الذكرى 200 لمولد هانز كريستيان أندرسن

الذكرى 200 لمولد هانز كريستيان أندرسن

حكايات سحرية لكل الأجيال

من بين كبار الكتاب الأوربيين في القرن التاسع عشر برز اسم الكاتب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن, كموهبة خاصة, اتسمت بقوة الإمتاع والتشويق والعمق والبساطة, فكانت مشحونة بالتدفق الشعري الذي منح الكاتب لقب (الشاعر الوطني للدنمارك) مع كل ما يحمله من سعة الخيال والقدرة على استلهام الواقع.

عاش أندرسن سبعين عاما (1805-1875) متفرغا للكتابة وحدها, وتجاوزت أعماله الحدود الجغرافية وحواجز اللغة, فترجمت إلى اللغات الحية بعد صدورها, واستمرت في التواصل مع اللغات الأخرى حتى اليوم, بينما ترجمت مجموعة من قصصه وحكاياته إلى الإنجليزية, ونشرت في نيويورك عام 1870, قبل أن تنشر باللغة الأم, وأخذت أعماله اهتماما خاصا في تقديمها إلى القراء والمشاهدين والمستمعين, في العروض المسرحية والغنائية والموسيقية والسينمائية, في كل أنحاء العالم, وبلغ هذا الاهتمام ذروته في الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لميلاده.

كانت مشاعر أندرسن موزعة بين طفولته في حي فقير في مدينة (أودنسه), وبين أوساط البرجوازية المثقفة في العاصمة كوبنهاجن, حيث كان يتابع دراساته وينشر باكورة أعماله, وأشار إلى هذه المفارقة في حياته حينما كان طالبا في العشرين من عمره, يسكن في غرفة يطل من نافذتها على الشارع, فكتب في يومياته يقول: (منذ خمس أو ست سنوات كنت في الأسفل أيضا, لا أعرف أحدا في المدينة, وأنا الآن أستطيع, من الأعلى, وبجانبي أسرة سعيدة ومحترمة, أن استمتع بشكسبيري), كان يطمح إلى السعادة والشهرة, ولكنه لم يكن متأكدا من وصوله إليهما, وكانت الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق أحلامه: (إن قطرة من عسل السعادة تنسيني كل مرارتي).

خصوصية أدب أندرسن

استخدم أندرسن في رواياته وحكاياته أقنعة مركبة, تتكشف عما حوله من شئون الحياة, ومن شجونه الشخصية, وكأنها تعبر في رومانسيتها الساخرة عن سيرته الذاتية, أو تتقاطع معها, وإن كانت تمتد بجذورها إلى الحكايات الشعبية التي تنتمي إلى الماضي البعيد, وإلى بعض (حكايات إيسوب) التي تتشابك بعض خيوطها الملونة بالنشيج الخاص لحكايات أندرسن, وتثير مشكلات راهنة, أو مستقبلية, وتحمل مشاعر إنسانية حية, حتى حينما تأتي على ألسنة الحيوانات, أو الطيور أو الحشرات, أو الجمادات الناطقة.

ويقول أندرسن عن أعماله: (إن حكاياتي هي للكبار كما هي للصغار, في الوقت نفسه, إذ يفهم الأطفال السطحي منها, بينما يتعرف الناضجون على مقاصدها ويدركون فحواها, وليس هناك إلا مقدار من السذاجة فيها, أما المزاح والدعابة فهما ليسا إلا ملحا لها).

ومن الطريف أن أندرسن شاهد في أواخر حياته تمثالا له في حديقة الملك, إلى جانب تماثيل أطفال حول تمثاله, فاحتج غاضبا وقال: (ليس هناك أطفال حولي حينما أقرأ, وهم ليسوا حولي إطلاقا حينما أكتب).. فأزيحت تماثيل الأطفال, وبقي تمثاله واقفا وحده حتى اليوم.

من المزاوجة بين المأساة والملهاة, واللغة المحكية والنثر الفني والشعري, استطاع أندرسن أن يرقى باللهجتين العامية والفصحى, ويحرر النثر والشعر من قيود المعاجم والتراكيب والجمل الجاهزة, كي يتواصل مع كل مستويات الوعي والثقافة والتجربة.

على مدى نصف قرن كان أندرسن متفرغا للكتابة بأنواعها المعروفة, مع اهتمامه الخاص بالحكايات والقصص الخرافية التي وصلت إلى مائة وثمان وستين قصة وحكاية, قصيرة وطويلة, كما بلغت قصائده ومقطوعاته الشعرية نحو ألفي قصيدة ومقطوعة, وكتب في سنوات متباعدة مجموعة من الروايات التي تنصب عموما على الارتقاء الاجتماعي والصعود الفني, وهما الموضوعان الأقرب إلى حياته الشخصية, ومن تلك الروايات (الفنان المرتجل) و(مجرد عازف) و(البارونتان) و(أن تكون أو لا تكون), ويبدو أن شعوره بالإحباط بعد إصدار مسرحيته الأولى والأخيرة (حب في برج نيكولاي) صرفه عن الكتابة المسرحية, وظل حريصا على كتابة القصص والحكايات, التي أضاف إليها كتابا في السيرة الذاتية, هو (قصة حياتي بلا رتوش), وهي التي أعاد نشرها بعنوان (قصة حياتي الخرافية), بعد التنقيح والإضافة, ورصد مشاهداته في البلدان التي زارها, في أربعة كتب من أدب الرحلات, هي: (سوق شاعر, في السويد, في إسبانيا, زيارة إلى البرتغال).

مؤثرات شرقية

وكما هي الحال في الحكايات الشعبية العربية نجد في أعمال أندرسن مزيجا من الشخصيات الواقعية والخيالية, فالذكي والغبي والقوي والضعيف والأمير والفقير والطيب والشرير يتحركون إلى جانب الساحرة وحورية البحر والجني, كما نجد الحيوانات والطيور والنباتات والجمادات الناطقة.

يقول الناقد الدنماركي ستي جاسموسن: (يمكن مقارنة أدب أندرسن بألف ليلة وليلة, وكليلة ودمنة, إضافة إلى وهج شعر الصحراء العربية, في حساسيته العالية في وصف الطبيعة, ثم مقامات الحريري, وبراعة المتنبي في استخدام المعاني المزدوجة للكلمات).

وكان أندرسن قد أنجز في عام 1837 كتابا بعنوان (كتاب مصور دون صور), مستوحى من (ألف ليلة وليلة), كما كانت قصته الشهيرة (الحقيبة الطائرة) مستوحاة من البساط السحري الطائر.

تحمل قصص أندرسن وحكاياته مواجهة ساخنة بين الحقيقي والزائف في الحياة, وهجاء مرا للفساد والاضطهاد, وتمجيدا للحب والحرية والإبداع, وتأملا عميقا لجمال المخلوقات والطبيعة, بكل ما فيها من معجزات, فالجندي الصغير العائد إلى بيته, في قصة (القداحة) ينتصر على الساحرة الشريرة, التي نصبت له شراكها في الطريق, وفي قصة (كلاوس الصغير وكلاوس الكبير) ينتصر كلاوس الصغير الضعيف على كلاوس الكبير القوي الذي يضطهده ويعذبه, و(زهرة البابونج البرية) تبذل جهودا مضنية لتعزية الطائر الصغير السجين الذي كان يسعدها بغنائه قبل وقوعه في الأسر, و(بائعة أعواد الكبريت الصغيرة) تكافح البرد والظلام والحزن, في ليلة رأس السنة, وهي تجلس وحيدة في زاوية في الشارع المعتم, تقاوم الموت بالأحلام السعيدة, وتطرد الظلام والبرد بأعواد الكبريت المشتعلة, قبل أن تتجمد وتموت. أما ابن التاجر الذي ورث ثروة طائلة, لكنه بددها بسرعة, ثم اكتشف (الحقيبة الطائرة) التي تحمله إلى عوالم سحرية غنية بالحب والسعادة, بعيدا عن شبح الفقر, وفي قصة (الظل) يتمرد الظل على صاحبه, طالب العلم, حينما يتحول الظل إلى إنسان مزيف, ويصعد في السلم الاجتماعي بالنفاق والكذب, ويضطهد صاحبه, طالب العلم, ويسجنه ويعدمه في نهاية المطاف.

ويستبق أندرسن عصره, ليثير مشكلة تلوث البيئة, وهي المشكلة التي تفاقمت في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين, كما نراها في قصة (قطرة المطر) التي كتبها عام 1848, حيث يتحول العجوز الفضولي (خريبط مخربط) إلى حكيم وهو يتأمل, بعدسة مكبرة, قطرة ماء مأخوذة من ترعة ملوثة, فيرى فيها مشهدا غريبا للطفيليات وحتى يستطيع تمييزها جيدا أراق عليها قطرة من دم الساحرة, بقصد تلوينها, وحينما سأله العفريت العجوز عن سر ما يراه تحت العدسة, دعاه لمراقبة المشهد المثير, حيث كانت الطفيليات تتحرك وتتدافع, وينهش بعضها الآخر, أو يلتهمه, فيما يشبه حركة أناس عراة, في مدينة كبيرة مزدحمة, يتدافعون, ويعض بعضهم الآخر, فقال العفريت: إنه منظر ممتع للغاية, فسأله (خريبط مخربط) -كما يسميه الذين يعرفونه- عن سر هذا المشهد, فأجاب: إنه واضح مثل عين الشمس, إنها كوبنهاجن, أو أية مدينة أخرى, من المدن الكبيرة.

المئوية الثانية لولادته

بدأت في الدنمارك في أوائل هذا العام احتفالات المئوية الثانية لولادة أندرسن, التي انطلقت من مدينتي أودنسه وكوبنهاجن, وامتدت إلى المحافل الثقافية في كل أنحاء العالم, واختيرت ثماني شخصيات عالمية كسفراء رمزيين لتراثه بينهم الممثلة الأمريكية سوزان ساراندون ونجم كرة القدم بيليه, كما ستعرض أعماله في المسارح, وعلى شاشات التلفزيون, وصدرت ترجمات ودراسات جديدة عن أعماله بلغات متعددة, منها العربية, حيث صدرت عن دار المدى في مطلع هذا العام, بالتعاون مع ثمان من الصحف العربية, المجموعة الأولى المختارة من (قصص وحكايات خرافية) تليها المجموعة الثانية, بترجمة مباشرة من اللغة الدنماركية, للكاتبة العراقية المقيمة في كوبنهاجن, دنى غالي, التي اجتهدت في نقل خصوصية أسلوب أندرسن إلى العربية, وكانت بعض قصصه قد وصلت إلى القراء العرب في فترات متباعدة, مترجمة عن لغات وسيطة كالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية.

ظلت الشخصيات التي ابتكرها أندرسن هدفا للرسامين, وحظيت باهتمام واسع في أعمالهم, واختار أندرسن بنفسه بعض الرسامين من معاصريه, لتزيين طبعات كتبه ومنهم الفنان, الضابط البحري, ويلهلم بدرسن الذي أنجز مائة وخمسا وعشرين لوحة, زينت المجموعة القصصية التي نشرت عام 1849 من قصص أندرسن, واستمر بعدها في تقديم رسومه التخطيطية البارعة على مدى عشر سنوات, حتى وفاته عام 1859, عن تسعة وثلاثين عاما, أما الرسام لورنز فريليش, فكان يتابع رسم أعمال أندرسن على مدى السنوات السبع الأخيرة من حياة الكاتب, وتحولت بعض هذه الرسوم إلى ما يشبه الأيقونات التذكارية, أو الدمى المجسمة, وأضيف بعضها إلى رسوم على الطوابع النادرة, وأخذت شخصيات معروفة في حكايات أندرسن شهرتها من أفلام الكرتون, وتأسست في الدنمارك (جائزة أندرسن) منذ عام 1956, وتدعى (جائزة نوبل الصغيرة), وتمنح سنويا إلى أبرز المرشحين من كتاب أدب الأطفال في العالم, كما تمنح جائزة أخرى إلى أبرز الرسامين المختصين بالرسوم الموجهة إلى الأطفال.

 

بندر عبد الحميد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





صورة من قصته الشهيرة (بائعة الثقاب الفقيرة)





كتب اندرسن ترجمت لكل لغات العالم وهي الهدية المفضلة في جميع المناسبات والأعياد