"أزمة المثقف العربي"... قمع السلطة.. أم خلل في بنية الفكر؟

"أزمة المثقف العربي"... قمع السلطة.. أم خلل في بنية الفكر؟

حديث الشهر

يقوم راهب أعمى بوضع السم في صفحات الكتب الممنوعة حتى يسري في يد كل من يحاول الإطلاع عليها. إنه راهب متهجم يرى أن سبب مفاسد البشر هو الضحك لأنه يحرر الإنسان من الخوف من الشيطان، وإذا تحرر الإنسان من الخوف انبثق في داخله ذلك التوق للمواجهة حتى أنه يمكن أن يتحدى الموت.

هذا الخوف من تأثير الكتب لدرجة قتل الآخرين يشرحه الكاتب الإيطالي "ألبرتو إيكو" في روايته الشهيرة "اسم الوردة"، وهي رواية برغم عقدتها البوليسية تناقش أهم قضايا التحرر الفلسفي إبان العصور الوسطى، وهي تدور كلها داخل أحد الأديرة حيث يقوم راهب بالتحقيق في عدة جرائم قتل غامضة تتم كلها في محاولة لمنع الرهبان من الوصول إلى الكتب التي تحررهم من الخوف وعلى رأسها كتاب الكوميديا من تأليف أرسطو.

هذا الخوف من الكتاب والثقافة لا يخص القرون الوسطى، ولكنه صراع مستمر بين من يملك سلطة المنع والمصادرة وبين سلطة الفكر. وقد امتدت آثاره إلى أوائل القرن العشرين عندما قامت ألمانيا النازية بحرق كل الكتب التي تخالف معتقداتها، وكان حكام الزمن الغابر لا يكتفون بتسميم صفحات الكتب فقط، ولكن يضعون السم للكتاب أنفسهم ليتخلصوا من شرهم.

ومازالت مشكلة الكاتب والسلطة قائمة خاصة في العالم الثالث بوجه عام، وعالمنا العربي بشكل خاص. فكلاهما - أي الكتاب والسلطة - دائما على طرفي نقيض. فالدولة تعني الأمر القائم الذي يضع قيدا على حرية لا تتفق مع مصالحها. والكاتب يحاول أن يوصل أفكاره إلى الناس بأي طريقة من الطرق لذلك فهو يريد قدرا كبيرا من الحرية لا تسمح بها الدولة. وقديما كان الكاتب يستطيع التخفي ويستطيع تسريب الأفكار التي يريدها من تحت أنف السلطات الحاكمة. أما الآن، ومع تطور وسائل السلطة فقد أصبحت على معرفة عميقة بكل ألاعيب الكتاب، وأصبح عليه الآن إما أن يواجهها مواجهة صريحة.. أو يستسلم لسطوتها.

إن الجدل يثار الآن من القاهرة وبيروت شرقا إلى مراكش غربا حول هذه العلاقة الحرجة بين الكاتب والسلطة. أين تنتهي سلطة كل منهما.. هذا إذا افترضنا أن للكاتب في العالم العربي سلطة تؤثر في الرأي العام. وكيف يمكن صياغة هذه العلاقة بحيث تكون خطوة متقدمة على طريق المجتمع المدني؟ البعض يتهم السلطات بأنها فاقدة الديمقراطية، لذلك فهي لا تسمح بتبادل أي رأي من الآراء إلا إذا كان تحت مظلتها ومتفقا معها، والبعض الآخر يتهم المفكر أو المثقف نفه لأن الخطأ في بنية تفكيره بحيث تبقيه غير مؤثر يعيش في أوهامه أكثر مما يعيش وسط قضايا شعبه.

وقد ارتفعت نبرة هذه الجدل أخيرا بمناسبة البيان الذي وقعه العديد من المثقفين العرب حتى تقوم السلطة الفلسطينية التي مازالت وليدة بالإفراج عن كتب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، وكانت هذه السلطات قد قامت بمصادرة آخر كتابين له يضمان مقالات نشرها خلال العامين الماضيين تحمل في معظمها نقدا عنيفا لاتفاقات أوسلو التي رأى أنها استمرار للخط الاستسلامي وانتهاك لكل المبادئ التي قامت عليها الحركة الوطنية الفلسطينية. وسبب المنع المباشر بأنه هو أن هذين الكتابين قد وجها هجوما قاسيا لياسر عرفات، ووصفاه بأنه ديكتاتور يعتمد على أجهزة الشرطة السرية أكثر مما يعتمد على مناضلي الثورة الفلسطينية. وعرفات الذي تحول الآن من زعيم للثورة إلى رئيس للسلطة لم يرض كرئيس عشائري أن يوجه إليه أي انتقاد، ولجأ إلى أسلوب المصادرة الشهير حتى يبقى صوت السلطة التي يمثلها هو الصوت الأوحد. وقد كان من الممكن أن يأخذ من إدوارد سعيد وغيره من المثقفين الفلسطينيين دعما وسندا له في مباحثاته المضنية مع الجانب الإسرائيلي حتى يعرف هذا الجانب أن هناك رأيا عاما فلسطينيا من الصعب أن يتنازل عن الحد الأدنى المقبول، وأنه غير مطلق اليد في التوقيع على أي اتفاق، بدلا من ذلك نراه قد اتبع أساليب بعض السلطات العربية التقليدية في استئصال الرأي الآخر.

والمثقف العربي لا يجد حربا شعواء من السلطة الحاكمة فقط، ولكن هذه الحرب تمتد آثارها أحيانا إلى المجتمع نفسه.وليست قضية نصر أبو زيد ببعيدة، فقد بدأت المعركة بينه وبين بعض السلطات الأكاديمية المسيطرة على أروقة الجامعة المصرية، ولكنها سرعان ما انتقلت إلى الشارع الذي أقام من نفسه حكما ضده دون أن يقرأ حيثيات الحكم. لقد تمت إثارة الرأي العام ضد كتابات نصر أبوزيد بدعوى أنها تحض على الكفر والإلحاد برغم أن صاحبها مسلم ومؤمن ولا أحد يملك الحق في تكفيره لم يستمع أحد إليه، وحتى القضاة الذين جلسوا خلف منصة الحكم حكموا بالتفريق بينه وبين زوجته استجابة للرأي الآخر دون الخضوع لمنطق الأحكام.

لقد أثبتت الأحداث أن الكاتب دائما مهدر الدم.. فالمصادفة البحتة أنقذت عنق نجيب محفوظ من الذبح، ولكن التعمد بارد الدم أضاع العديد منهم أن يكون لهم من سلاح سوى القلم والرأي، وهل يمكن أن نستغرب اليوم إن عرفنا عبدالرحمن الكواكبي، صاحب كتاب "طبائع الاستبداد" الشهير قد مات مسموما في القاهرة في مطلع هذا القرن! وقبله ذاق الجبرتي نفس المصير على يد محمد علي باشا، وهناك من أحرقت يراعه مثل ابن العميد، هذا غير الفقهاء الذين ذاقوا أسوأ أنواع العذاب في الحادثة التي أطلق عليها "محنة خلق القرآن".

محنة خلق القرآن

"أجاب القوم كلهم أن القرآن مخلوق، إلا أربعة نفر منهم: أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد بن نوح المضروب. فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدوا في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة أن القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده، وخلى سبيله وأصر الآخرون على قولهم، فلما كان بعد الغد عاودهم أيضا فأجاب القواريري بأن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلي سبيله وأصر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما فشدا في الحديد ووجها إلى طرطوس حيث يقيم أمير المؤمنين المأمون.."

هذه بضعة سطور من محنة خلق القرآن كما يرويها شيخنا الطبري في العام الثامن عشر بعد المائتين من الهجرة، وهي واحدة من أكبر المحن التي واجهها المثقف الإسلامي "الفقيه" في علاقته بالسلطة الحاكمة، وبرغم أن القضية بدأت ذات طابع لغوي وفلسفي فإن آثارها لم تقف عند هذا الحد فقد تحولت لتكون رمز لسطوة الدولة وفرضها لرأيها على جمهرة العلماء والفقهاء الذين جرأوا على مخالفتها الرأي. وبرغم أن الشخصية المحورية في هذا المحنة وهو أحمد بن حنبل لم يكن يخالف الدولة في سلطتها السياسية ولا يعارض شرعية السلطان أو يدعو للثورة عليه، فإن هذه السلطان لم يغفر له أنه يخالفه الرؤية الاجتهادية الفقهية، وهي دليل بالغ على العلاقة الحرجة التي شهدها التاريخ الإسلامي كله بين صاحب السيف وصاحب القلم وهي العلاقة التي أقل ما توصف بها أنها كانت تفتقد أي نوع من "الديمقراطية".

بدأت محنة خلق القرآن كما يذكر الطبري في عام 218هـ عندما تبنى الخليفة العباسي المأمون المبدأ الذي رددته المتكلمة كثيرا بأن القرآن مخلوق. فقد كان في هذه القضية موقفان متعارضان، موقف الفقهاء التقليدين من أهل السنة الذين يرون أن كلام الله هو صفة ثابتة للذات الإلهية، لذلك فهو لم يخلق ولم يستحدث لأن له صفة الديمومة والأبدية، أما موقف المعتزلة والمتكلمة الذين تأثروا بالفلسفات والعلوم المستحدثة وقتها بما فيها من جدل وتباين في الآراء فهم يرون أن كلام الله كما أنزل في القرآن هو من جنس كلام البشر يعتمد على الحرف المنظوم والأصوات المتقطعة أي أن الله قد خلقه على هذه الصورة ليفهمه البشر ليست له صفة الديمومة بل إنه محدث أي مخلوق.

وقد ظلت هذه القضية بين أخذ ورد في إطار النخبة من الفقهاء وعلماء الكلام، ولكنها تحولت على يد الخليفة المأمون إلى قضية تحاول الدولة من خلالها أن تبرز سطوتها وأن تقيس مدى الولاء لها. فقد كان عصر المأمون بحق هو عصر الترجمة والانفتاح على الثقافات الأخرى وزوال عقد العصبية القديمة ولكنه كان أيضا عصر الولاية الناقصة لأن نصف المأمون كان ينتمي للفرس من ناحية الأم، وهذا الذي جعل ترتيبه في الخلافة يأتي متأخرا بعد أخيه الأصغر الأمين الذي كان عربيا خالصا. ولكن المأمون لم يرض بهذا الوضع وانتزع الخلافة من أخيه عنوة، وأكد شرعيته على العامة بقوة السيف، وبقي أن يؤكدها على الفقهاء والعلماء بسطوة الرأي.

ولم يكن المأمون في بغداد حين أثار هذه القضية، كان في أحد حروبه مع البيزنطيين عندما قر رأيه بأخذ الدولة بمذهب خلق القرآن وأرسل رسالة مطولة إلى عامله على بغداد إسحاق بن إبراهيم كي يجمع الفقهاء ويستنطقهم، وقد ذكر لنا الطبري نص هذه الرسالة المليئة بالتهديد والوعيد كاملة "وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق، فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسها بالشهادات على الحقوق.. فمن لم يقل منهما إنه مخلوق أبطل شهادته" أي أن الأوامر كانت تتضمن امتحان الفقهاء والقضاة، ومن لم يقر منهم برأي الخليفة عزل عن منصبه أو أودع في السجن. وقد جمع الوالي الفقهاء وأرغمهم على أن يقول كل واحد رأيه في السجن. وقد جمع الوالي الفقهاء وأرغمهم على أن يقول كل واحد رأيه في هذا الأمر.. فمنهم من انصاع بفعل التهديد، ومنهم من حاول المداورة والقليل منهم الذي قاوم ورفض وتمسك بموقفه، ويحكي لنا الطبري عن حوار الوالي من بشار بن الوليد الذي قال له: ما تقول في القرآن، قال: أقول القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟. قال: الله خالق كل شيء. قال: ما القرآن شيء؟. قال: هو شيء. قال: فمخلوق؟. قال: ليس بخالق. هذه المداورة لم تعجب المأمون الذي لم يكن يريد أقل من الاعتراف الصريح المباشر فأرسل إلى عامله مرة أخرى يريد إجابات أخرى، وقد حصل عليها بالفعل إلا من بعض الفقهاء الذين تحملوا ظروف المحنة. لم يكن ابن حنبل وحده هو الذي رفض، لكنه تحول إلى رمز لقوى السنة التي لم تجرؤ على قول رأيها أو المجاهرة بالرفض. لذلك استمرت محنته طويلا، فبرغم موت المأمون، ظل ابن حنبل يتنقل من سجن إلى آخر. وجاء الخليفة الواثق بنفس الرأي فطالت محنة ابن حنبل، ومات الواثق ليجيء المتوكل الذي فكه من قيده أخيرا، وحاول أن يقربه إليه ووهب له مالا ودارا، ولكن ابن حنبل الذي كان قد فقد الثقة في كل السلاطين اعتذر عن كل ذلك وفضل الخروج.

لقد جسدت هذه المحنة نظرة الدولة الإسلامية لمثقفيها. ففي البداية كانت تريد منهم النصيحة التي تستهدي بها في كل خطوة تقوم بها، ولقد انتهى هذا العصر مع انتهاء عصر الخلفاء الراشدين الذي كان قصير الأمد كثير الفتن، ثم أصبحت تريد منهم أن يصدروا الفتاوى التي تؤيد شرعيتها في وجه كل القوة التي تعارضها خلال الدولة الأموية وانتهى الأمر بها إلى محاولة تطويعهم وتدجينهم وفق الآراء التي تصدرها، وهي كلها دلالة على علاقة مشوهة بين الطرفين. والمشكلة أن الدولة لم ترس مبادئها بعيدا عن مبادئ الدين والشريعة، ولم تأخذ استقلالها الدنيوي، لذلك ظل هناك دائما نوع من التداخل والتنازع بين حدود السلطتين، إن كان يمكن أن نطلق لفظ السلطة على مكانة الفقهاء.

هل يمكن أن نقول إن هناك سلطة تدعى سلطة المثقف؟

يحاول الدكتور علي أومليل في كتابه القيم "السلطة الثقافية والسلطة السياسية" أن يقدم الإجابة عن هذا السؤال، وهو يستعرض من خلال الصراع بين السلطتين تطور صفة الكاتب العربي منذ أن كان قارئا مستقلا إلى كاتب في بلاط السلطان إلى أن أصبح فقيها ومشرعا. فهل أتاح هذا التطور فرصة صحيحة لظهور ما نطلق عليه الكاتب بالمعنى الحديث؟

الدور المفتقد للكاتب

يقول أبوحيان التوحيدي: "لم طلبت الدنيا بالعلم، والعلم ينهى عن ذلك، ولم لم يطلب العلم بالدنيا.. والعلم يأمر بذلك؟.." إنه سؤال يعبر عن حيرة هذا المثقف القديم، فهو يرى أن العلم هو أرقى مراحل التفكير وأن على الدنيا أن تدين له بذلك، إلا أن الدنيا - أي المجتمع - تضع نظاما مختلفا للتقويم، فرجل السياسة يقف للعالم - والمقصود هنا هو أن العالم الديني - دائما بالمرصاد لا يجعله يتجاوز نفوذه في قلوب العامة لما له من سطوة في أي حال من الأحوال.

إن هناك علاقة حرجة دائما بين الكاتب ومجتمعه، فهو يرى أنه صاحب رسالة، وعلى المجتمع أن يسعى إليه دوما من أجل هذه الرسالة، ودعوى الالتزام التي انطلقت مبكرا في هذا القرن كانت محاولة من المثقف لتأكيد أهمية هذه الرسالة، وأن لها سلطة خاصة في المجتمع في مقابل السلطة السياسية التي ظلت مهيمنة دائما على مصائر الناس والكتاب من ضمنهم، ولا يستند الكاتب الحديث هنا في سلطته إلى المرجعية الدينية كما كان يفعل الفقهاء قديما، ولكن شرعيته تستمد من قدرته على التجديد وإمداد المجتمع بأفكار التحديث والتغيير، والدعوة ليست مقصورة على أدواته الفنية، ولكنها دعوة تمتد لتشمل المجتمع بأسره كأنه يمثل ضميره وروحه المتجددة ونظرته للمستقبل.

ويرى أومليل أن هذه الدعوة مبالغ فيها بالنسبة للكاتب العربي، فليست لها جذور في تاريخه البعيد الذي يفتقر إلى الديمقراطية مع السلطة السياسية بالإضافة إلى أنه لا يوجد واقع تهيأ بفعل تراكم النضال الثقافي الديمقراطي من أجل الاعتراف بحرية الرأي والحق في الاختلاف والتأثير في القرار السياسي العام، أي أن سلطة الكاتب العربي تتطلب وجود عنصرين مهمين لا بد من توافرهما. أولهما : وجود الكاتب المعبر عن الحداثة والتقدم القادر على الاستقلال عن أية سلطة، وثانيهما: وجود قاعدة من القراء بفضل انتشار التعليم وتطور وسائل النشر والاتصال مبنية على قاعدة اجتماعية لها مصالح محددة، مما يخلق رأيا عاما فعالا يمثل سلطة لها قوة الضغط والرقابة الحرة على مؤسسة السلطة المختلفة.

ولكن كيف نشأ المفهوم الحديث للكاتب؟

لم يتبلور هذا المفهوم وحتى في أوربا إلا في القرن الثامن عشر، ذلك القرن الذي شهد العديد من التطورات الفكرية المهمة حتى أطلق عليه قرن التنوير. فقد كان نتاج هذه التحولات الفكرية قيام الثورة الفرنسية بما تحمله من مبادئ ثلاثة "الحرية والعدالة والمساواة"، وقد اعترف قادة الثورة أنفسهم - ولعل هذا أول اعتراف صريح تقدمه السلطة السياسية - بفضل قادة الفكر وإصرارهم على ترجيح كفة العقل، وإن كان أحد قادة الثورة بعد ذلك انزعج كثيرا من انتقادات هؤلاء المفكرين التي لا تعرف حدودا.

وقد تلقفت دول أوربية أخرى أفكار الثورة الفرنسية بحماس أحيانا، ولكن بتحفظ في أغلب الأحيان. لقد حاول المثقفون الألمان أن يدافعوا عن هذه الأفكار الجديدة وأن يؤكدوا في نفس الوقت أنها لا تمثل خطرا على النظم الإقطاعية القائمة، لكن جيوش الثورة الفرنسية اكتسحت معظم بلدان أوربا حاملة معها أفكار الجمهورية وأذكت وعي مثقفي هذه الدول في إحداث هذه التغيير وتدبيره، وأن لهم رسالة هي مواجهة الاستبداد وتحقيق العدل والتقدم، صادف ذلك ظهور طبقات اجتماعية جديدة خلقتها الثورة الصناعية الأولى.

لقد حدد الكاتب الشهير "فولتير" المفهوم الحديث للكاتب في موسوعة التنويريين بثلاث من الصفات: حاملا للحداثة، ومجددا للصناعة، وداعية للتغيير. أي أنه لم يعد قط فقط النحوي أو الشاعر أو الأديب، بل لا بد أن يكون ملما بحركة التاريخ، يتمتع بروح فلسفية لا تهدف إلى التأمل المجرد، ولكنها روح نقدية تنظر إلى قضايا المجتمع بهدف إصلاحه.

لقد نشأت سلطة الكاتب في أوربا عندما تحرر من سلطة الدولة والكنيسة والبرلمان الذي يتكون دائما من الأعيان، وذلك عند انتشار التعليم وظهور الطبقات الجديدة خاصة الطبقة البرجوازية، وساعد تعليمهم وموقع إنتاجهم في المجتمع على تكوين ما يسمى بـ "الرأي العام"، أو بالأحرى سلطة المجتمع المدني في مواجهة سلطة الدولة. لقد وفر الرأي العام للكاتب سندا جعله يتحرر من تبعيته لجهتين أذعن لهما طويلا هما الحكام والأعيان، وكان ذلك بمنزلة تحقيق للحلم القديم الذي نادى به أفلاطون في جمهوريته أن يحكم المفكر بواسطة أفكاره، وهو نفس الحلم الذي راود فقهاء الإسلام في أن يكون الفقيه هو معلم السلطان ومرشده إلى طرق ناجحة في سياسة الخلق.

من هذا التطور السريع لنشأة الكاتب بمفهومه الحديث نجد أن الكاتب العربي يفتقد أهم عناصره الأساسية، فلا وجود لهذا الكاتب بمعناه الحديث الذي هو رائد الدعوة إلى التغيير، والذي يضع سلطته الخاصة في مقابل السلطة العامة وهو يعول في ذلك على جمهور واسع من القراء في مجتمع مدني تعلو فيه سلطة الرأي العام. فالمثقف العربي لم ينعم يوما بأي قدر من حرية التعبير يجعله قادرا على المجاهرة بمعارضته دون خوف أو خشية من السلطة الحاكمة. إنه يفتقد السند الاجتماعي والطبقة البرجوازية.

لقد خاض الكتاب العرب الكثير من القضايا ما عدا القضية الأساسية التي كان يمكن أن تجعل نضالهم مشروعا وفعالا، ففي الخمسينيات من هذا القرن مع صعود المد القومي انشغلوا بقضايا الوحدة القومية والاشتراكية دون أن يشغلوا أنفسهم بقضية الديمقراطية. فقد اعتبروا لفترة طويلة مجرد لعبة شكلية لبرجوازية مسيطرة، وقد ساهم في هذا ظهور بعض الزعماء العرب ذوي الشخصيات الطاغية والآسرة التي امتلكت حب الجماهير دون أن تؤمن بدورها في تثبيت شكل مؤسسي واجتماعي لآليات السلطة السياسية، وبذلك أتاحت الظرف صعود القوى المتسلطة التي أدت بنا جميعا إلى كارثة عام 1967، وما بعدها من كوارث أعظمها كان في أغسطس 1990.

لذا فقد كان يجب - وما زال يجب - أن يكون نضال المثقف العربي من أجل إقرار الديمقراطية في مجتمعه، لا من أجل قيمتها السياسية والأخلاقية فقط، بل لأنها الوسيلة الوحيدة لوجوده كمثقف واستقلاله، وهي التي تهبه حرية الرأي والتعبير، وهي أيضا التي تشكل من القراء رأيا عاما يسانده، ومأساة مثقف العربي الحقيقية أنه يعمل في ظل أنظمة لا تسمح بتوافر وسائل العمل الديمقراطي، وفي وجوده في مجتمع لم تتبلور قواه الاقتصادية والاجتماعية، فهي دول تستحوذ على مجال العمل العام ولا تسمح إلا بهامش صغير للمجتمع المدني، وهي دول تشكل في الغالب رب العمل الذي يعمل عنده قطاع واسع من الشعب بمن فيه المثقفون. لذا فإنها لا تؤمن بوجود الرأي الآخر، وتجد أن المعارضة حيوان صغير يجب أن يوضع له السم في الدسم.

لذلك فإن النضال من أجل الديمقراطية هو نضال غاية في الصعوبة في عالمنا العربي ولكنه قدر الكاتب لأن هويته لا تتحقق إلا من خلال مجتمع له مؤسسات وتقاليد تتيح له حرية التعبير عن رأيه.

المثقف وأوهامه

وربما كان التفسير الذي يقدمه د.علي حرب لدور المثقف العربي و"أوهامه"، هو الأكثر عنفا في السجال الدائر حول هذه القضايا، ود.حرب يتفق مع الدور الذي يلعبه الكاتب العربي وتأثيره في مجتمعه، ولكنه لا يعيد ذلك إلى أسباب تاريخية أو اجتماعية بقدر ما يعيده إلى القصور في المفكر نفسه وفي بنية الفكر الذي يمارسه، فهو لا يعيب على المفكرين العرب سعيهم اللاهث بهذه الأفكار عن مجتمعهم، حتى أنهم يصبحون بالتالي أكثر تخلفا من ممثلي السلطة السياسية. ويقوده هذا الرأي في أحد مقالاته إلى تفضيل الموقف السياسي الواقعي الذي اتخذه ياسر عرفات عندما قبل جزءا ضئيلا من أرض فلسطين في مقابل الموقف الطوباوي الحالم الذي اتخذه إدوارد سعيد الذي جعله يرفض أي حل واقعي. ولست في سبيلي هنا لمناقشة آراء الدكتور حرب في مجملها، ولكن سوف أعرض صورة لنقده الحاد لما أسماه أوهام المثقف العربي من خلال كتابه "أوهام النخبة أو نقد المثقف.." وهو يؤكد أن هذه الأوهام التي استوطنت عقول النخب الثقافية هي التي تفسر ما آل إليه وضع المثقفين من العجز والإحباط والهامشية خاصة في العالم العربي.

إن العوائق التي تمسك بخناق المثقف العربي تتجسد في أوهام خمسة - كما يراها علي حرب - يرتبط كل وهم منها بأحد المفاهيم التي تكثر في الخطاب الثقافي العربي، وهي الوهم الثقافي ويرتبط بمفهوم النخبة، والوهم الأيديولوجي ويرتبط بمفهوم الحرية، والوهم الأناسي ويرتبط بمفهوم الهوية، والوهم الماورائي ويرتبط بمفهوم المطابقة، أما الوهم الأخير فهو الوهم الحداثي ويرتبط بمفهوم التنوير.

ويعني الكاتب بوهم النخبة أنه عندما يسعى المثقف لينصب نفسه وصيا على الحرية والثورة أو رسولا للحقيقة والهداية أو قائدا للمجتمع، تكون النتيجة أن كل أفكاره عندما يحاول تطبيقها على المجتمع تأتي بعكسها تماما. والسبب في ذلك ليس محاربة الأنظمة له بقدر ما هو عزلته عن الناس الذين يدعي أنه يفكر نيابة عنهم. إن لمطلوب من أهل الثقافة والفكر هو القليل من التواضع والاعتراف بأنهم ليسوا نخبة المجتمع أو صفوته، وإنما يمارسون فيه مهنة مثل سائر المهن عليهم أن يتقنوها بدلا من المباهاة بها.

فالفكر سلاح ذو حدين، يمكن أن يكشف وينير ويمكن أيضا أن يحجب ويضلل، وكلما أوغل المفكر في التجريد انسلخ عن الواقع الذي يريد تغييره وتصبح مشكلته الحقيقية هي أفكاره.

وهم الحرية هو الوهم الثاني الذي يعاني منه المثقف العربي، فهو يعتقد أن بإمكانه تحرير المجتمعات والشعوب من أشكال التبعية والهيمنة أو من شروط التخلف والفقر.

إن المفكر هنا يشغل نفسه بقضايا ليست من صميم عمله. إن عليه أن يشتغل بالأفكار، يفتح منطقة للفكر، أو يصوغ أشكالا فكرية جديدة.

إن انشغال المفكر العربي بقضايا أخرى جعلته جاهلا بأحوال مجتمعه، والدليل على ذلك أننا لا نجد فكرا ذا أهمية حول المجتمع العربي والبشري، ومن لا ينتج معرفة بالمجتمع لا يستطيع المساهمة في تغييره، بل إنه أيضا يفقد قدرته على الفهم والتشخيص.

إن على رجل الفكر أن يتخلص من "تهويماته التحريرية"، فعندما تزدهر مهمة الداعية يتراجع الفكر المتنور ويغلب الترويج والاستهلاك.

أما وهم الهوية يتراجع فهو اعتقاد المفكر أن بإمكانه أن يبقى كما هو متطابقا مع أصوله ملتصقا بذاكرته محافظا على تراثه. إنه وهم يجعله متقوقعا على نفسه عاجزا عن التجدد والإبداع. إن الفكر هو نتاج عالمي، آخذا في التفاعل بين مختلف العقول، وهذا هو السبب الأساسي وراء إثرائه وتجدده، لذا فعلى العامل في هذا المجال أن يشعر بأن انتماءه هو للنوع البشري ككل، أي أنه يمارس فاعليته في البيئة المحيطة به، وفي العالم الذي يعيش فيه أيضا. وعلى المفكر بالتالي أن يكف قليلا عن حراسة هويته وأن يقتحم العالم بفكره شأن الذين سبقوه، فالفلاسفة الكبار قد اخترقوا الحواجز بين اللغات والأقوام والعقائد بالأفكار الجريئة وليس حول الحرية والهوية.

ووهم المطابقة مستحكم في عقول الكثير من المثقفين والمفكرين العرب، يرى أن الحقيقة جوهر ثابت سابق على التجربة متعال على الممارسة، إن هذا الوهم هو الذي أوقع المفكرين العرب في كثير من أخطاء وضع أفكارهم موضع التطبيق، فعندما تعاملوا مع أفكار كالديمقراطية والوحدة تعاملوا معها بوصفها فكرة مسبقة أو صيغة جاهزة للتطبيق والترسيخ.. بل إن علاقة المثقفين البينية هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية.

ففي مواجهة قضية كقضية الوحدة العربية على سبيل المثال تعاملوا معها على أساس أنها شيء مقدس لا بد من حدوثه، وقد أدى بنا هذا المفكر إلى مزيد من التمزق والتشرذم، فالعمل على تحقيق الوحدة كان يجب أن يأتي أولا من الاعتراف بالاختلاف، أي أن الحديث عن كل المذاهب والأفكار كان يجب أن يتأتى من خلال نقد الأفكار وتفكيك الأبنية الذهنية إلى ممارسات سلبية وهامشية.

أما وهم الحداثة فهو من أشد الأوهام حجبا وإعاقة للمفكر عن خلق الأفكار. إنها نوع من التمسك بالأصول وعبادة النموذج والتعلق بالأسماء، والأصولية هي تقويض للتفرد وهي حاجز ضد الخلق والإنتاج، فالتنوير لا يأتي إلا من خلال التجارب والممارسات الإبداعية، والتجربة تستدعي نقد كل النماذج السابقة، والذين يعترضون على نقد الحداثة يريدون من المثقف أن يبقى على هامش الفكر والكتابة، فلكي ندخل في عالم الفكر المعاصر يجب أن نقيم علاقات جديدة ومختلفة مع العقل والتنوير ومع الفكر والنقد.

صرخات الكاتب العربي

يتحدث الكاتب المصري أحمد عباس صالح عن الرقابة الداخلية التي تتولد داخل الكاتب رغما عنه: "مع مرور الوقت أصبح الكاتب يكتب وعيناه على السلطة، أي أنه يكتب لقارئ رئيسي هو رئيس الجمهورية.."، ويتحدث الشاعر عبدالمعطي حجازي عن افتقاده الحرية الحقيقية: "يولد الإنسان حرا، ولكن الشاعر لا يستطيع التحرر حتى يموت.." ويعترف الكاتب الفلسطيني أحمد عمر شاهين: "القاعدة هي التقييد والحرية هي الاستثناء في وطننا العربي.."، كما يعترف القاص المصري إدوار الخراط: "ما أندر ما تتحقق الحرية في بلادنا ومعنى هذا أنه ما أندر أن يتحقق العمل الفني في بلادنا.."، ويتساءل الشاعر أدونيس حائرا: "كيف أحرر الشعري من الشرعي والجمالي من اللاأخلاقي - المؤسسي؟، هذا السؤال مقترن بتساؤل أبعد، لماذا تصر ثقافتنا على أن تسوغ "المابعد" بـ "الماقبل" وعلى تفسير الأول وتقومه انطلاقا من الثاني؟"

ويشخص ألفريد فرج العلاقة المعاصرة بين الكاتب والسلطة: "لم تعد السلطة تطوح بالأدباء في السجون أو في المنافي، ولم تعد تهددهم بقطع الأرزاق، ولكن القفاز الحريري هنا أيضا، وقبضته قوية لا تزال وشرعية الوصاية على ما يقرأ القراء أو ما يكتبه الكتاب فكرة قائمة وباقية.. والخوف باق وقرارات الحرمان باقية.." ويؤكد إميل حبيبي أهمية العقل: "لأمر ما خلقت الأجنحة للطيور والعقول لبني البشر.."، ويتساءل جمال الغيطاني حائرا: "كيف يمكن التعبير عن موقف ضد القهر في ظل وطأة أجهزة القهر عينها..؟"، ويؤكد الكاتب السوري حنا مينا: "إن سلطة الكتابة في تعارض دائم مع سلطة الحكم، هذه تريد إبقاء ما هو قائم وصولا إلى ما يجب أن يقوم.."، ويلقي الشاعر الفلسطيني رشاد أبو شاور باللوم على عاتق المبدع العربي: "المرض والفقر ليسا وحدهما أعداء المبدع، فهناك الجهل والكذب والنفاق والتزوير، والادعاء والتخلف. ونحن المبدعين نعيش - والحمد لله - على كل هذه الأمراض سالفة الذكر، ومعها الرقابة وسلسلة المحرمات.." وتعاود الكاتبة المصرية سلوى بكر الحديث عن رقيبها الداخلي: "إنه يستمد قوته من تراثنا العريق في القمع الفكري، هذا القمع الذي أصبح بمرور الزمن جزءا من نسيج شخصيتنا القومية.."، ويتحدث القاص سليمان فياض عن أزمة الاتصال مع جمهور القراء: "من الذي ينجو بإبداعه؟، وإذا نجا به على الورق فكيف يصل به إلى القارئ، ومن يقدر عل اتخاذ قرار بالبعد عن السلطة والسلطان.."

ويشاركهم الكاتب اللبناني سليم بركات نفس الإحساس اليائس: "نحن مروضون على نحو أو آخر بالسلطة التي تمكن كل قانون من أن يكون مطلقا والملزم بحرفه وانتهاء بالدولة وطوارئها الأبدية، لأن الإنسان العربي مشبوه سلفا، والرقابة تطهير.."، ويتحدث الكاتب العراقي شوقي عبدالأمير عن منفاه: "عبرنا الحدود إلى المنافي كمن يعبر من النوم إلى اليقظة، ننظر إلى الوطن فنرى حذاء الجلاد أكبر التضاريس فيه لا نملك إلى أن ننفخ في الحبر، وهكذا نحن، من فقاعة إلى دفقة، ومن مستنقع أحبار إلى مستنقع دماء نجدف كل يوم، إنما البحر والمجداف والقارب نحن"، ويتحدث عبدالرحمن منيف عن الزمن العربي: "عصرنا العربي الراهن، وها نحن نقترب من نهاية القرن العشرين، هو عصر القمع بامتياز لأنه الصفة الغالبة، ولأنه سد الطرق أمام البحث والحلول التي يمكن أن تنقذ المجتمع أو تخفف من عذابه.."، ويتحدث الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح عن فعل الكتابة والحرية: "كلما شعرت بالواقع المرعب يلف حباله حول عنقي أذهب إلى الكتابة فأشعر معها أنني استرجعت حريتي ولو على الورق.."، ويختلف فعل الكتابة عند الكاتب المغربي عبداللطيف اللعبي: "إن كنت أكتب فلكي لا أزدري نفسي.."، وتؤكد لطيفة الزيات: "الكتابة بالنسبة لي - على تعدد مقاصدها - فعل من أفعال الحرية ووسيلة من وسائلي لإعادة صياغة ذاتي ومجتمعي"، ويقول الشاعر ممدوح عدوان من سوريا ساخرا: "ماذا لو فاجأتنا الحرية ذات صباح؟ ألن تضبطنا متلبسين بنسيانها أو بخيانتها؟ فلقد تعودنا غيابها حتى أننا سنرتبك في حضورها ولعلنا سنضبط أنفسنا ونحن نتمنى لو أنها لم تجئ.."

هذه بضع من صرخات الكتاب العرب وتأوهاتهم، ولا أستطيع أن أحصي الباقي والمكبون في العيون. بعضها يلقي العبء على السلطة وبعضها يمارس جلد الذات، ولكنها تدل في مجملها على حالة عدم التوافق الذي يعيشه الكاتب في مجتمع وتعطينا أيضا دلالة على أسباب ضآلة التجديد والإبداع في هذا الفكر العربي. إنها صورة قاتمة بعض الشيء، ولكنها في حاجة إلى العمل من أجل تعديلها، وأعود للقول كما قلت قبلا، أكثر من مرة..

لا سبيل لنا إلا بالسعي من أجل الديمقراطية لإنقاذ أنفسنا أولا، وإنقاذ فكرنا ثانيا. ثم فوق ذلك القيام بحركة نقد لكل المحرمات.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات