الأثر الخلدوني.. هل كان محدودًا?

الأثر الخلدوني.. هل كان محدودًا?

بدأت العناية بالأثر الخلدوني في الأزمنة المعاصرة من طرف الجامعات ومؤسسات البحث الغربية, وقد ظل ابن خلدون إلى حدود سنة 1835 معروفًا بواسطة بعض المقتطفات ذات الحدوس النظرية القوية, المستلة على وجه الخصوص من كتاب (المقدمة).

لقد اعتنى الباحثون الغربيون في مرحلة لاحقة - وفي سياق حسابات سياسية وعسكرية محددة - بالأجزاء المتعلقة بتاريخ البربر, وترتب عن ذلك بصورة غير مباشرة عملية دمج الأثر الخلدوني في المعرفة الكونية. بل إن الأمر تجاوز ذلك, حيث حرص بعض الباحثين الغربيين على تمجيد العناصر والمعطيات النظرية ذات الطابع العقلاني والوضعي في نصوصه, وأنجزت في سياق ما سبق عمليات في المماثلة بين آثاره والآثار النصية للرواد من مؤسسي العلوم الإنسانية. فترتب عن هذه المماثلات أننا أصبحنا أمام مفكر يتمتع بامتياز احتضان نصوصه داخل سياق مدارس الفكر الغربي المعاصر, وذلك بالرغم من انفصال مسار تشكل خطابه عن مسارات تبلور خطابات التاريخ والمجتمع والاقتصاد ثم الأنثربولوجيا في الأزمنة الحديثة والمعاصرة, وبالرغم من سيادة نزعة التمركز المعرفي الغربي, التي واكبت كما هو معروف ميلاد الظاهرة الإمبريالية.

إن الافتتان الذي أبداه الفكر الغربي بالأثر الخلدوني سابق على العودة إلى نص (المقدمة) التي تمت في العالم العربي الإسلامي في مطلع القرن العشرين, حيث نشرت (المقدمة) في كل من مصر والشام في نهاية القرن التاسع عشر. وعمل الشيخ محمد عبده (1847 - 1905) على تدريس بعض فصولها في جامعة الأزهر, منوهًا بالقيمة المعرفية التي تتضمنها. وقد تمم محمد عبده بموقفه هذا الحظوة التي تمتعت بها بعض مفردات القاموس اللغوي والمفاهيمي للخطاب الخلدوني, في الفكر الإصلاحي الناشئ في القرن التاسع عشر في فكرنا المعاصر, حيث استحضرت (مقدمة أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) لخير الدين التونسي (1822 - 1889) في سنة 1867 كثيرًا من علامات هذه اللغة, بل وكثيرًا من أبعادها الوضعية, وهو الأمر الذي يعبر عن نوع من الاستعادة الرامية إلى احتضان, ما يعتبر في تراثنا, اللغة الأقرب إلى مقتضيات روح الأزمنة الحديثة.

يتبين مما سبق أن اكتشاف (المقدمة) مثل اكتشاف كثير من الظواهر النصية في تراثنا يعتبر ظاهرة غربية موصولة بقضايا المعرفة والهيمنة والسياسة والتاريخ, وهي القضايا المرتبطة بدورها بأسئلة التأخر والنهضة في عالمنا المعاصر. من هنا ستبدأ عملية العودة إلى الأثر الخلدوني, أي أننا لم نعمل على إنجاز عمليات في الاسترجاع التاريخي الموضوعي لجوانب محددة من تراثنا, بل إن تعاملنا مع ظواهر تراثنا النصية والحديثة, سيكون منذ البداية تعاملاً منهجيًا ووظيفيًا, حيث شكلت المعطيات النصية التراثية وسيلة من وسائل محاولة تعقل الحاضر بالماضي, وتسخير الماضي في الحاضر.

وفي سنة 1925 ستصدر باللغة العربية أطروحة د.طه حسين مترجمة على يد عبدالله عنان بعنوان (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية, تحليل ونقد), وذلك بعد صدورها بالفرنسية سنة 1917, وسيدشن صدورها اكتشاف الفكر العربي لواحد من أبرز مفكرينا. ومعنى هذا أن عناية الفكر العربي بالأثر الخلدوني حصلت بعد مرور قرن كامل على اهتمام الفكر الغربي بالمقدمة والتاريخ الخلدونيين. ثم تتابع بعد ذلك الاهتمام بالتصورات والمفاهيم والأدوات المنهجية التي ركب ابن خلدون بواسطتها عمله في نصوصه المعروفة والمتداولة نص (المقدمة) و(تاريخ العبر...) ثم (شفاء السائل لتهذيب المسائل).

وقد تحول الأثر الخلدوني في النصف الثاني من القرن العشرين إلى ظاهرة ثقافية لافتة للنظر في الفكر العربي, تمثل ذلك في عناية أغلب الجامعات العربية الفتية بالعودة إلى هذه الآثار. وأنجزت شهادات جامعية عديدة عن أعماله, نذكر من أبرزها أطروحات الباحثين الذين تميزوا بحضورهم الفكري الوازن في ثقافتنا المعاصرة, ومن بينهم: ناصيف نصار ومحمد عابد الجابري وعلي أومليل وبنسالم حيميش. كما نذكر من بين أشهر الأعمال التي قدمت في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية, أطروحة محسن مهدي في الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان (فلسفة ابن خلدون التاريخية) (1957), وأطروحة إيف لاكوست في فرنسا وقد نشرت بعنوان (ابن خلدون ونشأة التاريخ في العالم الثالث) (1966) وأطروحة عزيز العظمة في بريطانيا وعنوانها: (تاريخية ابن خلدون وتاريخيته (1981), هذا دون أن ننسى عشرات الأطروحات والندوات التي ما فتئت تنجز حول الآثار الخلدونية في الجامعات العربية والغربية.

ينبغي ألا نغفل هنا العناية التي أبدتها بعض مراكز البحث في العلوم الإنسانية في أوربا وفي العالم العربي بالمفاهيم الاجتماعية والتاريخية التي شكلت الأدوات النظرية المبنية والمستوعبة في أعماله. فقد اعتبر كثير من علماء الاجتماع والتاريخ والإنثربولوجيا على وجه الخصوص أن الأدوات التي استخدمها ابن خلدون وهو يبني تاريخه ويفكر فيه, تساعد في عملية الإمساك بكثير من وقائع التاريخ, في العالم الإسلامي. إن الإجرائية والمرونة, التي تتمتع بها كثير من مفاهيمه تعود إلى أن مختبر اكتشافها يختلف عن النخبة الذي تبلورت في إطاره مناهج العلوم الإنسانية في لحظات تشكلها في العالم الأوربي الحديث والمعاصر. ومن هنا أهمية المنتوج النظري المنهجي الخلدوني في مقاربة إشكالات وظواهر التاريخ والحاضر العربيين, بحكم انبنائها استنادًا إلى معاينات مرتبطة بدورة التاريخ الحدثي والمعرفي القومي في صيرورته الخاصة, الموصولة ببنياته التاريخية العميقة.

وهناك أفق آخر عزز هذا المنحى في عملية استعادة الخلدونية ومنحها صوابية استثنائية في فكرنا المعاصر, يتعلق الأمر بالنزوع الفكري الإصلاحي الذي يروم دعم ما يعتبره مكونات ذاتية في التعامل مع المعرفة, وذلك للتمكن من مواجهة التحديات التي تفرضها نوعيات الصراع الدائرة في العالم اليوم, حيث يشكل الأثر الخلدوني مع نماذج فكرية أخرى مضيئة بقوة حدوسها النظرية, وآليات اشتغالها المنهجي أفقًا لاستعادة ما يُعطّل التبعية المعرفية والثقافية, ويتيح إمكان إعادة تأسيس المجال المعرفي العربي في استقلال عن الإكراهات المبطنة في المعارف والمفاهيم المنقولة من تاريخ صيرورة المعرفة العلمية في الفكر الأوربي. ويتضمن هذا التصور خلفية أيديولوجية ترى في العناية بالآثار الخلدونية ومحاولة تطويرها فضاء لتطوير كفاءة الفكر العربي في تعقل ذاته ومجتمعه وتاريخه.

الاستمرار التاريخي

لم يكن بإمكان استعادة ابن خلدون في فكرنا المعاصر أن تتخلص من البعد الذي عمل على توظيف مكاسبها في معارك النهضة العربية, فقد عكس الاهتمام بآثاره مجمل السمات التي اتسمت بها ظاهرة العودة إلى التراث في حاضرنا. ونستطيع أن نتبين في كثير من القراءات التي تناولت أعماله بالبحث والدراسة السمات المعروفة في صور الموقف من التراث كما تشكلت في فكرنا المعاصر. نحن نشير هنا بالذات إلى صور التمجيد والانتقاء, إضافة إلى العديد من المماثلات التي أقيمت بين نصوصه ومفاهيمه وأدوات اشتغاله ونصوص ومفاهيم ومنهاج الأجيال الجديدة من رواد العلوم الإنسانية, حيث بنت المماثلات المذكورة كثيرًا من عمليات القفز على مقتضيات الأزمنة, ومتطلبات منطق التراكم في مجال صيرورة وتطور البحوث والمجالات العلمية.

ترتب عن الإعجاب المفرط والحماسة الزائدة في مجال الموقف من التركة النظرية الخلدونية أن أصدر بعض الباحثين كثيرًا من الأحكام القاطعة عن ريادة ابن خلدون لكثير من العلوم الإنسانية, وهو أمر فيه الكثير من الشطط الذي لا يجد السند ولا الدليل الكافي, لا في الأثر الخلدوني, ولا في السياق المعرفي والتاريخي, الذي تبلور وتطور في إطاره, ونقصد بذلك معطيات الفكر الإسلامي في عصورنا الوسطى.

نحن نفهم هذه النزعة في إطلاق الأحكام التمجيدية على بعض الجمل أو الفصول المختارة من (المقدمة), والمعزولة عن فضائها النصي والإشكالي العام, باعتبارها تتجه لبلورة رد فعل تعويضي على مختلف صور التنقيص والتقزيم, التي مورست في الفكر الغربي على تاريخ الأفكار المغاير لصيرورة تاريخها. فقد عملت المركزية الثقافية الغربية على النظر إلى تاريخ الفكر الغربي باعتباره المرادف لتاريخ الفكر بإطلاق. وفي هذا الأمر من المغالاة التي لا يمكن أن تفهم إلا في إطار إرادة مكشوفة في الهيمنة ما لا يخفى على فطنة المشتغلين بتاريخ الأفكار, وصور المثاقفات الحاصلة في التواريخ المتباعدة والمتقاربة, المختلفة والمتجانسة في التاريخ الإنساني, بمختلف تياراته ومشاربه وعهوده.

وقد حصل لاحقًا تجاوز المواقف المذكورة, وأصبح تاريخ الأفكار المقارن يسمح بإنجاز المقاربات التي تنظر إلى التنوع والاختلاف في تاريخ المعرفة كموضوع للتعقل الموضوعي, المستوعب للظواهر الفكرية خارج عمليات التوظيف الأيديولوجي والإقصائي التي تتوخى إصابة أهداف أخرى غير البحث الموضوعي في إشكالات تاريخ الفكر وصور تقاطعه وتكامله وتجاوز بعضه بعضه الآخر.

نتصور أن أفضل وسيلة لضبط علاقاتنا المعرفية والتاريخية بمنتوج ماضينا الرمزي تستدعي إعادة بناء حدود الأثر, الذي نعنى به, فقد أصبح من المؤكد اليوم أن للأفكار أطرًا تاريخية معرفية ولغوية وعملية مضبوطة, أطرًا تصنع لها فضاء حركتها وتطورها, وهو الأمر الذي يعني بالضرورة أن النظريات والإبداعات الكبرى في مجالات المعرفة المختلفة لا تستطيع مهما بلغت من درجات التمثلات العقلية الاستثنائية لموضوعاتها ونصوصها أن تتخطى العتبات والحدود التاريخية والنظرية التي تعين لها سقفًا معينًا للحركة والإبداع. صحيح أن الحدوس الفكرية والفلسفية الكبرى في تاريخ الإنسانية, كانت ولاتزال تمتلك القدرة على نوع من اختراق الإطار والسقف الناظم لصيرورة المعرفة وتشكلها في زمانها الخاص والأزمنة التي تليه, إلا أن بعض الاستثناءات النادرة, التي تندرج في سياق ما ذكرنا لا تقبل التعميم. ومن هنا أهمية وضرورة إنجاز معاينة موضوعية للأثر الذي بلوره ابن خلدون, فقد تتيح لنا هذه المعاينة إسقاط عامل التضخيم أو التحجيم الذي مورس على نصوصه, كما مورس على كثير من الظواهر التراثية الأخرى في تاريخنا وفي تاريخ ثقافات أخرى, تحت ضغط عوامل متعددة.

نحن هنا نتحدث عن التاريخ بمعيار صوغ الحدود والنواظم, التي تضع الأثر في سياق محدد, وتمنحه مزايا السياق دون أن تغامر بحمله على القفز على الأزمنة ممارسة بذلك كثيرا من عمليات السكوت على ما لم يتمكن الأثر من التفكير فيه بحكم الشروط المؤطرة لوجوده ولنمط معرفته وكتابته.

أما الأطروحات التي عملت على إعادة تعيين بعض مفاهيم ابن خلدون وأطروحاته ومفرداته, فقد بنت أعمالاً استلهمت فيها الأثر دون عناية بمنطقه الداخلي, فتحول الأثر الأول إلى دليل عمل أعيد تركيبه في ضوء أسئلة جديدة ومضامين جديدة, ولم يعد جزءًا من الأثر النصي الخلدوني في تاريخيته, بل تحول إلى جهد جديد مشترك, جهد متطور مقارنة مع محتوى الأثر الأول. إن الأثر الثاني المستلهم للمفردة - أو المفهوم الخلدوني - أصبح نصًا جديدًا يقتضي الأمر الاعتراف, ودون تردد, بصعوبة إعلان نسبه إلى ابن خلدون. لقد تحول الاهتمام بالخلدونية في كثير من الأبحاث والدراسات السوسيولوجية والأنثربولوجية الجديدة في الجامعات العربية والغربية إلى مناسبة نصية مساعدة في عملية التفكير التي تتوخى منها مزيدًا من ضبط محدودية ومفارقات النص الخلدوني في فكرنا المعاصر. وقد اتجهت أبحاث أخرى في مجال التاريخ في لحظات قراءتها للتاريخ الكوني الخلدوني إلى تركيب أمثلة قوية على قوة المنجز النظري الخلدوني ومحدوديته في الآن نفسه, وهو الأمر الذي نتجه لتقديم جوانب منه, لإبراز مستويات أخرى من صور حضور الخلدونية في فكرنا.

السقف التاريخي

يسمح تعيين الحدود الناظمة للأثر الخلدوني معرفيًا وتاريخيًا بالتخلص من فكرة أن يكون بإمكان آثاره أن تكون معاصرة لنا. فلم يتمتع النص الخلدوني بالجدارة التي تمتع بها الأمس واليوم, إلا بحكم الصلات العميقة التي ربطت بينه وبين زمانيته المفتوحة على أزمنة سابقة وأخرى لاحقة, في إطار ما يتمتع به النظر من كفاءة الرسوخ في الزمن, وكفاءة تخطي البعض منه لحدود الأطر الناظمة بفعل ومفعول قوته, وبفعل استمرار البنيات التاريخية القابلة لإمكان الفهم والتعقل بواسطة ما تتيحه وسائله المنهجية.

ونحن نتصور اليوم أنه لا أحد يجادل في المكاسب النظرية الكبرى التي بناها ابن خلدون في كل من مقدمته وتاريخه, وذلك دون إغفال التنصيص على نسبية الحكم الذي أصدرنا حيث تنبغي الإشارة إلى التناقضات الداخلية, العديدة التي تكشف عنها عملية معاينة نصوص آثاره يمكن أن نذكر هنا على سبيل التمثيل بالوقوف على كثير من عناصر غياب الاتساق والتماسك في خطابه, وخاصة عندما نقف على الفصول والمفاصل النصية التي تتمتع في أعماله بمواصفات الكشف العميق والإبداع الموصول مع منطق ولغة أزمنة مختلفة عن زمانه. دون أن يتضمن الحكم الأول والمراجعة التنسيبية الثانية أي حكم قيمة تنقيصي, فنحن نتصور أن النصوص الفكرية القوية في تاريخ الفكر الإنساني على وجه العموم تستوعب بصيغ وأساليب متنوعة أنظمة في التركيب المتناقض والكاشف عن جوانب من منطق الأفكار والإبداع, كما حصلت وتحصل في تاريخ النظر الإنساني.

نكتشف في الأثر الخلدوني نظرية في التاريخ, كما نتبين الملامح العامة لطبائع العمران والاجتماع, وتقدم نصوصه في باب التاريخ الكوني كما تصوره وركبه, وفي المجتمع كما رسم ملامحه العمرانية, من خلال عمليات تمحيصه للأخبار, ومراجعته لأعمال التاريخ السابقة عليه, سواء تلك التي اعتمدها سندًا أو التي عمل على مراجعة نمط تاريخها, تقدم هذه النصوص جملة من العناصر الدالة على جهد في التركيب والتنظير المستندين إلى مرجعية محددة, ومراجعة تواريخ محددة, تواريخ موصولة بمنطق معين في مقاربة وقائع الأحداث الاجتماعية والسياسية, كما تصنع في دوائر الأزمنة السابقة عليه, والأزمنة التي بلور منجزه النظري في صلبها.

إن قيمة المقاربة التاريخية لابن خلدون كما بناها في (كتاب العبر..) تتجلى في نزعته الرامية إلى فتح طريق العقل التحليلي على الحوادث التاريخية, وذلك بهدف الإحاطة الساعية إلى تركيب عمليات في التحقيب قابلة للتعقل والفهم, دون أن يعني هذا بالضرورة قبول النموذج التحقيبي المحايث لتاريخه, فنحن هنا نسجل ملاحظة تشير إلى كفاءاته في بناء نموذج نظري في تحقيب مسار الملك والسلطة في العالم القديم والعالم الإسلامي, وهو تحقيب قدّم في زمنه وفي الأزمنة الموالية له صيغة معينة في باب تعقل تاريخ إعمار الدول استنادًا إلى محاولة في التركيب مبدعة, محاولة مستوعبة لكثير من قوانين التاريخ المحلي, وقابلة للتعميم في حال توافر شروط مماثلة للشروط المحددة لقواعد النظر والمعاينة التاريخية المعتمدة فيها.

أما مفهوم العصبية الذي استعان به ابن خلدون, وهو يحاول فهم وتعقل التاريخ الدائري للدول التي تعاقبت في التاريخ الإسلامي, فإنه يقدم بدوره نموذجًا لآلية في التفسير مؤسسة على أمثلة محددة منحتها الرجحان والمصداقية المطلوبة في عملية تفسير مماثلة, حيث يحصل الاقتناع بجدوى المفهوم وبكفاءته التفسيرية, بناء على الوقائع والمعطيات التي توكد محتواه, وتحدد درجات معياريته النظرية والمنهجية.

لقد تم استيعاب الاجتهادات الخلدونية عن طريق المحاولات, التي اتجهت لإيجاد نوع من العلاقة بينها وبين مكاسب دروس الفكر الفلسفي الحديث المعاصر, فتم النظر بناء على ذلك إلى ابن خلدون باعتباره مفكرًا وضعيًا, كما صنف في عداد المفكرين الماديين, وتناسى أو أغفل الذين عددوا عبقرياته مدرجين جهوده في خانات المذاهب الفلسفية المذكورة, تناسوا أن للمنزع الوضعي والمنحى المادي والواقعي في تاريخ الفلسفة مواصفات معينة لا ينبغي إغفالها عند إنجاز عمليات التصنيف والتوصيف المعرفي الذي يتوخى الدقة في الحصر والترتيب, حتى لا تضيع حدود المفاهيم وتختلط المعطيات المؤسسة والمدارس الفكرية في التاريخ.

لا جدال في قوة منجزات الأثر الخلدوني في سياق تطور الفكر الإسلامي, والمقارنات التي يمكن أن تعقد بين تصوراته للعمران والقبيلة والعصبية والتماسك الاجتماعي والتاريخ الدوري والتحقيب بالنموذج النظري, وبين تصورات الفكر الإسلامي والفكر اليوناني ومأثور الفرس, يمكن أن تقوم بحساب ووفق شروط محددة لا تغفل دور التواصل والمثاقفة الحاصلة بين الثقافات في التاريخ. وفي معاينة المماثلات وصور التباعد التي رتبها جلنر وهو يقارن بين بعض المعطيات النظرية لأفلاطون, وتصورات ابن خلدون, ما يكشف كثيرًا من عناصر التقارب والتباعد, كما يكشف جدوى المقارنة بحكم تقاطع وتداخل مستويات التصورات في دائرة الفكر القديم.

وفي السياق نفسه تشكل المقاربة التي رتبها عبدالله العروي في بحثه المقارن بين (ابن خلدون ومكيافيلي) سنة 1979 في لحظة رصده للمرجعية الأرسطية المشتركة بين المفكرين, حيث عمل على تأطير جانب من نصوصيهما انطلاقًا من الحضور الذي يتمتع به الأثر الأرسطي في أعمالهما, وفي وجهتهما النظرية والمنهجية العامة, وذلك انطلاقًا من الحضور النظري والرمزي البارز الذي تمتعت به أعمال أرسطو في تاريخ الفكر في العصور الوسطى حتى بدايات عصر النهضة الأوربية, وذلك قبل ميلاد المجتمع الحديث وثورات العلم الحديث.

أما المقارنات والمقاربات التي تقرأ النص الخلدوني وحدوسه في المعرفة التاريخية والعمرانية بمنطق ومفاهيم العلوم الإنسانية كما تبلورت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, فإنها تمارس عمليات في الخلط النظري والقفز التاريخي الذي ينطوي على كثير من المغامرة. ولا نتصور أن نتائجه يمكن أن تكون مفيدة في تاريخ الأفكار المقارن. فمن المؤكد اليوم أن لغة ومنطق ومفاهيم العلوم الإنسانية كما تبلورت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, فإنها تمارس عمليات في الخلط النظري والقفز التاريخي الذي ينطوي على كثير من المغامرة. ولا نتصور أن نتائجه يمكن أن تكون مفيدة في تاريخ الأفكار المقارن. فمن المؤكد اليوم أن لغة ومنطق ومفاهيم العلوم الإنسانية كما تبلورت في التاريخ المعاصر, كانت تستند إلى منظور العلوم الطبيعية وتقتدي بمناهجها, إضافة إلى اعتمادها على الرؤية الفلسفية المتضمنة في الرهانات التي أطلقها العلم الحديث والفلسفة الحديثة في مجال نظرة الإنسان للطبيعة والمجتمع والتاريخ.

غالبًا ما نكتشف في المساعي التي تروم منح الأثر الخلدوني امتياز النص المخترق للأزمنة وأنظمة المعرفة جملة من المقدمات التي لا علاقة لها بالمكاسب الفعلية لهذا الأثر. وإذا كان التماثل بين بعض الحدوس النظرية والمقدمات العامة, يعتبر أمرًا مؤكدًا في تاريخ الأفكار, وخاصة داخل دائرة الحقول التاريخية المتميزة بأنظمتها المعرفية وقواعدها النظرية المتجانسة, فإن المغالاة في افتراض التجانس المطلق بين أنظمة الفكر المختلفة يغفل بعض دروس منهجية تاريخ الأفكار التي بلورتها حفريات ميشيل فوكو ومفاهيمه في درسه الافتتاحي في الكوليج دوفرانس في موضوع (نظام الخطاب), (1969), حيث كشف بكثير من الدقة والوضوح صور التركيب والتمايز التي تعرفها أنظمة الفكر خلال مراحل التاريخ المتنوعة والمتطورة.

 

كمال عبداللطيف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات