تعقيبان على مقال د. إبراهيم بيضون (التاريخ المختزل والتاريخ المحاصر)

تعقيبان على مقال د. إبراهيم بيضون (التاريخ المختزل والتاريخ المحاصر)

منبع الافتراء

قرأت في العدد (554) يناير 2005 مقالاً بعنوان: (التاريخ المختزل والتاريخ المحاصر) للدكتور إبراهيم بيضون عن صلة المؤرخ بالسلطة. ولفت نظري نقطتان غاية في الأهمية, تحتاجان إلى توضيح, النقطة الأولى: أنه جعل الزهري والواقدي في المرتبة العلمية والتاريخية نفسها.

والمتصفح لأي كتاب من كتب الجرح والتعديل, أو كتب الرجال, مثل (تهذيب الكمال ومختصراته), أو (الجرح والتعديل) للرازي, وغيرهما من الكتب المعتمدة الموثوقة في هذا المجال, يرى بوضوح لا يخفى لذي عينين, أن الزهري في واد والواقدي في وادٍ آخر, من حيث العدالة, والوثوق, والقبول, والصدق.

فالواقدي قال عنه البخاري: متروك الحديث, تركه أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك و..., وقال عنه الإمام أحمد: كذاب, وقال عنه يحيى بن معين: ضعيف ليس بثقه, وذكره النسائي في المعروفين بالكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال عنه ابن عدي: ليس هو بموضع للرواية, وقال عنه أبو زرعة الرازي والدولابي والعقيلي: متروك الحديث, وقال عنه النووي: ضعيف باتفاقهم, وقال عنه الذهبي: استقر الإجماع على وهن الواقدي

فالواقدي مختص بالتاريخ والسير نعم, ولكنه غير ثقة, لا بل متروك متهم بالكذب, ومن كان مثله لا يستغرب عليه تدليسه, أو تحريفه لما يروي.(تهذيب التهذيب) 5/232, (تقريب التهذيب) ص498.

أما الزهري فقد عدّه ابن سعد: ثقة كثير الحديث والعلم والرواية, فقيهاً جامعاً, وذكره النسائي في أحسن الأسانيد, وقال عنه معمر: ما رأيت مثل الزهري في هذا الفن. وعده عراك بن مالك من أفقه أهل المدينة, وقال عنه ابن حجر: الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه, وقال أيضاً: أحد الأئمة الأعلام وعالم الحجاز والشام, فلايصح بحال من الأحوال قرن الزهري الثقة الحجة, بالواقدي المتروك المتهم.

النقطة الثانية وهي الأخطر: أن الكاتب اتهم الزهري بالعمالة للخلفاء الأمويين فقال: (يدفع الشبهة عن النظام, ويسوغ المواقف لخلفائه). وليس هذا وحسب, بل اتهمه بأنه أول من أسس لهذا التوجه, لا بل طعن بالزهري في معرض رواية الحديث الشريف, فقال الكاتب: (وهكذا يؤسس الزهري لحال باتت من مألوف طبيعة المؤرخ, في ارتباطه المباشر بحركة السلطة, التي صادرت كثيراً من أدواته, لاسيما حركة التعبير, وكل ما يجعله مستقلاً في رؤيته, وموضوعياً في صياغة روايته).

فنقول: إن ما قاله الكاتب عن الزهري, ورماه به, كلام باطل علمياً وتاريخياًَ, وهو افتراء محض لا دليل عليه, وكتب التاريخ المعتمدة, كتاريخ ابن كثير (البداية والنهاية), وتاريخ الطبري, وابن عساكر وغيرها, بالإضافة إلى كتب الجرح والتعديل, وتراجم الرجال, كلها تشهد للزهري بالأمانة والعدالة والوثوق, بل بالتشبث بالحق, فكان الزهري لا تأخذه في الله لومة لائم, وهل من يقول للخليفة هشام عندما اتهمه:أنا أكذب لا أبا لك, والله لو نادى مناد في السماء أن الكذب حلال ما كذبت, هل يبرر من كان هذا حاله, مواقف الخلفاء ويزينها?.

السؤال المهم هنا لماذا يتهم الزهري بالذات? والجواب: لأنه من كبار المحدثين, وعليه مدار كثير من السنة, وهو نفس السبب الذي اتهم به أبو هريرة رضي الله عنه, صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد رد على التهم التي رمي بها الزهري, الدكتور مصطفى السباعي وفندها واحدة تلو الأخرى, وبين أصلها ومنبعها, ألا وهو المستشرق اليهودي جولدتسيهر, فقال السباعي بعد أن ذكر مكانة الزهري عند المحدثين: (لم يتهم أحد منهم الزهري بما لم يقع منه, ولا أثر عن أحد منهم أي تشكيك في أمانته, وثقة ودينه, ولا نعلم في الدنيا أحداً اتهم الزهري بأمانته وصدقه في الحديث, قبل هذا المستشرق اليهودي المتعصب جولد تسيهر). (السنة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي ص 239 ).

ومن أراد التوسع لمعرفة حقيقة هذه التهم ومداها, فليرجع لكتاب الدكتور السباعي, فقد أجاد وأفاد, ورد هجوماً عنيفاً غير مباشر على السنة الشريفة.

رواية التاريخ

أسامة صلاح علي

ورد في عدد (554) يناير 2005 مقال د. إبراهيم بيضون بعنوان (التاريخ المختزل والتاريخ المحاصر) أورد فيه تساؤلاً هو: هل كان المؤرخ العربي, فقيه السلطة يروي التاريخ لمصلحتها? وأرى أنه تحامل بعض الشيء على المؤرخ العربي, واختلف معه في نقاط عدة, لما كان عليه حال المؤرخ والتاريخ في بداياته.

1- إن عدم اكتراث الأوائل بتدوين التاريخ, يرجع إلى أن المرحلة - بعينها - لم تكن تاريخية بقدر ما هي شرعية ترسيخية تأسيسية, معتمدة على رواية الحديث وحفظ تعاليم الدين, وهي في الوقت ذاته - أي الدولة الإسلامية - تحمل أوامر وتوجيهات غير مكتملة, ووضع الأساس الأولي لأي دولة يصعب معه غالبًا تدوين وتحديد هويتها, ناهيك عن الصراع والحروب والغزوات, التي ساهمت في الانشغال عن الالتفات إلى أي شيء آخر.

2- إن العرب الأوائل كانوا في الأصل أصحاب أذهان حاضرة متفتحة, ونفوس نقية. فاعتمادهم على الرواية التاريخية أو غيرها شرف يتباهون ويفتخرون به - كل قبيلة على أختها - ونادرًا ما تجد عربيًا يخُط في رُقعة أو يقرأ في صحيفة - فلمّا اختلطت الأنساب بانتشار الإسلام واطلاعهم على أنظمة الحضارات من حولهم سارعوا إلى التدوين.

3- لم يكن استئثار رموز الإسلام (العلماء) الأوائل لدى الخلفاء, إلا تقديرًا للعلم والعلماء, ورفعًا من شأنهم ولا يعني اختلاط المؤرخ بالسلطة, نفى الأمانة عنه في نقل الحدث أو على الأقل بعضًا منهم, مهما كانت علاقته بالسلطة, أو تعصّبه لها, بل إن كثيرًا من الخلفاء كانوا مهتمين بالعلم, وكانوا على قدر كبير من الوعي والثقافة يرغبون في إبراز دولتهم بقوة مجلس بلاطهم من العلماء

4- أما عن التاريخ الانتقائي أو المجزأ, والذي أسقط منه حق المجتمع, فإن الأحداث التاريخية في كثير من الأوقات, والمرتبطة بالسلطة, فرضت نفسها على السطح, ولفتت الانتباه بداية من الرجل, الذي إذا غضب - غضبت له ألوف مرورًا بإقامة خليفة وخلع أو قتل آخر وظهور دولة وإخفاق أخرى.

إن المجتمع كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالسلطة غير أنها عادة ما تخطف الأضواء من الجميع, بل إن المجتمع نفسه غالبًا ما يكون شغوفًا بسماع أخبار غيره, خاصة أخبار من قبله من أصحاب السلطة أو من لامسها.

 

حمزة بن أحمد الحفيان