلق من مواقع قتال غير محددة في يوغوسلافيا السابقة إلى تاريخ أوربا في القرون السابقة، ثم يتوقف طويلا عند الحقبة الستالينية "التي شبعت نقدا حتى من قبل انهيار الحكم الشيوعي" ليعرج في النهاية على تفاصيل حادثة كان قد عرض جزءا منها في مطلع الفيلم وتقع في دار السفارة الروسية في باريس.

أيما كانت مهام هذا الفيلم فهي متكلفة في فيلم ركيك في حيثياته لكن ذلك لم يكن فريدا بين الأفلام المتسابقة بل شاركته في ذلك أفلام "إيلونا تأتي مع المطر" لسيرجيو كاربيرا (كولومبيا) و"بيانيز، 14 آيار" لأنطونيو كابوانو (إيطاليا) و "حفلة" لمانويل أوليفييرا (برتغال)، "بونيت" لجاك دوايون (فرنسا) من بين أفلام أخرى.

 

محمد رضا 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




من مايكل كولينز الذي فاز بالجائزة الأولى في دورة البندقية





من الفيلم الأمريكي باسكيات الذي  شارك في المسابقة





من الفيلم تضاعف عُرض خارج  المسابقة