الأسبلة قطرات من ماء .. ولمسات من جمال

الأسبلة قطرات من ماء .. ولمسات من جمال

الأسبلة منشآت معمارية عمرانية كان لها دورها المهم في المجتمع الإسلامي. وقد كان تشغيل السبيل وتجهيزه وإدارته وصيانته يستلزم توفير موارد مالية للصرف عليه. ومن هنا فقد ارتبط إنشاء الأسبلة بمؤسسة الأوقاف أو الأحباس, ويعد عملاً من أعمال الخير والإحسان, الغرض منه خدمة جماعة المسلمين.

لقد كان الحكام من خلفاء وسلاطين وملوك, والأمراء وكذلك أثرياء المسلمين ينشئون تلك الأسبلة تقربًا إلى الله تعالى وأملاً في الثواب وذلك بتوفير ماء الشرب للمارة في الطرقات حتى لا يتعرضوا للعطش أثناء ممارسة أنشطتهم وأعمالهم المختلفة. كما أنشأوا أيضًا أحواضًا لتوفير المياه لشرب الدواب, حيث كانت الدواب الوسيلة الأساسية للانتقال داخل المدن وخارجها. وقد كان توفير المياه عن طريق هذه الأسبلة للمارة وعابري السبيل والفقراء والمحتاجين له جانبه الاجتماعي حيث يبدو عطف الغني وهو المنشئ للسبيل على العطشى من المارة وهو ما يؤكد روح المودة والإخاء بين أفراد المجتمع الواحد وهي القيم التي يدعو إليها الدين الإسلامي.

وقد تركزت تلك الأسبلة في المدن العربية والإسلامية في المناطق الآهلة بالسكان والمناطق التي تتركز بها الأنشطة التجارية والخدمية كالأسواق التجارية والقيساريات, والوكالات ومناطق العبادة, وهو ما نراه في مدن عديدة مثل القاهرة ورشيد وأسيوط في مصر, أو مثل اسطنبول وبورصة وكوتاهيه في تركيا, ومثل فاس ومراكش والرباط في المغرب, وصنعاء في اليمن, ومثل دمشق وحمص وحلب في سورية. وتعددت أماكن وجود هذه الأسبلة في كل هذه المدن, فقد كانت تلك الأسبلة تلحق بالمساجد والوكالات والمنازل والمدافن وأحواض الدواب وفي الميادين.

كان توفير المياه على مدار العام لخدمة المارة يستلزم نقل هذه المياه من مصادر توافرها إلى هذه الأسبلة. ففي مدينة القاهرة, كان نهر النيل يعد المصدر الأساسي لتوفير المياه بهذه الأسبلة, وحيث كان النهر في الزمن الماضي يفيض بمياهه في موسم الفيضان الذي يمتد من أواخر شهر أغسطس إلى شهر أكتوبر وتقل مياهه في بقية شهور السنة فقد كان من المعتاد تخزين المياه بهذه الأسبلة أثناء موسم الفيضان, كما كان يتم نقل هذه المياه على ظهور الدواب وتفريغها في فتحة خاصة بأحد جوانب السبيل ليتم السحب منها بقية شهور السنة التي ينخفض فيها منسوب نهر النيل وتشح مياهه.

وفي حالة مدينة اسطنبول فقد كانت الآبار وعيون المياه والخزانات, التي تقام عن طريق بناء السدود هي المصادر الأساسية لتوفير المياه لهذا العدد الكبير من الأسبلة التي تشتهر بها مدينة اسطنبول. فقد كان الماء يؤخذ عادة من ثلاثة سدود بمنطقة (تقسيم) بالمناطق الجبلية والمرتفعة من الجزء الأوربي من مدينة اسطنبول حيث تنتقل إلى الأحياء الأخرى من المدينة عن طريق أنابيب خاصة. وقد كانت خطوط هذه الأنابيب تمتد إلى مسافة 25كم في عهد السلطان أحمد الأول (تولى الحكم 1603م), وبذلك فإن تخزين المياه في المدن العربية والإسلامية كان يتم إما عن طريق نقل المياه على ظهور الدواب أو عن طريق خطوط الأنابيب التي تبنى لهذا الغرض.

وظيفة السبيل

وبالإضافة إلى وظيفة السبيل في توفير المياه للمارة, فقد كان له وظيفة أخرى مهمة, خاصة في مصر وهي وظيفة التعليم. حيث كان يلحق بالسبيل وفي الجزء العلوي منه مكتب أو كتاب ليتعلم فيه أبناء المسلمين مبادئ القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن. وقد استمر هذا التقليد, أي الجمع بين وظيفة السقاية والتعليم في بناء الأسبلة منذ فترة الحكم المملوكي (القرن الثالث عشر) حتى فترة القرن التاسع عشر. وهو الشيء الذي يعطي للسبيل المصري خصوصيته وتفرده عن الأسبلة الأخرى التي أنشئت في معظم مدن العالم الإسلامي.

وبالنسبة لعمارة السبيل في مصر والذي أخذ شكله التقليدي منذ العصر المملوكي, فسوف نلاحظ أنه يتكون من ثلاثة مستويات أو طوابق. فقد كان هناك (الصهريج) في المستوى السفلي من السبيل وتحت مستوى الطريق, والذي كان يخزن فيه الماء طوال العام عن طريق فتحة خاصة في أحد جوانب السبيل. ويعلو الصهريج وعلى مستوى الطريق أو أعلى منه بقليل (حجرة التسبيل) وهي الجزء الأساسي من السبيل. ويعلو حجرة التسبيل الكُتاب أو المكتب, والذي يمثل المستوى أو الطابق الثالث للسبيل.وتعد حجرة التسبيل المكون الأساسي في عمارة السبيل, والتي كانت تعرف أيضًا باسم (المزملة). وكان (المزمَّلاتي) هو الشخص المعين من قبل منشئ السبيل لرفع المياه من فتحة الصهريج, والتي توجد بأحد جوانب غرفة التسبيل والتي تعرف بفتحة المأخذ, إلى أحواض التسبيل والتي تملأ منها كيزان الشرب. وقد كانت تلك الأحواض متعددة الأشكال, فمنها المستطيل والمربع والبيضاوي والمفصص.

وتوجد بواجهة حجرة التسبيل شبابيك التسبيل والتي كانت تصنع من النحاس, وقد أبدع الفنان الإسلامي في أشكال وزخارف تلك الشبابيك. وتعكس التغشية النحاسية لتلك الشبابيك الخصائص الزخرفية للفترات التاريخية التي أنشئت بها الأسبلة. ويمثل شباك التسبيل في سبيل السلطان قايتباي (879هـ - 1474م) من العصر المملوكي النمط التقليدي لتلك الشبابيك والذي ظل مستمرًا حتى فترة القرن الثامن عشر في مصر. وتبدو تلك الشبابيك على هيئة مربعات تحتل كامل الشباك حتى الجزء الأسفل منه, وفي بعض الأحيان كان الصف الأسفل منها يجيء على هيئة (بائكة) تساعد على تناول كيزان الشرب من حوض التسبيل. وفي فترة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تأثر شكل شباك التسبيل وزخارفه بالسبيل التركي, حيث ظهر شباك التسبيل المقوس كما أن التغشية النحاسية للشباك أصبح يغلب عليها زخارف عصر الباروك والركوكو التي انتقلت إلى تركيا من أوربا.

أشكال السبيل

وقد أخذت (حجرة التسبيل) أشكالاً متعددة تبعا للفترات التاريخية التي أنشئت فيها, فقد كان منها المربع والمستطيل والمقوس. في العصر المملوكي, وبداية العصر العثماني جاءت عماراتها على الشكل المربع أو المستطيل. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أخذت الشكل المقوس تحت تأثير عمارة السبيل التركي. وكما تعددت أشكال الأسبلة نتيجة لطرازها المعماري فقد تعددت أيضًا نتيجة لتعدد شبابيك التسبيل الموجودة بها. فهناك الأسبلة ذات الشباك الواحد, وهناك أسبلة ذات شباكين, وذات ثلاثة شبابيك وذات أربعة شبابيك.

ولأهمية حجرة التسبيل, فقد كانت أرضيتها تفرش بالرخام الملون الذي يضفي شكلاً بديعًا على السبيل من الداخل, والذي يساعد أيضًا على سرعة تنظيف أرضيته. وقد كانت السقوف وكذلك جدران حجرة التسبيل مجالاً خصبًا لإبداع الفنان الإسلامي. ففي أسبلة العهد المملوكي وكذلك العثماني في مصر كانت السقوف في العادة تتكون من براطيم خشبية, والتي تحصر فيما بينها مناطق مستطيلة. وقد زين النجار هذه البراطيم وكذلك المناطق المحصورة بينها بالزخارف النباتية والهندسية الجميلة. وتمتد هذه التكسية الخشبية للسقف لتشمل الجزء العلوي من الحائط فيما يعرف بـ(الإزار) والذي يفصل بدوره بين السقف والتكسية الرخامية أو الخزفية للجدران. وفي الأسبلة التي أنشئت في مصر والتي تأثرت بالأسلوب التركي في عمارة وزخرفة السبيل, كانت هذه الجدران تغطى ببلاطات القيشاني الذي ساد فيه اللون الأزرق بدرجاته المختلفة, والذي استخدمه الفنان الإسلامي في زخرفة هذه الجدران بأشكال جميلة.

وقد احتوت بعض هذه الأسبلة, التي أنشئت في مصر خلال فترة العصر العثماني على محاريب متعددة الأشكال والزخارف, حيث كان منشئ السبيل يوقف الأموال على عدد من الشيوخ وأهل التقوى للصلاة في السبيل والدعاء له ولأهله.

وفي خارج السبيل, فقد كانت هناك مسطبة يتوصل إليها عن طريق درج سلم مخصصة لصعود المارة لتناول كيزان الشرب. وأمام شباك التسبيل كان هناك لوح رخامي لوضع كيزان الشرب عليه. ولا يتعدى عرض هذا اللوح 40سم, وطوله بعرض شباك التسبيل ومحمول على كوابيل حجرية. وفي حال الأسبلة, ذات الواجهة المقوسة أو المنحنية, أصبح هذا اللوح على شكل داير رخامي يأخذ استدارة الواجهة.

أنواع الأسبلة

كانت الوسيلة الأساسية لإمداد المارة بالمياه, هي ملء كيزان الشرب من حوض التسبيل الموجود بحجرة التسبيل عن طريق المزمّلاتي, وذلك منذ العصر المملوكي في مصر. وقد أضيفت إلى هذه الوسيلة وسيلة أخرى وهي السبيل (المصّاصة)", وهو من الإضافات الجديدة, التي لحقت بالأسبلة المصرية في العصر العثماني. والسبيل المصّاصة هو عبارة عن لوح من الحجر أو الرخام يحتوي على بزبوز أو بزبوزين من النحاس, ومثبت في الواجهة الخارجية للسبيل. ويتصل هذا اللوح بحوض كبير من الحجر أو الرخام بداخل حجرة التسبيل, وأحيانًا بخارجها (كما في سبيل بشير أغا دار السعادة), ويتم تزويد هذا الحوض بالماء من الصهريج الموجود بحجرة التسبيل. وقد تعددت أشكال سبيل المصاصة, كما تعددت الزخارف التي زينته. وتعددت أيضًا أماكن وجوده.

وقد أضاف منشئو الأسبلة السبيل المصاصة إلى أسبلتهم, عندما أرادوا التوسع في فعل الخير والطمع في المزيد من الثواب والدعاء, فجعلوه للفقراء من قاطني الحي لتزويدهم وتزويد منازلهم بالماء, ولكن بطريقة مقننة. وبذلك, فقد كان الأهالي يحصلون على حصة من المياه إضافية للأغراض المختلفة في (قلل وأباريق وبراميل).

وقد بدأ السبيل المصاصة في مناطق الأناضول بتركيا على شكل دخلة في الجدار يتوسطها حوض يعلوه صنبور. ثم أخذ مكانه بعد ذلك بجوار شبابيك التسبيل عندما ظهرت هناك عمارة السبيل تأثرًا بعمارة السبيل المملوكي في مصر. وبذلك نرى في السبيل العثماني حجرة التسبيل التقليدية, كما نراها في السبيل المملوكي بجانب السبيل المصاصة, والذي هو عثماني المنشأ والتكوين والزخرفة. وتعتبر الأسبلة العثمانية, التي لا تحتوي عادة على كتاب أو مكتب, خاصة في القرنين السابع والثامن عشر آية في فن العمارة والزخرفة. ويعد سبيل السلطان أحمد الثالث (1728م), بالقرب من مسجد الحاجة صوفيا, وقصر (طوب قابي) باسطنبول من أبدع نماذج الأسبلة العثمانية لتلك الفترة. وتبدو حجرة التسبيل مستطيلة الشكل, حيث يوجد في كل ركن فيها ثلاثة شبابيك للتسبيل. وفي كل جانب من جوانب حجرة التسبيل هناك سبيل مصاصة. ويغطى السقف بالقباب العثمانية المميزة والمذهبة.

وبجانب السبيل, الذي يجمع بين حجرة التسبيل والسبيل المصاصة, هناك السبيل المصاصة المستقل بذاته, والذي تزخر العاصمة اسطنبول, والمدن التركية الأخرى بنماذج رائعة منه. ويطلق على السبيل المصاصة اسم (جشمة) بالجيم العطشة). والتي تعني نافورة أوعينا أو نبعا. ويعد هذا السبيل من أسبلة الواجهة أو الأسبلة الجدارية, حيث أنشئ في واجهة المنزل المطلة على الشوارع, وفي واجهة المدارس أو بجانبها, وفي واجهة المقابر وبجانب التكايا. وتحتوي الجشمة على صنابير يمكن فتحها وغلقها. وفي فترة القرنين السادس والسابع عشر, كانت الزخارف السائدة في زخرفة الجشمة عبارة عن أطباق من الفاكهة بألوان مختلفة. وفي القرن الثامن عشر, تأثرت زخرفة الجشمة بزخارف عصر الباروك والركوكو. ولا توجد الجشمة في الشوارع وفي واجهة المنازل والمدارس والتكايا فقط, ولكن توجد داخل القصور مثل تلك الجشمة الموجودة في يلدز سراي بجي (بشيكتاش) باسطنبول.

ويوجد بمدن المغرب, خاصة فاس ومراكش والرباط ما يماثل الجشمة التركية, حيث توجد بميادين وشوارع الأحياء القديمة بتلك المدن بجانب المنازل والمساجد والمدارس. وسقوف هذه الأسبلة على هيئة (خارجة), مرتفعة تغطى بالقرميد. ويتوسط البناء في الغالب عقد ذو زخارف نباتية, يحيط به من الخارج كتفان بارزان يحتويان على مقرنصات في الجزء العلوي. وتزين واجهة السبيل بزخارف هندسية من بلاطات القيشاني الصغيرة ذي اللون الأصفر والأحمر والأزرق, وتصب صنابير السبيل في حوض كبير لتسهيل عملية الشرب, أو جمع المياه في الأواني لإمداد أهل المنطقة بمياه الشرب.

ومن الملاحظ أيضًا وجود الأسبلة بمدن اليمن, وخاصة في الحي القديم بالعاصمة صنعاء. والسبيل اليمني يشابه الجشمة التركية والسبيل المغربي, فهو على هيئة غرفة صغيرة من الحجر تقع بأحد جوانب الميادين أو الشوارع التجارية المهمة, أو الأسواق, ويغطى سقفها بالقباب الضحلة, ومكان وجود الصنابير على هيئة دخلة تأخذ شكل العقد. وتحتوي الواجهة على زخارف كتابية من الحجر مثل عبارة (ما شاء الله).

 

أحمد عبدالجواد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سبيل السلطان مصطفى الثالث بحي السيدة زينب والذي يعلوه المكتب وهو نموذج للسبيل ذي الواجهة المقوسة ويحتوي على ثلاثة شبابيك للتسبيل (1172هـ - 1758م)





 





سبيل خسرو باشا - والذي يحتوي على شباكين للتسبيل, وهو في شارع المعز لدين الله - القاهرة (942هـ - 1535م)





سبيل أم الخديو عباس, وهو نموذج للسبيل الملحق بمدرسة (1867م) (القرن التاسع عشر)





سبيل السلطان أحمد الثالث (1728) بالقرب من قصر طوب قابي بالعاصمة اسطنبول, حيث تظهر به شبابيك التسبيل الثلاثة في أحد أركان السبيل





سبيل للمياه في أحد شوارع مدينة صنعاء باليمن





سبيل للمياه في أحد ميادين فاس بالمغرب