بيان المثقفـين الأمريكيين: دعوة للحوار... أم للحرب? سليمان إبراهيم العسكري

بيان المثقفـين الأمريكيين: دعوة للحوار... أم للحرب?

حديث الشهر

من الخطأ ان نتعامل مع دولـة كبـرى كالولايات المتحدة كـكيـان واحـد

مشكلة العقل العربي أنـه لايـفـكر دائـما إلا فـي الصـدام وهو
عاجـز عن القيام به

الموقعون على البيان متخمون بالمعلومات ولكنهم يعانون فقراً في الحقيقة

بادئ ذي بدء, فإننا نرحب بأي محاولة للحوار بيننا ـ كعرب ومسلمين ـ وبين أي طرف آخر. فما بالك إذا كان هذا الطرف هو نخبة من المثقفين الأمريكيين, وإذا كانوا أيضا يمثلون صوتاً جديداً لم نستمع إليه من قبل وسط ضجيج أسلحة الدمار والموت, ووسط سيل الاتهامات التي يطلقها علينا ساسة العالم دون دليل أو تمييز?

يكتسب هذا البيان أهمية خاصة فقد وقّعه ستون مثقفا أمريكيا من بينهم فرانسيس فوكاياما صاحب كتاب نهاية التاريخ وصمويل هنتنجتون الذي وضع نظرية صدام الحضارات والفيلسوف المعروف مايكل والتر الذي اشتهر بدعوته إلى الحرب العادلة التي يجب أن تستند إلى واقع أخلاقي, وأنزيوني عالم الاجتماع والمقاتل الإسرائيلي السابق والسناتور السابق دانيل باتريك, إضافة إلى العديد من الأسماء التي تنتمي إلى كبريات الجامعات الأمريكية ويغلب عليها جميعاً الطابع القومي المحافظ المشبّع بالروح الأمريكية المتعالية, أقول لهذا السبب يكتسب البيان أهميته البالغة.

يحدد البيان هدفه من الكلمات الأولى للعنوان (... من أجل ماذا نحارب?) أي أن هدفه الأساسي هو تبرير - وكنت أود أن يكون تفسيرا - للحرب التي تخوضها الولايات المتحدة وأطلقت عليها (الحرب ضد الإرهاب). فهذه الحرب لا يعرف أحد مداها حتى الآن, ولا أهدافها النهائية والحقيقية, كل ما نعرفه أن بدايتها كانت فوق جبال أفغانستان, أما نهايتها فلا يمكن أن يتكهن بها أحد, وإن كانت ستكون غالباً فوق أكثر من أرض عربية وإسلامية, أو على أرض أخرى? وبالرغم من ذلك فإن كلمات البيان تعتبرها (حرباً إنسانية لا تستهدف شعباً أو ثقافة أو دينا بذاته).

نقد الذات

تبدأ الفقرات الأولى من البيان بنوع من نقد الذات, باعتباره أولى درجات الموضوعية, وهم يعتبرون أن أمريكا قد تصرّفت - أحيانا - بغطرسة تجاه المجتمعات الأخرى بما في ذلك اتباع سياسات مضللة وغير عادلة.

كما أن القيم التي طالما ساعدت أمريكا على ترويجها كانت مؤذية للعديد من المجتمعات الأخرى, مثل (غلبة النمط الاستهلاكي للحياة, والحرية التي تفتقد الضوابط, والفردية المفرطة التي لا تدين بشيء للآخرين ولا المجتمع الذي يحيط بها وتراجع الزواج وإضفاء شرعية على العلاقات التي تقوم خارج المؤسسة الزوجية, إضافة إلى جهاز إعلامي ضخم يمجّد هذه الأفكار ولايروّج لها فقط, بل يجعلها النموذج الذي يجب أن يسعى إليه أي مجتمع يتوق إلى تحديث هياكله التقليدية).

ورغم أن هذا النقد يتصف بالعمومية المفرطة, ويتجاهل القضايا الأساسية التي تجعل العديد من دول العالم في تناقض مع النظام الأمريكي, فإن البيان يؤكد أن هذه العيوب لا تبرر ما حدث في يوم 11 سبتمبر, خاصة أن الذين قاموا بهذه الفعلة - أي تفجير مبنى التجارة العالمي - لم يتقدموا بأي مطلب خاص أو رسالة معينة, وبهذا المعنى فإن الهدف من وراء الجريمة كان هو الجريمة ذاتها, ذلك الفعل البشع بمعناه المجرد, وبالفعل فإن مَن فعلوا ذلك لم يقولوا ماذا يريدون, ولكن هل كان الأمر فقط من أجل الجريمة المجردة? إن تاريخ البشرية لم يشهد قط جريمة دون دافع. وفي تلك الواقعة بالذات لم يكتف الفاعلون بارتكاب الجريمة, ولكنهم جعلوا من أجسادهم سلاحاً لأدائها, أي أن الدوافع التي حركتهم كانت في عقيدتهم أكثر قيمة وأشد أهمية من حياتهم الخاصة.

ونحن لا نريد هنا أن نبرر الجريمة التي حدثت في ذلك اليوم الأسود من سبتمبر, فهي ضخمة بكل المقاييس, ولكنها ليست الأضخم أو الأولى من نوعها كما يقول كتّاب البيان, فمن المؤكد أن ما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية وضرب المدينتين اليابانيتين هيروشيما ونجازاكي بأول قنبلتين ذريتين, وقتل وتشويه آلاف من البشر كان أكبر وأكثر وحشية من حادثة سبتمبر بكثير. ورغم ما يقوله البعض من أن قصف اليابان تم خلال حالة الحرب بين البلدين, فإن المؤرخين يجمعون على أن هذه الحرب كانت قد انتهت على الأرض بالفعل, وأن اليابان كانت على وشك الاستسلام, إلا أن أمريكا أسرعت بقصفها لتشبع روح الانتقام لديها وحتى تجرّب تأثير هذه القنابل التي لم تختبر من قبل وتتأكد من فاعليتها, وأن اليابان لو كانت دولة أوربية لربما ما جرؤت أمريكا على القيام بذلك.

كما أن ما حدث في فيتنام من إحراق لمئات من القرى بقنابل النابالم كان أكبر بكثير. وكذلك ما حدث بالأمس القريب عندما اجتاحت إسرائيل المدن الفلسطينية وحولتها إلى جثث وأنقاض بواسطة السلاح الأمريكي كان أكبر بكثير, والأكبر منه أنه تم بالرضا التام من الإدارة الأمريكية والتنسيق معها في الغالب.

ورغم ذلك من الواجب ألا نتعامل مع دولة كبرى ومعقدة كالولايات المتحدة مثل كيان واحد, وعلينا أن ندرك أنها قارة مليئة بالتيارات الفكرية المختلفة, كما أننا - نحن كعرب - أفضل مَن يدرك أن علينا أن نتعلم كيف نتعامل مع تلك القوى الكثيرة والمختلفة المصالح داخل المجتمع الأمريكي. لذلك فلا ينبغي بالضرورة أن يكون هناك تطابق في السياسات التي تنتهجها الإدارة الأمريكية والمعتقدات التي يعتنقها المثقفون, ولعل هذا ما دفع بالكاتب المصري عبدالوهاب المسيري إلى أن يقول في معرض تعليقه على البيان: أنا أكره أمريكا ولكن أحب الشعب الأمريكي. وهو يميز في ذلك بين النموذج الحاكم والأفراد المحكومين, فالإنسان الأمريكي طيب على المستوى الفردي, ولكن النموذج المسيطر هو نموذج برجماتي له مصالحه في العالم وهو يسعى لفرضها بكل الوسائل, وتكمن الخطورة عندما تتطابق وجهة نظر هؤلاء المثقفين, مع وجهة نظر الإدارة الأمريكية عندما يتبنون معا فكرة الحرب التي تشنها الإدارة بدعوى أنها حرب عادلة.

الغريب في هذه (الحرب العادلة) التي يدعو لها مثقفو أمريكا الستون, لم يحددوا طرفها الآخر.. مَن هو? الإرهاب? هل الإرهاب دولة أو قوة اقتصادية وعسكرية محددة وملموسة? الإرهاب لا يعدو كونه فكرة, وإعلان الحرب الرسمية التي يبررها المثقفون الستون ويدعون مثقفي العالم لمساندتها, إنما هي حرب فعلية ولكن ضد أفقر دول العالم قاطبة وأكثرها تخلّفاً.. ولكن أخطر ما في غوغائية هؤلاء المثقفين والمفكرين الأمريكيين هو أنهم يدعون لمساندة حرب (أمريكا العادلة), ولكنهم لا يحددون هدفاً عدواً, ليتم القضاء عليه, إنهم يدعون لحرب مفتوحة في الزمان والمكان ضد كل مَن لا يقف مع أمريكا ويقبل بسياساتها وشروطها: الاقتصادية, والثقافية, والعسكرية.

لقد لبس هؤلاء المفكرون والمثقفون خوذاتهم العسكرية وتمنطقوا بأحزمة البارود يطلقون النار في كل الاتجاهات دفاعاً عن الحرب من أجل مصالح أمريكا والعالم الغربي الغني... ضد كل الآخرين.

الإسلام والجماعات الإسلامية

ومع ذلك برغم اقتناع كتّاب البيان بأن التفجيرات في نيويورك قام بها تيار إسلامي, فإنهم يحاولون التفريق بين الإسلام والجماعات الإسلامية التي تحتمي خلفه. فهم يقولون إن الإسلام يمثل بالنسبة لهم واحدة من أكبر الديانات في العالم, التي تضم حوالي 1ر2 مليار مسلم بمن فيهم عدة ملايين من المواطنين الأمريكيين, وهم يتبعون تعاليم القرآن ويتمتعون بالاحترام والإيمان وحس السلام. يقابل ذلك جماعات (راديكالية) متطرفة, لاتعارض السياسات الغربية فقط, ولكنها تعارض أي مبدأ للتسامح الديني, ورغم أنهم يدعون الحديث باسم الإسلام, فإنهم يخونون المبادئ الإسلامية الأساسية لأن الإسلام يقف ضد الوحشية الأخلاقية, ويلجأون إلى القتل العمد.

ولا يمكن إلا أن نوافق المثقفين الأمريكيين على هذا الرأي, فالمتعصبون في أي ديانة هم وبال على هذه الديانة, ولقد عانينا كثيراً من المتعصبين المسلمين الذين درّبتهم المخابرات الأمريكية في جبال أفغانستان وأطلقت عليهم اسم (المجاهدون) وهم (الأفغان العرب), كما أننا مازلنا نعاني من المتعصبين اليهود الذين يقتلون إخواننا في فلسطين ويسلبونهم أرضهم بدعوى أنهم أخذوا وعداً غامضاً بهذه الأرض من رب التوراة, ونعاني من مذابح الهندوس ضد إخواننا في الهند وكشمير, أي أننا كمسلمين أكثر الشعوب التي تعاني من آفة التعصب.

ويرى المفكر المغربي محمد أركون, أنه حتى اختيار أمريكا لمفهوم الحرب العادلة يعد نوعاً من التطرف المسيحي في مواجهة التطرف الإسلامي, فهذا المفهوم يستمد جذوره من الفكر الكاثوليكي الذي سبق أن أشعل الحروب الصليبية في القرون الوسطى. ومن المؤسف أن هذا الفكر يجد فكراً مضاداً له في الثقافة الإسلامية هو فكر الجهاد, وفي كلا الجانبين يساهم استخدام الفكر الديني في ترسيخ فكرة الحرب بدلاً من أن يلعب دوره ليكون وسيلة للخلاص منها. وفيما تعلن أمريكا حربها على الإرهاب فهي ترهب الآخرين أيضاً, لأنها تدخل حربا ضد الشر كهدف مطلق وهو تعبير كما قلنا من قبل ديني أكثر منه واقعياً, كما أن أمريكا تقيد إرادة الآخرين حين تصر على أن (مَن لم يكن معنا فهو ضدنا), وكأنه لا يوجد خيار ثالث, فالإرهاب هنا هو محاولة فرض رأيك على الآخرين دون أن تترك لهم الفرصة كي يكوّنوا رأيهم الخاص.

الهجمة الأمريكية ليست في حقيقتها هجمة على الإسلام, إنما هي هجمة على المصالح والثروات الموجودة في بعض المناطق الإسلامية, والتي ترى فيها قوى اليمين ورجال الصناعة والنفط والسلاح في السلطة الحاكمة الحالية حقاً شرعياً لهم بعد أن أسقطوا الاتحاد السوفييتي, وهذه المصالح والثروات تتجمّع الآن في حقول نفط منطقتنا العربية والإسلامية, امتداداً من الخليج والعراق عبوراً إلى إيران فبحر قزوين, ومنه يمكن بسهولة محاصرة النمو الصيني ونمور آسيا بشكل عام.

من أجل الكرامة الإنسانية

يشدد البيان على خمسة مبادئ أساسية يجد فيها منطلقاً له, أهمها أن البشر يولدون متساوين في الكرامة كما في الحقوق, وأن الشخصية الإنسانية هي العنصر الأساسي في المجتمع, وتكمن شرعية دور الحكم في حماية هذه الشخصية والمساعدة على تأمين فرص التفتّح الإنساني. إن حرية الضمير والحرية الدينية من الحقوق التي لا يمكن انتهاكها في الشخصية الإنسانية, وأن القتل باسم الله هو مخالف للإيمان بالله, وهو يعد خيانة عظمى لكونية الإيمان الديني, بناء على ذلك كله, فنحن - أي الأمريكيين - نحارب للذود عن أنفسنا ودفاعاً عن هذه المبادئ الكونية.

ولا أعتقد أن أحدا يختلف على تلك المبادئ التي تحافظ على الكرامة الإنسانية, ولكن - على حد تعبير المفكر اللبناني الدكتور علي حرب - فإن الأمور قد تعدّت مرحلة إصدار البيانات حول كرامة الإنسان وحقوقه. وأصبحت تطرح مسألة الوجود البشري في حد ذاته. فقد ازدادت درجة العنف وتطورت أشكال الإرهاب خاصة مع تطور التقنيات وانفجار المعلومات. فهل يعود هذا إلى نوع من صدام الحضارات كما يقول هنتنجتون? أم أنه فشل المجتمعات الإسلامية في ممارسة الديمقراطية وخوض تجربة التحديث? أم أنه يعود إلى علة أعظم?

إن علينا أن نعترف هنا - كنوع من النقد الذاتي - بأن ثقافتنا الإسلامية تمر هي أيضاً بأزمة خطيرة, فقد تراجع أسلوب الحوار فيها لصالح أسلوب التصادم, وقد أوصلنا ذلك إلى حالة من الشعور بالصدام الدائم مع الغرب, لقد حسمت الثقافة الغربية مشكلتها بالتوجه العلماني والعقلاني, كما أن النجاح الذي حققته الثقافة الغربية أكّد هذا النهج ودلل على فاعليته, في الوقت الذي مازالت فيه الثقافة الإسلامية تعادي هذا النهج العلماني وتتهمه بأنه دخيل عليها, وأنه حصان طروادة للثقافة الغربية, كما أن الجماعات المتطرفة من أمثال تنظيم القاعدة وغيرها هي نتاج سيئ لمفهوم خاطئ للثقافة الدينية الإسلامية, فهي لا تستطيع التعامل مع تحديات العالم المعاصر بما فيه من أزمات وإخفاقات, ولم يكن رد فعلها إلا ذلك العنف الذي يوجه دائماً في المكان الخاطئ ووضع اللائمة دائماً على غيرها. وقد ظهر العجز العربي واضحاً في الأزمة الفلسطينية الأخيرة عندما تصاعد العنف الإسرائيلي لدرجة مريرة واكتفى العرب بإطلاق الأصوات الغاضبة لأنهم لا يفكرون إلا في أسلوب الصدام, كما أنهم عاجزون في الوقت نفسه عن الصدام.

إن المفكر المصري فؤاد زكريا يعيب على العقل العربي خضوعه لفكرة المؤامرة الغربية الأبدية على العرب والإسلام, وهي فكرة أقنعتنا واسترحنا إليها لأنها تؤدي في حياتنا إلى نوع من الوظائف المريحة, فهي تعفينا من مواجهة عيوبنا وبذل أي جهد من أجل إصلاحها, كما أنها تعطينا شعوراً بالأهمية الزائفة لأن الغرب مشغول بنا أكثر مما ينبغي. ويرى د.زكريا أن من أشد مظاهر الضعف العربي الاستسلام لنظرية المؤامرة لأن المواجهة الحقيقية لأي مؤامرة إنما تكون بالعمل الشاق الدائب.

أين العدالة?

من المدهش أن كلمة مهمة مثل كلمة العدالة لم تتردد كثيراً في بيان كهذا حفل بالكثير من الكلمات مثل الحرية والروح الفردية والقيم الأمريكية, والجمل القليلة التي وردت كلمة العدالة في سياقها لم ترتبط إلا بصفة الحرب التي تخوضها أمريكا والتي هي عادلة بالضرورة.

وعلى حد تعبير الكاتب اللبناني حسن منيمنة فكلمة العدالة تحتل مكان الصدارة في الثقافة السياسية العربية, وليس من المبالغة القول إن القضية الفلسطينية هي العماد الرئيسي لهذه الثقافة, لذلك فإن خلوّ البيان من أي ذكر لهذه القضية المحورية التي شكلت علاقتنا بالغرب يبدو مدهشاً تماماً, فالمسألة الفلسطينية مسألة مركزية في موقف القوى الدينية الإسلامية من أمريكا والغرب عموماً, ومع ذلك يتجاهل مثقفو أمريكا هذه المسألة تماماً, وهم بهذا يخدمون إسرائيل والمفهوم الأمريكي عن صراع الحضارات, ولا يخلو البيان في العديد من مواضعه من السؤال المندهش عن سر كراهية هذه الجماعات الراديكالية لأمريكا. وهو يشبه تماماً السؤال الذي طرحه وزير الخارجية الأمريكية كولن باول في أثناء اجتماعه مع بعض السفراء العرب: لماذا تكرهوننا? ومن المستحيل أن نعتقد أن وزير الخارجية كان بهذه السذاجة وهو يطرح هذا السؤال. وكذلك هؤلاء الستون مثقفاً وخبيراً ومنهم من هو على صلة مباشرة بأحداث الشرق الأوسط, ولكن الأمر يعود في جملته إلى منظومة أمريكية في رؤيتها للعالم بشكل عام ولإسرائيل بشكل خاص. ويؤكد إدوارد سعيد أن الصورة التي يراها الأمريكيون مختلفة تماماً عن الصورة التي نراها نحن العرب, فأمريكا لا ترى في الإسرائيليين إلا أنهم يدافعون عن أنفسهم, وليس عن المستوطنات والقواعد العسكرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. بل إن الإعلام الأمريكي ومنذ أن بدأت الانتفاضة الفلسطينية دأب على عدم نشر أي خرائط حتى لا يتحدث بلغة محددة عن الأرض التي تعيش عليها إسرائيل, وعن الأرض الأخرى التي تحتلها وتحاول أن تبيد شعبها, وأدوات الإعلام الأمريكي لا تتحدث عن الأرض المحتلة ولكن دوما عن العنف في إسرائيل, الأمر الذي دفع كاتباً عالمياً كبيراً مثل جارسيا ماركيز, الحاصل على جائزة نوبل في الآداب, إلى أن يوجه رسالة قوية اللهجة يفضح فيها هذه الممارسات العنصرية لإسرائيل, وأن يشاركه في ذلك الاحتجاج الكاتب البرتغالي الحاصل على نوبل أيضاً ساراماجو في رسالة أخرى.

ورغم ذلك فإن أحد الموقعين على البيان الأمريكي وهو توماس فريدمان ينتقد التلفزيونات العربية بأنها أحادية الجانب ولا تنقل إلا الوضع داخل الأراضي الفلسطينية, كأنه يريد هو الآخر أن تقتدي بالتلفزيونات الأمريكية ولا تنقل سوى وجهة نظر إسرائيل, وهو يتجاهل أن إسرائيل تمتلك دبابات (ميركافا) وطائرات (إف 16) ومروحيات (الأباتشي) تحارب كلها أناساً عزلاً فوق أرضهم المحتلة, ولا يكف عن نقد الآخرين مثله مثل العديد من الذين وقّعوا على البيان وهم زمرة متخمة بالمعلومات الكاذبة, ولكنها مفتقرة إلى الحقيقة على حد تعبير إدوارد سعيد. هل تصلح هذه النظرة المغلقة لبناء رؤية عادلة حيال قضايانا... بل هل تسمح لهم بتخطي الحدود المغلقة للمركزية الأمريكية والحديث عن رؤية كونية كالتي يتحدث عنها كتاب هذا البيان?

من أجل حوار جاد

رغم كل شيء, فإن البيان يختتم سطوره بنداء حار من أجل التواصل والحوار, خاصة مع المجتمعات المسلمة, وتقول كلماته الختامية (إننا نأمل بشكل خاص أن نوصل أصواتنا إلى إخواننا وأخواتنا في المجتمعات المسلمة, نقول لكم بصراحة: لسنا أعداء بل أصدقاء, يجب ألا يعادي بعضنا بعضا, إننا نشترك في كثير من النقاط, لدينا الكثير لنفعله معا, كرامتكم الإنسانية ليست أقل من كرامتنا, حقوقكم وفرصكم لحياة جديدة ليست أقل من حقوقنا وفرصنا, هذا هو ما نظن أننا نحارب من أجله, نعلم أن بعضكم يرتاب فينا, ونعلم أننا - نحن الأمريكيين - مسئولون جزئياً عن هذا الارتياب, لكننا يجب ألا نكون أعداء في الأمل, نتمنى أن نشترك معكم ومع كل الخيّرين في بناء سلام عادل ودائم...).

ولا نملك إلا أن نقدّر هذه الدعوة للحوار, وأن نقدّر أيضاً ذلك الصوت المتفرّد للمثقفين الأمريكيين لعلهم يستطيعون أن يتفهّموا برؤية أوسع مما حاولت الحكومات الأمريكية المتعاقبة أن تقوم به. إن علينا أن نفترض حسن النية كما قال بعض الذين علّقوا على البيان, وإن علينا أن نقابل الصدق بالصدق, والتأثير بالتأثير, وقبل ذلك يجب أن نستوعب تلك اللغة التي يخاطبنا بها هذا البيان, ونتحرى مفرداته التي تعتمد على تراث الأمة الأمريكية ومفهوم الحضارة الغربية.

إن الخطاب الموجه لنا كعرب ومسلمين - بالدرجة الأولى - من هؤلاء المثقفين الأمريكيين, يجب ألا يهمل - كعادتنا دائماً - وعلينا - كل المثقفين العرب والمسلمين بكل توجهاتهم الفكرية - أن نلتقط هذه المبادرة ونتواصل معها بصبر ودأب ونفتح بها أبواباً للنقاش والحوار واللقاء مع كل القوى الثقافية في الغرب عموماً وفي أمريكا خاصة, ونطل من خلالهم والحوار معهم على الرأي العام الأوربي والأمريكي لنشرح أفكارنا ونوضح قيمنا ومبادئنا ونجادلهم دائماً بالتي هي أحسن, ولا نتخاذل وننعزل عجزاً وضعفاً.

إن الحملة الإعلامية والسياسية والعسكرية التي انطلقت بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م لا يمكن مواجهتها بالصراخ والشتم والانفعال, إنها أكبر وأشد حملة إعلامية وعسكرية عرفها الصراع بين الشرق والغرب منذ الحروب الصليبية, ويجب عدم الاستهانة بها, ولكن لا يجوز أيضاً الاستسلام لها طواعية, فالعالم اليوم تسوده ثورات الاتصال والمعلومات مما يوفر فرصاً كبيرة للعرب والمسلمين لأن يشرحوا أنفسهم ويحاوروا العالم ويبرزوا أفضل ما لديهم من أفكار وقيم ويصمدوا ويتعلموا لغة الحوار والإقناع.

كما أننا نؤيد ما جاء في البيان عن احترام الكرامة الإنسانية وعدم إهدارها بالقتل, وهي كرامة ليست وليدة التراث الأمريكي أو الدستور الأمريكي كما يعبّر البيان, ولكنها كرامة تستمد جذورها من الديانات السماوية الكبرى التي خرجت من أرضنا. وعلى هذه الأرض نفسها تمتهن الكرامة الإنسانية الآن, وعلى نفس ثرى فلسطين الذي سار عليه موسى وعيسى ومحمد تسير الدبابات التي هي من صنع أمريكي كي تمارس المهانة والإذلال اليومي ضد سكان البلاد الأصليين, إن أي حوار حول الكرامة الإنسانية لا يستقيم إلا بعد أن ينزع الأمريكيون أسطورة الهنود الحمر الذين كان لابد من إبادتهم حتى تنهض أمريكا, إن هذا الظرف التاريخي غير قابل للتكرار, وهو مثير للخجل لدرجة لا ينبغي أن يعد سابقة يقاس عليها ما تحاول أن تقوم به إسرائيل الآن.

إن أخشى ما أخشاه أن يكون هذا البيان للاستهلاك الخارجي, أي أن يكون الهدف من ورائه هو تبريرا لحرب معلنة وليس فتح الحوار. فكما يلاحظ المفكر المصري د. أنور عبد الملك أن هذا البيان تم نشره في جميع الصحف الكبرى في أوربا, ونُشر كذلك باللغة العربية في جريدة السفير, وقد تناقلت مادته وكالات الأنباء الأوربية والعربية, ولكنه لم ينشر داخل الولايات المتحدة إلا على نطاق بالغ الضيق, فقد نشر على موقع قليل الرواج على شبكة الإنترنت, وكذلك خصص له نصف عمود في جريدة الإنترناشيونال هيرالد تريبيون, وهي صحيفة بحكم طبيعتها تتوجه إلى خارج أمريكا لا داخلها.

إننا نأمل فعلاً أن تكون هذه دعوة جادة للحوار, لعلنا جميعاً نخرج من هذا المأزق المظلم الذي دخلنا جميعاً فيه. ونعتقد الآن أن على هؤلاء المثقفين أن يثبتوا حسن نياتهم ويبدأوا في التحرك باتجاه الشعوب التي خاطبوها في بيانهم للتعرف عليها عن قرب وتفهم ثقافاتها ودياناتها, ويجلسوا مع مثقفيها على طاولة الحوار ويدعوا دولتهم الكبرى إلى أن تعيد النظر في سياساتها تجاه تلك الشعوب وتضع حقوقها العادلة في مقدمة سياساتها في تعاملها معها, وبذلك يكون البيان - حقيقة - مقدمة صادقة لحوار إنساني عظيم, يفتح الطريق أمام مستقبل جديد للبشرية تسوده العدالة والحرية والرخاء

 

سليمان إبراهيم العسكري