تغريبة بني هلال بين التاريخ والأدب

تغريبة بني هلال بين التاريخ والأدب

من حافة الحقيقة إلى خيال الشعراء, تحولت رحلة بني هلال, إلى ملحمة باقية في ذاكرة الوجدان العربي.

في مجرى المراودة مع الحلم العربي, مثلت التغريبة الهلالية صنفًا متميزًا من المأثور, ليتصل بالتاريخ كواقع, يشتمل على ما جرى (للهلايل), حين غادروا أرضهم في نجد إبان القرن الخامس للهجرة (الحادي عشر الميلادي), ونزحوا إلى تونس, ويتصادى مع الإبداع الأدبي كمتخيل يمتاح من ذاكرة هذا التاريخ, فيستقل عنه ولكن به, ليقيمه مادة تشكيل أدبي, وينشئ منه التاريخ, الذي تصبو إليه هذه الجماعة, كمتْن أرّخت فيه وقائعها, وفنّ صاغ حاجة وجدانها, لا يهم تراسل الأحداث فيه بقدر ما توحي الدلالة, كي يمكن لمتلقّيه أن يثيره التاريخ, وتمتعه البلاغة, ويستثير ما كان عليه الحال بين الماضي والحاضر.

* إضاءة:

ونبدأ بسؤال ماثل: ماذا عن أحداث التاريخ في الفترة التي دارت فيها التغريبة?

إن كلمة مغرب تشير إلى مجمل المناطق الواقعة غربي وادي النيل, وتتوزع منذ القديم, وبحسب التقليد الروماني إلى مقاطعات ثلاث: إفريقيا ونوميديا, أي بلدان تونس وقسنطينة الأكثر تحضرًا, وعاصمتيهما تونس وقسنطينة, وبعدهما القيروان, والمغرب الأوسط وعاصمته تلمسان, وهو مقاطعة فقيرة تقتصر الحياة الحضرية فيه على التل الوهراني الضئيل, والذي تقاسمته الجزائر ومراكش الشرقية تاليا, وأخيرًا المغرب الأقصى, ويضم ما وراء جبال الأطلس, وهو منطقة معزولة عن باقي المغرب, تتجه نحو المحيط الأطلسي وشبه جزيرة أيبيريا, وعاصمتها فاس ومراكش.

وخلال القرن الحادي عشر الميلادي, الذي شهد أحداث التغريبة, وقعت في أوربا حروب إقطاعية هيأت لفكرة التوسع في الشرق, وغذّتها حركة الاستردادٍRiconcquisto, التي قامت في إسبانيا لاستعادة الأراضي, التي دخلها العرب, واستولى النورمانيون على صقلية سنة 1702, وانتزعت طليطلة من أيدي المسلمين سنة 1085, ونظم البابا أوربان الثاني حملة على الشرق, بدأها سنة 1095 بطرح برنامج موسّع لتوحيد الفرسان, بهدف فتح البلدان الشرقية, تحت شعار الحرب ضد (الكفار) المسلمين, الذين دمّروا, في زعمه, الكنائس, واجتاحوا مملكة الرب (بيزنطة), تحريرًا لقبر السيد المسيح والأماكن المقدسة من السيادة الإسلامية, لتنضج في هذا السياق فكرة الحرب الصليبية.

وفي المشرق العربي, وتحديدًا في بلاد الشام, كان الصراع المذهبي على أشدّه بين دعاة الخلافة العباسية في بغداد, من قبل السلاجقة, ودعاة الخلافة الفاطمية, فيما بدأت الخلافة العباسية تضعف, بعد أن وصلت إلى عصرها الذهبي خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين, أيام هارون الرشيد والمأمون.

وعقب أحداث التغريبة, وتدفق العشائر العربية إلى أرض المغرب, التي اكتسحتها الحياة البدوية, تداخلت بفعل هذا التدفق الحضارتان العربية والأمازيغية, وذابت الحدود بين منطقتي الساحل الشمالي الزراعي والصحراء الجنوبية الرعوية, تلك التي كرّسها الرومان ببناء خط عرف بخط (اللّيم).

* الرحلة:

يذكر التاريخ أن قبيلة بني هلال, كانت تستوطن الجزيرة العربية منذ العصر الجاهلي, حيث انتشرت منازلهم بين الطائف وضواحي مكة, وكانوا منذ القديم يمارسون حياة محفوفة بالمخاطر, كبدْو رعاة في منطقة طالها الجدْب والجفاف سنوات طويلة, ويشتهرون باهتمامهم بفن الشعر, وإقامة مسابقات له خلال فترات الهدنة, وتوقف القتال, وجاورتهم من جهة الشمال, قبائل بني عمهم سليم حتى مشارف المدينة غربي جبال نجد, وتنتسب هاتان القبيلتان, هلال وسليم, إلى أصلين كبيرين هما: هوزان بن منصور ويسلم بن منصور.

ومع اشتداد الجفاف, هاجرت أعداد كثيرة منهم إلى مصر خلال القرن الرابع الهجري, فرأى الحاكم الفاطمي في القاهرة أن يحثّهم على التوجه إلى إفريقيا أو تونس حاليًا. وقبل أن يفعلوا, اتصل شيوخ منهم بالأمير المعزّ بن باديس الصنهاجي, في مقدمتهم مؤنس بن يحيى الرياحي, الذي احتل مكانة مرموقة في بلاطه. وحكى المؤرخون سبب النفرة, التي وقعت بينه وبين المعز, فقالوا إن المعز طلب من مؤنس أن يستجلب بني عمومته من هلال ليلحقهم بجيشه, فرفض مؤنس ذلك, متعلّلاً بأن بني عمومته لا يذعنون لأي قائد, ولا تردّهم قوة عن النهب والإفساد, فاتهمه المعز بأنه أناني يريد الاستئثار وحده بالجاه, فغضب مؤنس وذهب لاستجلاب بني عمومته, وفور وصولهم امتلكوا بلاد المغرب, واقتسموها بينهم, وإن استقر معظمهم في تونس, ذلك أن اسم تونس يثير حلمًا بوفرة الطعام والمياه والخضرة, إذْ ليس من مكان آخر يحلم به هؤلاء البدو, وهم يسرعون الخطى في مشوارهم الطويل, ومعهم قطعان ماشيتهم الهزيلة, سوى (تونس الخضرا) أو (تؤنس) على ما تحمله هذه الكلمة من صفات الازدهار والبركة والحسْن.

وحين لاح للمبدع الشعبي أن يسجل هذه الرحلة, لم يجد سوى مسمى التغريبة كعلامة واسمة لنصه. فهي تغريبة لأنها رحلة تجاه الغرب, ولأنها كذلك غربة عن الوطن, وغرابة للأهوال التي كابدها الهلايل في طريقهم إلى تونس.

وما لبثت التغريبة حين استوت, أن انتشرت من منطقة واسعة من المشرق العربي إلى مغربه, من شبه الجزيرة العربية, ومن سورية إلى المحيط الأطلسي, ومن الشمال إلى الجنوب, من شواطئ البحر المتوسط إلى إفريقيا جنوبي الصحراء, لتشمل السودان وتشاد والنيجر ومالي ونيجيريا. وكلما انتقلت من منطقة إلى أخرى, كانت تتنوّع طرق انتشارها وصيغها وشواهدها, بما جعلها قابلة للتشكّل في كل عصر, من حيث تعدد وجوهها ومراميها.

* الواقعي والخيالي:

ولإضاءة - أو على الأصح لتكثيف إضاءة - نقطة التمفصل بين التاريخي والأدبي في هذه التغريبة, يمكن القول إن مصطلحها يغطي معنيين: الأول يتصل بها كتاريخ, أو كواقع يشتمل على مشاهد مما جرى بين المشرق العربي ومغربه من أحداث وصراعات, فيما يتجه المعنى الثاني إلى التغريبة كمتميز أدبي, ينهض من متخيل, ويمتاح من ذاكرة التاريخ العربي, فيكسبه وجودًا فنيًا حين يغلّب الطابع الذوقي على صياغته, وينشئ منه التاريخ, الذي تتمناه الجماعة العربية في وحدتها, لا تهم الكرونولوجيا فيه بقدر ما توحي الدلالة, ويثير الموقف الوجداني, ذلك أن المبدع الشعبي, وهو يعيد إنتاج تاريخ وقائع التغريبة, لم يهتم كثيرًا بأحداثها المرصودة وأمكنتها المخصوصة وشخوصها التاريخية, ولا بالتتابع الزمني في سياقه التاريخي الفعلي, وإنما استوحى ذلك كله من صوغ الوقائع واستلهام الأحداث, دون أن يحدّه التاريخ, أو يوقفه سند من الإسناد, فما يهمه هو روح التاريخ وجوهره وفلسفته, تلك الفلسفة, التي تعطيه مفاتيح تاريخ آخر مغاير.

ويزيد من التغريبة عن تاريخها الفعلي, أنها تعكس رغبة في الحلم بالنصر أكثر مما تترجم واقعًا, وهو ما يتضح من كل السير الشعبية العربية, وضمنها التغريبة كحلقة من حلقات السيرة الهلالية.

وقد مثلت هذه السير تعبيرًا حيّا عن جماع قيم الجماعة العربية, حين طرحت كل سيرة منها قضيتها المحورية الخاصة, في إطار القضية القومية الأساسية: فالسيرة النبوية, التي اتسعت فجمعت سير الأنبياء قبل الإسلام, ظهرت تعزيزًا لشأن النبوة, ودفاعًا عن العقيدة, وسيرة عنترة رفعت من شأن الصفات غير العرقية كالفروسية تأكيدًا لانتماء العربي, وسيرة الملك سيف بن ذي يزن, جاءت تعبيرًا عن تحرير الدين من الموروثات السحرية, وسيرة الأميرة ذات الهمّة, قدمت المرأة العربية الوفية لزوجها وقومها, وسيرة حمزة البهلوان عبرت عن توحد القبائل العربية في مواجهة خطر الأعاجم, وسيرة الظاهر بيبرس, أصّلت مفهوم العروبة بالرغم من اختلافات المنتمين إليها.

على أن حلول التاريخ في السياق الأدبي لهذه السير أوجد إشكالية أساسية, حدت بالباحث التونسي حمادي صمود أن يتساءل: هل الإشارات التاريخية الواردة في نص أدبي قادرة على الاحتفاظ بطاقتها الإرجاعية وقيمتها الوثائقية? قادرة على مقاومة طموح الأدب, إلى أن يتمثلها ويصوغها صياغة تبدّل منها, ومن ثم تضعف وثائقيتها? وهل يملك النص الأدبي تمثل كل المكونات التاريخية الواردة في صلبه, وتحويلها إلى مكونات أدبية?

والأمر هنا لا يتعلق بمقاطبة ناجزة بين التاريخي والأدبي, يكتسي فيها التاريخي سلطة الحقيقة, والأدبي سلطان الخيال, بل مؤالفة مبدعة تتجاوز إيراد الوقائع على نحو تعاقبي, إلى سرد تخيلي يمنح التاريخ جيشانه البلاغي, القادر على بلورة وعي الجماعة العربية, وتمثلها لموقعها من التاريخ, وإن جاز القول بأن التغام الأدبي مع التاريخي في هذا الصدد, ليس مجرد إضافة تجميلية, أو زينة إنشائية للوقائع والشخوص, بل إعادة تقييم كاملة, بغية الوصول إلى الدلالة.

وقد استرعى هذا الالتغام في التغريبة انتباه ابن خلدون, واعترتْه الدهشة مع معاينته ذلك اليقين المطلق, الذي كان يتملك فيه البدو الهلاليون جنوب الجزائر, في صدق أحداثها, حين كانوا حينئذ يسردون تفاصيل رحيل أسلافهم من الجزيرة العربية قبل ذلك بقرون ثلاثة, ومَن كان يجرؤ منهم أن يتساءل عن حقيقة هذه الأحداث, أو يعبّر عن شكوكه في صدقها, كان يخاطر بأن يُتهّم بالجنون أو الجهل, إذ: (يكاد القادح فيها والمسْتريب في أمرها, أن يُرمى عندهم بالجنون والخلل المفرط, لتواترها بينهم).

وحتى في القرن العشرين, فإن جمهور هذه التغريبة من المصريين دأبوا على رفض أن تكون الأمانة التاريخية لحكاياتها موضع شك, وهو ما عاينته الباحثة سوزان سليموفكس, فلديها, إذا احتاج الأمر إلى برهان على صدق هذه الحكايات, ولو كان ظاهريًا على الأقل, فهناك العديد من الوسائل المتاحة لذلك, حيث في قلب الأحداث الروائية, وخاصة في شكلها المكتوب, يمكن اللجوء إلى تسلسل الأنساب, التي تربط الأبطال بالأسلاف, الذين يكونون غالبًا من الأشراف, أو إلى أسماء المواقع الجغرافية للأحداث, التي تطلق على الأماكن التي يقطنها جمهور التغريبة.

* فعاليتان:

وهكذا فإنه, وعبر هذا الصنف من المأثور, تأكد تداعي ذلك التصوّر القائم على التعارض بين التاريخ والأدب, الذي اعتمد على أن التاريخ يتعامل مع حقائق ووقائع, فيما يمتاح الأدب من الخيال, باعتباره على ما يرى الناقد المصري د. جابر عصفور, فاعلية أساسية في الممارسة الإبداعية. ولعل ما يزكّي تداعي هذا التصوّر منهجيتان حديثتان, لهما أصداؤهما في القديم:

ففي الكتابة التاريخية المعاصرة, تبدت طريقة جديدة أسستها مدرسة الحوليات الفرنسيات المشهورة منذ أكثر من نصف قرن, ورواها فرنان بروديل, وبعده جورج دوبي وجاك لوجوني وجاكلين شابي, ركزت على أهمية المخيال والتصورات الخيالية, والدور البارز, الذي تلعبه في حياة البشر, شعوبًا وأفرادًا, قصد مقاومة القصور الحراري في العلاقات الإنسانية, وانطلاقًا من إمكان النظر إلى التاريخ كنوع من أنواع السرد, وهو أمر قد لا يروق لبعض من المؤرخين (الأرثوذكس), ممن يرون في الواقعة التاريخية حدثًا نقيًا يطابق الواقع, بما لا يصح أن تزعجه الشوائب.

وتدور الطريقة الثانية حول ما يطلق عليه في الأدب (الرواية التاريخية), وتقع في فضاء بين الخيال والواقع, بين الحلم والحقيقة, في مزاوجتها بين ما هو تاريخي وما هو خيالي, لتؤسس لغتها الخاصة بينهما, وهو ما نجده في الملحمة والأسطورة واليوتوبيا, تلك التي وضعت الواقع في موضع تساؤل, كحلم بصيغة أخرى للوجود.

إذْ عبر غنى هذه المزاوجة داخل الخطاب الأدبي, تنهض رؤية فنية تعتمد الحلم والذاكرة والإبهام, فتكسر منطق الواقع, وتُعْلى من توهج غنائية وموسيقى لغته.

وفي هذا الخطاب, لا يغيب التاريخ تمامًا, وإنما يحضر من خلال شحن الواقعي بدلالات فوق واقعية, وتناول مرجعية الأحداث بإشارات فنية, كي تبدو الدلالة حاضرة دومًا, تقول التاريخ ولا تقوله.

وهنا يجوز القول إنه حين داهمت التغريبة الهلالية فضاء السرد العربي, لم تكن تقلقها مكابدات البحث عن التمايز بين التاريخي والأدبي فيها, بل كانت تبحث عن تناظرها بالتوازي مع حلم الجماعة العربية, والذي راح يجد صداه وأثره في تذكيرها بتاريخ بعيد, يحرّض متلقيه على قراءة حاضره في ماضيه, فلا يكتفي بالنظر في تاريخ هذه الجماعة, بما هو أحداث عبرت, وإنما يومئ, وإن على هيئة رمزية, إلى حال العرب في الراهن, وهو ما يوضّحه قول مؤديها التونسي حين أنشد:

(وين نجع شهير سمّاهْ
اتفرّق والدهر فناه
مين يحمل داهْ
ومين يصبر صبرهْ وقضاه
أُصْغوا نشْداه....)

 

محمد حافظ دياب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات