العصر الذهبي للرعب

العصر الذهبي للرعب

أحتفظ في ذاكرتي بكتابات خاصة, تركتها في حقيبة الخوف والهلع, على أمل في الروح أنها ستظهر ذات يوم وترى النور مهما طال أو تشعّب زمن الرعب.

يعرفني القارئ العربي على أنني روائي وكاتب قصة قصيرة, مع أنني كتبت الكثير من المقالات السياسية التي أذاعتها (المستقبل) في عمّان و(العراق الحر) في براغ وإذاعة (الجمهورية العراقية) في جدّة قبل سقوط بغداد ونظامها الدموي المقبور. وبالرغم من مئات المقالات السياسية التي كتبتها, فأنا لا أرى في نفسي ما يراه غيري, إذا ما كتب في الشأن السياسي.

وبالرغم من الكم الذي قلته في الإذاعات, أو الذي نشرته في المجلات والصحف العربية, فلاتزال ثمة كتابات أبقتها ذاكرتي طيّ الكتمان, أنا الذي عشتُ المحنة (سنة تحت الأرض في جُب انفرادي بسبب نشر قصة عنوانها: (سيّدنا الخليفة) والذي حاول النظام البعثي شراء ذمته (مهما كان الثمن) فما كان مني غير الهروب من (فردوسه) الكاذب والعيش في (عمّان) التي ساعدتني - رعاها الله - على أن أبدأ من جديد حتى أكتب بعض أسراري التي عشتها هناك بين ظلمة الظالم ورعشة المظلوم, لاسيما أنهم قتلوا أخي وابن أخي في ساعة واحدة, ودفعنا ثمن الرصاص من جيوبنا لئلا تخسر الحكومة بعضًا من ثرواتها.

واحدة من سرياليات العمر, اليوم الذي أخذوني فيه إلى قبو المخابرات, ورموني تحت الأرض دون سؤال وبلا كرم, قلتُ لهم: ماذا فعلت? فقالوا بصوت واحد: اخرس ولا كلمة!

وبقيتُ طوال سنة بلياليها وبشاعاتها ورعبها, دون كلام, أقبع في مكان دامس, في جزء من بغداد, لا أدري إن كان شمالاً أم شرقًا, لكنني تمكنتُ من كتابة قصة قصيرة عن ظهر قلب, أكتب جملة ثم أحفظها, وبعدها سطرًا وأحفظه, وتمر الأيام في الظلمة المرعبة وأنا مستمر في كتابة القصة التي دامت معي أكثر من سبعة شهور, وحين خرجتُ من جحر المخابرات كان أول شيء فعلته هو أنني كتبتها على الورق خوفًا من نسيان بعض مفرداتها وأعطيتها عنوانًا هو (وجه آخر لكاترين دينوف) أخذت 40 صفحة حين نشرتها في كتابي (سيّدنا الخليفة) الذي صدر حديثًا عن وكالة الصحافة العربية في القاهرة.

اليوم, وبعد أعوام على نجاتي (منهم) أفكر في المكان الذي كنت فيه, أتذكر صراخات المعذبين وهم يقتربون من الموت, أسأل نفسي: كم عدد المعتقلات الجوانية التي لا يدري بها أحد? كم هو مجموع من ذبحوا هناك أو الذين تشظّت لحومهم في أحواض السيانيد?

نظام القتل هذا لا يشبه أي نظام آخر في الكرة الأرضية, ومن الخطأ تسميته بالنظام الديكتاتوري, فهو نظام بربري سفاح لا يفهم لغة الرحمة, ولا شأن له بمفردات الشفقة أو الخوف من الله, وأرى الآن, أن حياتنا لم تكن غير أيام من الفانتازيا التي تجاوزت اللامعقول, بمسافة مليارات الفراسخ الضوئية, حتى أنك إذا ما حكيت عنها لشخص في باريس أو السويد أو هلسنكي فسيضحك فورًا من خصوبة الخيال الذي تتمتع به!

أجل, كان اليوم الذي جرجروني فيه إلى مستنقع المخابرات من أسوأ سرياليات أيامي, ولم يحدث طوال حياتي ما هو أسوأ منه, ولا أظنني سأرتاح من ذلك الكابوس إلاّ ساعة أصحو على وطن مشطوب فيه اسم صدام وتماثيله وجدارياته كلها, وها أنا بالرغم من أنفي, مازلت أعيش في هذا الكابوس, مع أن التمثال تحطّم تمامًا وصدام لم يعد أحد يفكر فيه, كما انتهى ابنه المعتوه وبقية بيادقه وأزلامه.

استفسار بريء

أتذكر بكثير من الهلع, تلك القصة التي تحكي عن إحدى زيارات الطاغية إلى المدارس الابتدائية, عندما سأل بنفسه أحد أطفال السنة الأولى عما إذا كان يعرفه? فقال الطفل ببراءة لا يدري نتائجها:

- أنتَ صدام حسين ونحن نراك كل يوم على شاشة التلفزيون وعندما تظهر لا أدري لماذا يبصق عليك أبي?

ومعلومٌ طبعًا ما جرى, لذلك الأب, فقد أخذوه من بيته بعد نصف ساعة وقطعوا لسانه (أولاً) ولم يعد إلى عائلته حتى بعد سقوط النظام.

وقد كبر الطفل وصار في العشرين من العمر, ثمة من أخبره بما جرى وكيف أنه السبب في مصير أبيه, مع أن نظام المذابح لم يقنع أو يكتفي بقتل الأب, بل تجاوز ذلك إلى أخذ الشاب (الذي كان طفلاً ذات يوم) وأرغمه على أن ينخرط في الجيش الذي يطلقون عليه (فدائيو صدام) وعلّموه كيف يأكل لحوم الذئاب والأفاعي وكيف (يبصق) في وجه أمه - وهي واحدة من شروط الانتماء إلى ذلك الجيش الفاسد - وتعلّم الشاب أشياء كثيرة عن اغتصاب النساء وذبح الأبرياء وكتابة التقارير عن جيرانه وأصدقائه دون أن يرف له أي جفن إذا ما سمع بقتلهم بعد ذلك!

أتذكر بكثير من الرعب هذه القصة التي يعرفها كل عراقي لايزال حيًا بين النهرين, وعاشها بخوف أكبر من خوفي, وأتساءل عن حقيقة ما كنا فيه من إذلال وخوف واستعباد, وكيف أن شعبنا سامحه الله كاد ينسى كل ما جرى من مذابح وموبقات ومجازر وكوارث وانتهاكات, حدثت أيام كان صدام وعائلته يعبثون بحياتنا وينتهكون إنسانيتنا ويسخرون من ضعفنا وسكوتنا على مجازرهم, سرقوا أموالنا ونهبوا الجزء الأحلى من سنواتنا ولايزال هناك من يقول العكس وهم غافلون!

كيف ينسى شعبنا ما حلّ به طوال حكم هذا الطاغية الأرعن?

كيف ينسى المقابر الجماعية وقتل الأبرياء دون محاكمة ولا قضاء?

كيف يغفل عن القصور التي شيّدها وهو يرى الفقراء يزدادون فقرًا?

كيف ننسى الهوان الذي كنا فيه? أنا لا أصدق ما أراه وما أسمعه اليوم, وكأننا لم نعش أبدًا أسوأ سنواتنا تحت خيمة الظلم, وتحت سقف التعذيب والقرارات الرعناء وعسكرة الحياة واغتصاب أخواتنا وبناتنا وزوجاتنا على يد ابنه الأهوج المريض?!

صندوق الأخطاء

نحن اليوم داخل كشكول من المآسي, داخل صندوق كبير من الأخطاء, وسوف نحتاج إلى أعوام من الكفاح والقراءة والتعليم والعدالة والأمن ونقد الذات حتى نرمم البناء التحتي لنفوسنا المحطمة, وذلك يعني أن نبدأ من جديد, ينبغي علينا رفع الأنقاض عن إبداعاتنا الدفينة في القضاء والطب والهندسة والتأليف والفنون بأنواعها, ولا بأس أن نبدأ من الحجارة والطين والمحبة, فهذا يكفي كأساس لمستقبل نحقق فيه أول ابتسامة على ملامح أول طفل يتمّ إنقاذه وإنقاذ عقله من حقبة الأخطاء والجرائم, ومن ذاك (الشيء) الذي كان يسمّى صدام ذات عام مرّ سهوًا على بلاد النهرين.

نعم, أتذكر بكثير من الرعب ذاك الطفل الذي أخبر الطاغية بأن والده يبصق على التلفزيون كلما ظهر (سيادته) من وراء الشاشة, وأفكر: كم خسرنا من البشر أيام كان صدام يمسك بتلابيب الكرسي? كم لسانًا بتروه بحجة أن صاحبه قال شيئًا لا يناسب مزاج المخابرات?

وكم امرأة علّقوا رأسها المقطوع على باب منزلها بحجة الزنا? كم هدموا من البيوت على أصحابها بحجة أنهم على غير وفاق مع (فكر) القائد و(وصاياه)? لقد تعطّلت الحياة بين النهرين, أو ربما سلبوها, لتبقى من حصة الطاغية وأزلامه المقربين منه, لقد تعطّلت الحياة بعد أن أفسدوها تمامًا, حتى صارت كلمة (عيب) صغيرة جدًا موازاة ما نحن فيه!

أخجل من نفسي حين أسمع بعض الرعاع (في فضائيات النفاق والتدليس) وهم يهتفون لذاك (الشيء) المقبور الذي كان في زمن ما يسمّى صدام حسين!

الأب الطاغية

قبل قتله, راح (شاوشيسكو) يتوسل الثوار بقوله (كنتُ أبًا لكم) والقول نفسه راحت تكرره زوجته التي لا تقلّ طغيانًا عنه (كنتُ أمًا لكم فهل تقتلون أمكم أيها الرومان)?

ولم تنفع الدموع ولا التضرعات, كان كل شيء قد انتهى, ولم يعد من أثر للطغاة في (بوخارست), وساد صمت رهيب حين أحسّ الناس في الشوارع والبيوت والأزقة أنه ما من شيء اسمه شاوشيسكو بعد اليوم, وأن الحاكم بأمره لم يعد من شهيق ولا زفير في قصباته الذهبية, بل صار مجرد حفنة ثقوب في جسد, كان يستخف بشعب كامل ويسخر من عبوديته ويضحك من عباقرته ومبدعيه, حتى أنه راح يكثر من عرض أفلام (الكارتون) في برامج التلفزيون غسلاً للدماغ وتخفيفًا من احتقان الناس الذين خرب حياتهم ونهب أموالهم طوال أعوام من الديكتاتورية والرأي الواحد والقرارات الفردية, حيث لا تمييز بعده ولا استئناف ولا محاكم.

في برهة عجيبة من الزمن, في لمحة خاطفة مضيئة من حياة رومانيا, انتهى أخطبوط شاوشيسكو, وتمّ الخلاص نهائيًا من كوابيس زوجته التي طاردت المفكرين والقادة وأصحاب الرأي ورجال الدين, والتي أرغمتهم على الهجرة غربًا إلى شعاب أوربا, ومنها إلى شتات لا يقلّ قسوة عن مواسم الهجرة نحو الرق وتجارة اللحم الأبيض وبيع الطمأنينة في العصور الغابرة.

أقول, فجأة جاءت المعجزة إلى رومانيا, لم يصدقها الناس في شواطئ (مامايا) وانزوى كبار السن خوفًا في (كونستانسا), بينما راح الطلاب خارج أسوار جامعاتهم ومدارسهم في بوخارست العاصمة يرقصون من فرط الدهشة, لكنه رقص خائف, إذ لايزال الشبح المقتول خارج شاشة التلفزيون, وما من خبر يؤكد موته.

وفي أول المساء عاد البث إلى تلفزيون بوخارست ورأى النهر والطير والبشر ملامح شاوشيسكو وهو يموت بين أحذية الثوار في زاوية للفضلات كانت مكانًا لنزهة الكلاب أراد الطاغية أن يهرب منها صوب ملاذ يأويه, حتى تأتيه النجدة من بيادقه, وعلى مقربة من جثته سقطت زوجته الأكثر قسوة وبخلاً في تاريخ رومانيا, مغطّاة بثوب من الدم بعد أن تبرأتْ منها ومن أمومتها حتى الفئران والأفاعي.

وما جرى في رومانيا خفّف من حالة الاحتقان الموجعة التي عاشها شعب مظلوم أراد أن يشمّ عطر الحرية قبل أن يمضي إلى أرذل العمر, فكان له أن حقق المستحيل في رؤية اليوم الذي يرحل فيه الطغاة والمستبدون, وهذا نفس ما يحتاج إليه شعبنا بين النهرين, إنه بأمس اللوعة والحاجة إلى رؤية صدام على شاشة التلفزيون بشحمه ولحمه, بحاجة إلى أن يرى خنوعه وانكساره وإذلاله أمام شعب لم يشهد العالم ظلمًا كالذي لحق به على مدى خمس وثلاثين سنة من القتل والتهميش والتعذيب وعسكرة الحياة. لابد من رؤية الظالم وجهًا لوجه لئلا تبقى الحمّى عالقة في أجساد الملايين ممن ينتظرون هذا اليوم العظيم بفارغ الصبر, إذ من غير المعقول أن يكتفي العراقي المظلوم برؤية الطاغية في تحقيق خاطف وكلام مقطوع - هكذا - على شاشة أصابها ورم السرطان عند ظهوره عليها!

بأيّ حق (مثلاً) يطالب البعض بحماية طارق عزيز? وهل كانت جرائمه وموبقاته ولصوصيته أقلّ نسبة من بقية أوباش النظام المقبور? أنا واحد من الشهود على أنه رماني إلى جحيم المخابرات مدة عام كامل, تاركًا جسدي في غرفة انفرادية تحت الأرض يسرح البعوض على لحمي وتمرح الفئران والعقارب على مقربة من رعبي, وكل ذلك بسبب قصة قصيرة ليست أطول من خمس صفحات, وهو نفسه الذي جاء يشتمني بكلام لا يقال حتى في الملاهي الرخيصة والشوارع الخلفية, وكان لسانه من البذاءة بحيث إنني أتساءل بكثير من المرارة:

- كيف اختاروه للسلك الدبلوماسي وهو الذي ما من سلك يربط لسانه الفلتان?!

العراقي عانى أكثر مما يحتمل المعقول, بل تجاوزت معاناته المستحيل, ومن هنا, فهو يستحق أن يرى قاتليه وسارقي حقوقه وعافيته.

ومن حقه أن يتأكد أن المساومات والمصالح (السريّة) لن تبعدهم عن العقاب, وليس مستغربًا أن يفكر المواطن بأن ثمة (طبخة) سياسية تجري في الخفاء!

الشعب الروماني حين أيقن بالدليل الساطع أن شاوشيسكو قد مضى إلى الجحيم, أحسّ حينها بالفردوس يلتف حول حياته, ولهذا راح يرقص حتى الصباح ويشرب في صحة رومانيا التي تحررت وخرجت أخيرًا من تحت الرماد كما العنقاء, بينما الشعب العراقي الذي أسقط تمثال القصّاب لايزال ينتظر الخلاص حتى يطمئن ويقرر العقاب المناسب.

انتهى هتلر وفرانكو وستالين وبينوشيه وعيدي أمين وهيلاسي لاسي وسوكارنو ومحمد رضا بهلوي وشاوشيسكو وبقية أقطاب الديكتاتورية في العالم, وها هو ابنهم المدلّل صدام يسقط بعدهم غير مأسوف عليه.

أراد هذا الطاغية أن يدخل التاريخ مهما كان الثمن, حتى لو جاء دخوله من أسوأ أبوابه, فكيف يا ترى يفكر هذا (المهووس بالتاريخ) وقد خسر كل شيء? ماذا يتمنّى في هذه الساعة?

حسنًا.. أيها الرئيس

الآن يمكن الكتابة إليك, بعد أن (انتهيت) ولم يعد من أحد يهابك أو يخاف منك, وسوف أقول لك: رحم اللّه من عرف قدر نفسه, وأنت يا صدام لم تعرف حجم ما أنتَ عليه, خدعوك بالقصائد البلهاء والأغنيات والتصفيق والهلاهل, حتى ظننت أن اللّه سبحانه لم يخلق رجلاً مثلك لا في الشرق ولا في الغرب!

قد تكون على حق أيها الرئيس, نحن نعرف ما يعنيه المدح في شخص جاء من عائلة لا تفهم من الدنيا غير أنها عضلات وهراوات ونهب وسلب وصراع واغتصاب, وأنت على حق أيضًا يوم رفعت أنفك فوق الغيوم حين رأيت تماثيلك في كل صوب من أرض العراق ورحت تمشي في الشوارع مرحًا, مع أنك لم تبلغ الجبال طولاً.

أجل, أنت على حق يوم اشتريت ضمائر المرتزقة من مفكرين ومبدعين, فهذا الشراء أعطاك اسمًا بين القادة وعلّمك الجلوس على السرير!

كنت تخطط شكل الخراب والدمار والموت الذي حلّ فعلاً بتراب الرافدين, وكانت نفسك المريضة تنتقم من أيام طفولتك البائسة وأنت تمشي حافيًا بين خرائب قريتك (العوجة).. ولهذا قتلت جميع من كانوا على معرفة بك خوف أن يفضحوا ما كنت عليه من وقاحة وفقر وشقاوة وقلّة أدبأنت (يا قائد القوات المسلحة) لم تكمل دراستك الثانوية, بينما هبطت عليك (الدكتوراه) من كل حدب وصوب, كما أنك لم تخدم يومًا واحدًا في الجيش, لكنك أصبحت بقدرة قادر القائد الأعلى للقوات المسلحة وبرتبة مهيب ركن وأنت لا تعرف حتى السلام باليد اليمنى, ذلك أنها مخصصة للقتل فقط!

حقائق كثيرة نعرفها عنكَ أيها الرئيس, لا مكان يكفي لسردها, لكن ما نجهله عنك أخطر من ذلك حتمًا, يكفي أنك جئت (بالطراطير) الجهلة وأعطيتهم الحق كاملاً في الحكم على الأبرياء, جئت بهم إحساسًا منك أن (العلم والثقافة لا ينفعها مع المذابح والسرقات وهتك الأعراض).

أنت لا شيء يا صدام, لا شيء, ومن عجائب الدنيا وغرائبها, أن هذا (اللاشيء) كان يحكمنا ويتحكّم فينا!!

 

عبدالستار ناصر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات