الفيلسوف طاليس نشأة الفكر العلمي

الفيلسوف طاليس نشأة الفكر العلمي

كانت طموحات هذا الفيلسوف الإغريقي بلا حدود, فبعد أبحاثه في الهندسة والفلك والرياضة, أراد أن يضع أول تفسير علمي لنشأة الكون والحياة.

كان للمعتقدات الدينية, أهمية عظمى في العصور القديمة, وكان الإيمان بتعدد الآلهة, من أكثر الأساطير شيوعًا في ثقافات تلك العصور, ومازالت آثارها متفشية في بعض المجتمعات المعاصرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ومناطق أخرى من العالم.

وكان لكل شعب وحضارة وقبيلة ومدينة وقرية, وحتى لكل أسرة أساطيرها وآلهتها وطواطمها الخاصة التي تنتجها مخيلتها, وقد أفاض علماء الاثنيات والأنثروبولوجيا والميثولوجيا في دراسة أسباب هذه الظاهرة ومؤثراتها في المجتمعات الإنسانية القديمة والحديثة, فذكروا الكثير من أسماء آلهة الفراعنة والبابليين والآشوريين والفينيقيين والفرس والرومان والعرب قبل الإسلام. لكن أكبر تجمع للآلهة في تلك العصور تمثل في الميثولوجيا اليونانية التي يفوق عددها الألف إله, يسكن بعضهم في السماء, وبعضهم الآخر في الأرض, كما يذكر (ول ديورنت) في كتابه (قصة الحضارة).

اعتقدت تلك الشعوب أن آلهتها تملك إلى جانب خصائصها الإلهية أمزجة وعواطف إنسانية, فتحب وتكره, وتفرح وتغضب, وتتحاسد وتتزاوج وتتوالد وتتصارع فيما بينها حتى الموت أحيانًا, وتسيطر على مسارات الكون وظواهر الطبيعة ومصائر البشر. فكان الناس يرتعدون خوفًا من غضبها وصراعاتها, فسخّروا معظم جهودهم لإرضائها وطلب غفرانها باعتبارها ملاذهم الروحي ومحط آمالهم في الخير والشر, وبنوا لها المعابد الضخمة, وقدموا إليها القرابين من الحيوانات والبشر, ورفعوا لها الصلوات والأدعية. لم يكن يوجد وسط هذه الفوضى العارمة من الآلهة غريبة الأطوار أي أمل في دراسة مظاهر الكون وفهمه, وفك طلاسم الطبيعة وألغازها, طالما استمر اعتقاد الإنسان بأنه خاضع لرقابة هذه الآلهة وعبد لها ولتصرفاتها غير المتوقعة, وعندما جاء الإسلام اعتبر الإيمان بتعدد الآلهة مفسدة لعقل الإنسان وتعطيلاً لوظيفته الأساسية التي خصّه الله بها, وهي التفكير والتبصر في مظاهر الكون وعجائب المخلوقات وعظمة الخالق واكتشاف القوانين والمبادئ التي تسيّر الكون والطبيعة وتسخيرها لإعمار الأرض وتنمية حياة الإنسان المادية والروحية.

كان من الطبيعي أن يهاجم القرآن عقيدة تعدد الآلهة بعنف ويكفّر أتباعها, لأن عقيدة التوحيد هي الركيزة الأساسية لتعاليمه. نقرأ ذلك في آيات قرآنية كثيرة منها لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون . ويدحض الله مقولة اتخاذه ولدًا أو مشاركته في الخلق أو الألوهية. نقرأ ذلك في الآية ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذًا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون .

فالكون بالمفهوم القرآني أقامه إله واحد على قوانين ثابتة, وأي تغيير فيها يؤثر سلبًا في مسيرة هذا الكون والأحياء التي تعيش فيه, أي أن ثباتها يسمح لنا بدراسة عالمنا, حيث كل شيء فيه يسير وفق منظومة القوانين الناظمة للكون كله.فلو بقي الإنسان على إيمانه بتعدد الآلهة لشلّت قدرته على معرفة العالم الذي يعيش فيه وفهمه.

علوم وأساطير

لم يكن للإغريق كتب مقدسة أو عقائد محددة يخضعون لها, ولم يعرفوا أي نوع من الإلهيات المنظمة, بل امتزجت عندهم دائمًا نزعتان متناقضتان: نزعة شعرية وأسطورية تمثلهما الإلياذة والأوديسة المنسوبتان لهوميروس, ونزعة عقلية وعلمية تمثلهما قلة قليلة من مفكريهم, لكنها لا تقتصر على رجال العلم والفلسفة وحدهم, بل يشاركهم فيها التجار الذين كانوا عمليين إلى حد كبير, بحيث لم يكن للميثولوجيا أي دور في أعمالهم التجارية والمالية مع أن رجال العلم كانوا يسلّمون أحيانًا بالأساطير على أنها أوصاف شعرية لأشياء لا تخضع للتفسير العلمي كما يقول سارطون.

كانت هذه القلة من مفكري الإغريق أول من فطن إلى فساد عقيدة تعدد الآلهة وعدم منطقيتها, واقتربوا من فكرة خالق وحيد للكون والموجودات, لكنهم اختلفوا في خصائصه عندما لاحظوا أن الكون آلة محكومة بمبادئ وقوانين صارمة, غاية في الدقة والتنظيم, وأنها لا بد من أن تكون صادرة عن خالق واحد مطلق القدرة ولا يشاركه في عملية الخلق أحد, إلا أنه زوّد الإنسان بعقل يستطيع فهم وإدراك هذه القوانين ودرسها. وقد غرس هذا التفكير الجديد عقيدة التفاؤل بمستقبل الإنسان وعلاقته بالكون, وأصبح جزءًا رئيسيًا من تراث الإنسانية الفكري الذي جسّدته فلسفة التنوير الأوربية.

كان طاليس على رأس مجموعة من مفكري اليونان الذين نبغوا في منطقة أيونيا على الشواطئ الآسيوية الغربية لتركيا الحالية التي استعمرها اليونانيون بين القرنين الثاني عشر والتاسع ق.م. وجعلوا منها منطقة مزدهرة للعلم والفلسفة والتجارة والمواصلات البرية والبحرية, واشتهرت فيها مجموعة من المدن أهمها ميليتوس وساموس وشيو وايفيز وكولوفون وتيوس وفوسيه... إلخ.

وقد نبغ إلى جانب طاليس كسينوفان (نهاية القرن السادس ق.م.) الذي هاجم ديانة تعدد الآلهة هجومًا عنيفًا, والفيلسوف وعالم الفلك أنكسيماندر (610 - 547 ق.م.) الذي طوّر أفكار طاليس العلمية, ونشر في أواخر حياته بحثًا في الطبيعة يعتبر أول بحث في فلسفة الطبيعة في تاريخ الفكر البشري. والفيلسوف وعالم الطبيعة انكساغوراس (510 - 428 ق.م.) الذي اعتقد أن لا شيء يولد من لا شيء, وأن العالم ليس سوى مجموعة غير متناهية من العناصر المادية المتشابهة التي تتألف منها الأشياء, وأن العقل نفسه يتكون من هذه العناصر, لكنها عناصر سامية. ويقول المؤرخ اليوناني (ديوجين لايريتوس) (القرن الثاني الميلادي) الذي يعتبر أحد المصادر الرئيسية للفلسفة اليونانية وعلومها, كما يقول ديورنت (ص640 من الترجمة العربية), أن تلك المجموعة من المفكرين طوّرت نموذجًا جديدًا للمعرفة وفهم العالم يرتكز على البرهان والمنطق والاستدلال الذي كان من ثماره ظهور طائفة من العلماء والفلاسفة في كل فروع المعرفة كهيبوقراط في الطب, وأرخميدس في الرياضيات والفيزياء, وأرسطو في الفلسفة والعلوم والمنطق, وبروتاجوراس وديموقريطس... إلخ.

ولد طاليس حوالي سنة 640 ق.م. في مدينة ميليتوس الواقعة على مصب أحد الأنهار على الساحل الشرقي لبحر إيجه, وكانت أكثر المدن اليونانية ازدهارًا ومركزًا تجاريًا وثقافيًا ودينيًا مهمًا. وأكبر الظن أنه من أبوين فينيقيين كما يقول المؤرخ هيرودوت, وتلقى معظم تعليمه في مصر وبلاد ما بين النهرين, وبذلك تمثل فيه انتقال الثقافة من الشرق إلى الغرب.

المنطق الهندسي

يعزى إلى طاليس إدخال العلوم الرياضية والفلكية إلى بلاده اليونان, ويقال إنه قاس ارتفاع الأهرام أثناء دراسته في مصر إلى جانب تعلمه طائفة من الحقائق الهندسية فيها. ولما عاد إلى أيونيا واصل دراسة الهندسة النظرية التي خلبته بمنطقها السليم, وما فيها من الاستدلال العلمي الخالي من الشعوذات والأساطير, وقام بشرح كثير من النظريات التي أفضت بالتدريج إلى أصول إقليدس وإلى جميع النتائج الهندسية العجيبة في أيامنا كما يقول سارطون. وكانت هذه النظريات الأساس الذي قام عليه علم الهندسة النظرية في اليونان, كما كانت دراسته لعلم الفلك الأساس الذي قام عليه هذا العلم في الغرب بعد أن خلّصه من التنجيم الممتزج بالأساطير, التي أدخلها فيه الشرقيون. وقد أذهل سكان مدينته ميليتوس عندما تنبأ بكسوف للشمس وقع في 28 مايو سنة 585 ق.م. وكذلك عندما أخبرهم أن الشمس والنجوم التي يعبدونها كآلهة ليست سوى كرات من نار, فكان بذلك أول رائد للعلم بمعناه الحقيقي في الغرب.

أراد طاليس أن يفسر كيفية نشوء الكون والمخلوقات تفسيرًا حسيًا, يمكن فهمه دون اللجوء إلى التفسيرات الخرافية التي استعملها سابقوه ومعاصروه, فقال إن الماء هو المادة الأساسية التي صنع منها العالم المادي الذي يحيط بنا من كل جانب, أي أنها المبدأ الأول لجميع الأشياء, وشكلها الأصلي ومصيرها النهائي.

لم يكن هذا الاستنتاج صحيحًا من الناحية العلمية, ولا مبتكرًا لأن الماء لا يدخل في تركيب جميع الأشياء في الطبيعة, باستثناء الأحياء, كما جاء في القرآن الكريم: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}. ولكن أهم ما جاء به طاليس هو إرجاع جميع الأشياء إلى مادة واحدة وأصل واحد. لقد طرح سؤلاً فلسفيًا, وأجاب عنه إجابة علمية مجردة من أي أثر للآلهة أو الميتافيزيقا. وعلى الرغم من هذه الآراء المادية, كما وصفها أرسطو فإن طاليس أضاف إلى مقولته السابقة أن الحياة صفة لكل جزء من أجزاء العالم, وأن المادة والحياة وحدة لا تنفصل, وأن للمعادن والجمادات والنباتات (نفسًا) خالدة كما الإنسان والحيوان, وأن القوة الحيوية تتغير صورتها, لكنها لا تموت أبدًا.

اقترب طاليس من تصوّرات المنهج العلمي عندما تساءل عن ماهية الكون وموجوداته, وكان للبيئتين الطبيعية والثقافية التي ولد وعاش فيها دور رئيسيّ في صياغة استنتاجاته.

الأرض...أسطوانة ضخمة

كان الإغريق يعتقدون أن مياه الأطلسي تحيط بالأرض من كل جوانبها, بينما اعتقد طاليس أن الأرض عبارة عن أسطوانة ضخمة طول قطرها آلاف الكيلومترات تعوم على بحر من المياه بغير حدود, وتخترقها الأنهار, وتنتشر على سطحها البحيرات, وتتفجر من باطنها الينابيع, وعندما تجف المياه, وتتبدد في الهواء, تعود لتتحول إلى أمطار بين حين وآخر, واستنتج من كل ذلك أن الماء يحيط بنا من كل الجهات. وذهب به الظن إلى أن اليابسة نفسها مكوّنة من المياه, وأنه تثبّت من ذلك عندما زار مصر في شبابه, ورأى كيف تفيض مياه النيل على الأراضي المحاذية فترويها, وكيف يترسّب الطمي الخصيب عندما تنحسر تلك المياه إلى مجاريها الأصلية, وكيف أدى تراكم الطمي مع مرور الزمن إلى تكوين مساحة كبيرة من الأرض على شكل مثلث يشبه حرف (دلتا) في الأبجدية الإغريقية, لذلك أطلق عليها اسم دلتا النيل. وبعد أن فكر طاليس مليًا بكل ذلك توصل إلى ما اعتقده نتيجة منطقية لما رآه ولاحظه, وهو أن الماء أساس كل شيء.

كانت فكرة تكوّن الأشياء من الماء معروفة عند البابليين إلى جانب معارف مهمة في علمي الفلك والرياضيات. وكان طاليس قد زار بابل مرات عدة في شبابه, فكان من الطبيعي أن تؤثر تلك الحضارة بعمق في شخص مثله يقظ التفكير والتأمل, ولاشك أنه نقل الكثير من معلومات بابل العلمية إلى بلاد الإغريق.

وكان اعتقاد البابليين أن اليابسة عبارة عن قرص يرتكز على طبقة من المياه العذبة تتشكّل منها الأنهار والبحيرات والينابيع, وهي (أي الأرض) محاطة بالمياه المالحة من جميع جوانبها.

يشبه ظاهر هذا الاعتقاد ما قال به طاليس, إلا أن فروقًا عميقة تفصل بين المفهومين كما يقول عظيموف. فالبابليون, على عكس طاليس, لم يعتبروا المياه كمياه, بل كمجموعة من الكائنات فوق الطبيعية المتصلة بالآلهة, لكن طاليس تناول الفكرة البابلية من ناحية أخرى تستغني عن الآلهة, وعمّا يقوم بينها من المعارك الكبرى كما تحكي الأساطير, لذلك اختصر جوابه عن السؤال الذي طرحه على نفسه بالقول إن جميع موجودات الكون مركّبة من المياه, ولم يزد عليه أي دور للآلهة. وقد تابع مع تلامذة مدرسته (الأيونية) البحث عن تعليل لنشأة الكون دون اللجوء إلى الآلهة, وبذلك وضعوا تقليدًا في البحث العلمي مازال قائمًا حتى اليوم.

ما أهمية هذا التقليد?

كان من الأهمية القصوى تعليل نشأة الكون بعيدًا عن تدخل الآلهة, لأنه سمح للعلم بالتطور بعد انعتاقه من الخرافات والأساطير. فلو فرضنا - كما يقول اسحق عظيموف في كتابه (Great Ideas of Science) - (أن الكون خلق وحكم بواسطة مجموعة من الآلهة, وأن هذه الآلهة كانت تتصرّف وفق أهوائها المتضاربة, لاستحال عندئذ الاعتماد على سلوك كوني ثابت يمكن دراسته وإدراكه, لأن كل شيء فيه متعلق بالنزوات المتغيرة للآلهة).

بالنسبة لطاليس ومدرسته, لا دخل للآلهة في عمل الكون, لأنه لا يخضع إلا لطبيعته الذاتية. وأدى هذا الاعتقاد بطاليس وتلامذة مدرسته إلى وضع فرض علمي أساسي مؤداه أن الكون يسير وفق مبادئ ثابتة لا نستطيع تبديلها, ولا إلغاءها ولا إخضاعها لنزواتنا. فلو خضع الكون لنزوات آلهة الأساطير خيرها أو شرها, لما استطاع الإنسان ولا العلم التنبؤ بما سيحصل في المستقبل.

إن الافتراض الطاليسي الأول, يقودنا إلى افتراض آخر فحواه أن العقل الإنساني يمكنه استكشاف طبيعة النواميس التي تسيّر الكون, وفكّ طلاسمها. ومن هذين الفرضين: وجود نواميس طبيعية تسيّر الكون, ثم قدرة العقل الإنساني على اكتشافها تتألف فكرة العلوم, التي هي اليوم في قمة عنفوانها.

كانت هذه الفكرة شبه منطفئة في أوربا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية, لكنها بدأت تفرض نفسها فجأة منذ القرن السادس عشر تحت تأثير ترجمة معظم العلوم العربية ومناهجها التجريبية إلى اللغة اللاتينية, أي منذ بدأت تنفصل عن التصوّرات اللاهوتية عن الكون.

اليقين المتغير

وإذا كان العلم قد توصل أيضًا إلى مبدأ مهم آخر, وهو (محدودية المعرفة الإنسانية), أي نظرية عدم اليقين التي وضعها الفيزيائي الألماني ورنر هيزنبرج عام 1920, ومؤداها أنه يستحيل على العقل البشري أن يحدد بدقة, وفي الوقت نفسه موقع هدف معين وسرعته في لحظة ما, بل يستطيع فقط تحديد أحدهما بالدقة المطلوبة, وليس كليهما معًا, فإن ذلك لا يدل على خطأ افتراض طاليس الثاني, أي الشك بقدرة العقل الإنساني في الوصول إلى المعرفة التي تتيح له حل ألغاز الكون, لأن مبدأ عدم اليقين نفسه هو قانون طبيعي, والعقل يدرك وجود حدود للدقة التي بواسطتها يستطيع قياس الكون, وبذلك تكون فكرة العلم كما حددها طاليس منذ 2500 سنة صحيحة.

 

محمد كامل ضاهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات