مختارات من أشعار للأطفال

مختارات من أشعار للأطفال

في عام 6917, عام مأساة حزيران (يونيو) المفجعة في تاريخ هذه الأمة, بدأت كتابة الشعر للأطفال, ومازلت أعطي هذه التجربة النصيب الأوفى والقسط الأكبر من جهدي واهتمامي.

تنوعت هذه الكتابات الشعرية من النشيد المركز الذي يتناول حياة الطفل في البيت والمدرسة والشارع والطبيعة.. إلى القصة الشعرية الصغيرة.. إلى المسرحية الشعرية التي تكتب لتلحَّن وتمثَّل, إلى المسلسلات الشعرية التي تتألف من حلقات عدة بلغ بعضها إحدى وعشرين حلقة كما في (ملحمة القطار الأخضر).

وقد حاولتُ منذ سنوات أن أجمع ما كتبتُه من شعر للأطفال فإذا هو أربعة مجلدات تحمل العناوين التالية:

ديوان الأطفال, شعراؤنا يقدمون أنفسهم للأطفال, مسرحيات غنائية للأطفال, أغاني الحكايات.

وستكون وقفتي في هذه الكلمة عند (ديوان الأطفال) الذي يضم ثلاثة أقسام:

  • أناشيد البراعم.
  • حكايات تغنى للصغار.
  • الأناشيد العامة التي تقف عند سن معينة, فليس للأناشيد سن محددة فيما أرى.

أناشيد البراعم

أما أناشيد البراعم فهي أناشيد كتبت ليغنيها الصغار لا ليقرأوها, وهم دون سن السادسة من العمر. وعندما يغنونها سيحفظونها. ذلك أن الطفل - في رأيي - رادار عجيب يحس ويتذوق ويفهم أكثر مما نتصور بكثير. وهذا رأي تؤيده البحوث النفسية والتربوية الحديثة.

على أن لي بالإضافة إلى ذلك غرضاً قومياً. فالكلمة العربية الفصيحة الجميلة هي التي تبني شخصية الطفل القومية, إلى جانب دورها في تكوين فكره السليم.

وموضوعات هذه الأناشيد محببة لأطفال هذه المرحلة العمرية, فهي: عدّ الأرقام مع عبارات جميلة, وحروف الهجاء, والحقل الأخضر, والشجرة, والرسم, وأقلام التلوين, والأرجوحة, والطيارة.. إلخ.

ومن أمثلة هذه الأناشيد, نشيد الأرجوحة:

طيري بنا طيري مثل العصافير
يا مركب الأحلامْ يا بسمة النور
طيري إلى الوراءْ طيري إلى الأمام
أحلى من الأنسامْ بين الأزاهير
أرجوحتي طارتْ عصفورة صارت
يا حسنَها دنيا فُلٍ ومنثورِ


حكايات الصغار

وأما حكايات تغنى للصغار, فهي حكايات أسطورية معروفة, سمعناها أو قرأناها ونحن على عتبات الطفولة:

(الغراب والثعلب), (الثعلب والعنب) و(الراعي والذئب)... إلخ. إنها خرافات حلوة تلعب بخيال الطفل, وتحمل في نهايتها العبرة والحكمة والتجربة.

أعرف أن بعضها قد نظم شعراً, وأني كنت ممن حفظوا في طفولتهم مثل هذه الحكايات المنظومة, ولكن أساتذتنا الذين كلّفوا أنفسهم عناء هذا العمل أغفلوا الشعر, أو قل: إنهم لم يتركوا لنا شيئاً من النبض الشعري في هذه المنظومات, فظلت أقرب إلى الجفاف. ولا يملك المرء إلا أن يزجي إليهم التحية على خطواتهم الرائدة فلولاهم لما بدأنا.

ولا أدري كيف شدتني هذه الحكايات إليها وأعادت أمامي شريط الطفولة. فإذا أنا أشرع في كتابتها مرة أخرى قصائد موجزة مركزة للصغار, تشيع فيها الكلمة النابضة والصورة الجميلة والسياق الذي يتحرك بين المتحاورين - والمتحاورون جُلُّهم من الحيوان والطير - كما هو معروف في مثل هذه القصص المتخيلة منذ أقدم العصور.

ولقد جعلتُ الحوار ينتقل فجأة من المتكلم إلى المخاطب ومن المخاطب إلى الغائب, ولوّنتُ الأوزان الشعرية, لوّنتُ النغم والموسيقى في الحكاية الواحدة فلم أقتصر إلا نادراً على نغمة واحدة. بل إني جعلتُ من بعض هذه الحكايات تمثيليات صغيرة يفيد منها الأولاد في المسرح المدرسي الغنائي, ذلك لأني أطمح أن تمتدّ يدُ اللحن إلى هذه القصائد فتحيلها قطعاً غنائية يرددها الصغار. وعندئذ ألتقي مرة أخرى هدفي وشعاري الذي أردده دائماً: (دعوا الطفل يغنّي.. بل غنوا معه أيها الكبار) وقد ذيلت كل حكاية بحكمة تلخصها, وتعطي معناها التربوي.

ومن أمثلة هذه الحكايات:

الغراب والثعلب

أنا الثعلب
أنا الثعلب
أدورُ أدورْ
مضى زمن وتحت الغصن لم أبرح
أدور أدور
سآكلها
ستصبح من نصيبي قطعة الجبنِ
وفوق الغصن
فوق الغصن كان غراب
كبير, حالك اللونِ
يعض بقطعة زهراء ناضرة
من الجبنِ
تصيدها, متى? من أين?
لا تسأل, وتابعني
تخيره مكاناً هادئاً
في هذه الأفنان
وحط هنا ليأكلها
بمنجاة من العدوان

الطفل وعوالمهُ المختلفة

القسم الثالث من الديوان هو الأوسع والأغنى, لذلك ستطول وقفتي عنده بعض الشيء.

وهو يتشكل من الأناشيد والمقطوعات الحوارية التي تتناول جوانب عديدة, أهمها: العالم الشخصي للطفل, عالم المدرسة واللعب, عالم الطبيعة, عالم الإنسان.

فالأناشيد التي تتناول العالم الشخصي للطفل تهدف إلى زيادة ثقته بنفسه ومساعدته على تكوين مثل أعلى يستهدي به خلال نموه.

وهي تتحدث عن أسماء الأطفال ومعانيها الجميلة, وعن أمتهم وتراثهم, والمستقبل الذي يرغبون فيه.

ومن أمثلة هذه الأناشيد:

الرمل الناعم بين يدي وأنا ألعبْ
أبني وطناً وطريق غدِ أبني ملعبْ
اسمي من ديوان العرب اسمي نسيم
اثنان نرفرفُ, قال أبي أنا والغيم


ونشيد (غالية) التي تقول:

أجمل العطر يسمى غالية
وبلادي غالية
وأبي غالٍ
وأمي غالية

ونشيد (الطيار) الذي يقول على لسان طفل:

إنني طيارْ
في غد طيارْ
عندما أنمو قليلاً
أتحدَّى المستحيلا
أجعل الريح عناني
وتكونين حصاني

ومن الأناشيد التي تشيد بالتراث نشيد (الحرف الأول) الذي يذكر الأطفال بأن أجدادهم وضعوا أول أبجدية نشرت الحضارة والنور بين البشر يقول النشيد:

الحرف الأول من بلدي
أرسلناه يهدي البشرا
والنور الأول صنع يدي
من شاطئنا في الأرض سرى

كما أنني لم أنس أن الطبيعة جزء مهم من عالم الطفل, وهي منجم للمعارف الثرة والعواطف النبيلة, يكتسبها الأطفال عن طريق التغني بالفصول الأربعة, والغيم والمطر, والشمس والقمر, والنهر والشجر, والبحر والماء, والريح والثلج, والنجمة وقوس قزح.. وبما صنعه الإنسان من خير للطبيعة كالمروج والحقول والمزارع والحدائق العامة ونوافير المياه.. إلخ. فكان لي في الديوان أكثر من وقفة وأكثر من نشيد عن هذه الموضوعات, وعن الحيوانات الأليفة التي تحيط بالأطفال منذ نعومة أظافرهم, وتبادلهم الأخذ والعطاء: حباً بحب, وخوفاً بخوف, وأحياناً أذى بأذى.

وبالرغم من أن (الحكايات) تعطي هذه الحيوانات مكانة متميزة, إلا أن الأناشيد تتغنى بها بنبرة عاطفية تسمو بمشاعر الأطفال وبأسلوب تعاملهم معها, ناهيك عن الذخيرة الواسعة من المفردات والمعلومات التي يحصّلونها منها.

فالأرنب: أبيض أبيض مثل النور
يعدو في البستان يدور
يبحث عن ورقات خضر
يخطفها كالبرق ويجري

وتشير هذه الأناشيد إلى المنافع التي يجنيها الإنسان من هذه الحيوانات المعطاءة; كما يقول هذا النشيد على لسان الخروف:

أنا أعطي بسخاء لذة عندي العطاء
لك من صوفي دثار وثياب يا نزار
تنقي في الشتاء كلما تشرين جاء
لك يا هيفاء شال بذؤاباتٍ طوال
مانع بالعشب أخضر لست من يطلب أكثر


وتمضي على معاملتها برفق وحنان.

هذا وفي الديوان باقة من الأناشيد التي تتغنى بالأفراد الذين يحيطون بالأطفال ويعنون بهم, بدءاً من الأم والأب وبقية أفراد الأسرة وانتقالاً إلى أهل الحي وجماعات المدرسة والقرية أو المدينة والوطن والأمة والإنسانية.

القيم الاساسية

وهناك أناشيد تتغنى بالقيم الأساسية في حياة البشر كالعمل والتعاون والعدل والطموح والإبداع والتقدم العلمي والتقني.

ومن هذه الأناشيد, نشيد (عمي منصور نجار) الذي يتحدث عن براعة العم منصور فيما يصنعه من أدوات, حيث يكون العمل متعة وإبداعاً في آن معاً, ونشيد (غرفة من زجاج) الذي تتغنى فيه طفلة اسمها سعاد بالغرفة التي صنعها أبوها الحداد من زجاج, وراحت تتمتع فيها بضوء الشمس وهي تقرأ قصصها المفضلة, ونشيد (الفلاح) الذي يتغنى فيه أحد الفلاحين ببكوره للعمل في الحقل, واستخدامه الجرار الحديث في عمله ونشيد (العمال) و(الشباب يشقون الطرقات) وغيرها.

وقد حرصت في مجمل الأناشيد على أن يتغنى الأطفال بالتقدم ومواكبة العصر, ولا سيما في أناشيد: الطيارة, ومركبة القمر, والقمر العربي, والقطار, والسد المائي.. يكفي أن أمثل لها بنشيد (يا صغاري) الذي أقول فيه:

يا صغاري, نحن في عصر الفضاءْ
كل شيء بسنا العقل أضاءْ
قد مشينا بهداه مرة
وعرفتم كيف طاولنا السماء
من مصابيح الدجى أجدادكم
لم يكونوا السحر, كانوا العلماء

حين أفرغ من كتابة هذه الكلمات تكون تجربتي في الكتابة للأطفال قد أتمت عامها الخامس والثلاثين, فقد ذكرت أعلاه أنها بدأت بعد نكبة حزيران (يونيو) 1967.

ومنذ ذلك الحين, واصلتُ حياتي الشعرية مع الصغار, عشت معهم, وغنيت معهم, ورافقتهم في مدارسهم, وفي حفلاتهم, ودعوت أصدقائي الملحنين في سورية وغيرها من أقطار الوطن العربي الكبير, لكي يقوموا بتلحين الأناشيد والمسرحيات الشعرية التي كتبتها لهم, وطرحت شعاري المعروف منذ البداية, الشعار الذي مازلت مقتنعاً به, والذي يقول:

دعوا الطفل يغني
بل غنوا معه.. أيها الكبار

ولقد كانت دهشتي - ولاتزال - أكبر من كل ما توقعت حين وجدت الأطفال, في سورية وفي غيرها من الأقطار العربية, يقبلون على هذه الأناشيد, ويغنونها, ويتجاوبون معها في حماسة ولذة لم تخطر لي على بال. إنهم يلحنون الأناشيد بأنفسهم, ويبدعون لها الإيقاع الذي يروقهم, قبل أن تصل إليهم ملحنة.

ولعل السر يكمن في أنها تستند إلى إطار نظري مقنع, توصلت إليه خلال تجربتي الطويلة, وجعلت منه مقدمة لديوان الأطفال نفسه.

لماذا تكتب للصغار?

الجواب:

لأنهم فرح الحياة, ومجدها الحقيقي.

لأنهم المستقبل.

لأنهم الشباب الذي سيملأ الساحة غداً أو بعد غدٍ.

لأنهم امتدادي وامتدادك في هذه الأرض. لأنهم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية لتعود إليها دورتها الدموية التي تعطلت ألف عام, وعروقها التي جفت ألف عام.

قل: أكثر من ألف عام.
ألا يكفي هذا ليشدني إليكم.
يا أصدقائي الصغار.
ويربطني بكم يوماً بعد يوم?

سيمفونية البراءة

منذ يومين.. كان طفل في التاسعة يقفز على الرصيف وهو يضرب أوراق الخريف المتناثرة برجله الصغيرة, ويغني:
ورقات تطفر في الدرب
والغيمة شقراء الهدب
والريح أناشيد
والنهر تجاعيد
يا غيمة, يا أم المطر
الأرض اشتاقت, فانهمري
الفصل خريف
وكانت أمه تشده من يده, وتستعجله ليلحق بها, وهو منصرف إلى لعبته مع أوراق الرصيف, ونشيده الذي ابتكر لحنه بنفسه, وكنت أنا على الرصيف, قريباً من صديقي الصغير, وكل صغير صديقي, استمع إلى كلماتي السابقة وقد تحولت إلى (سمفونية) صغيرة من الحركة, والحب, والبراءة بين قدميه.
إنه لا يعرفني.
ولكن.. صدقوني أن لعبة الصغير الموسيقية كانت أجمل مكافأة يمكن أن يتلقاها شاعر على نشيد.
إني لا أكتب للصغار لأسليهم.
ربما كانت أية لعبة أو كرة صغيرة أجدى وأنفع في هذا المجال.
إني أنقل إليكم تجربتي القومية..
تجربتي الإنسانية..
تجربتي الفنية..
أنقل إليكم همومي وأحلامي..
يا أعزائي الصغار.
وعندما تكبرون قليلاً
سترون أني لم أخدعكم
لم أضع وقتكم الناضر الثمين بشيء تافه.
إنكم أغلى علي, وأعز عندي من ذلك.
أغلى كثيراً.. وأعز كثيراً.
إنكم جديرون بأن تحملوا الأمانة العظيمة منذ الآن.
أمانة عودة الأمة العربية العظيمة المنكوبة, الممزقة, عودتها إلى موكب الإنسانية, لتساهم في الإبداع والعطاء مرة أخرى.
كما أبدعت وأعطت عبر التاريخ.
كبيرة هذه الكلمات على طفل.
أليس كذلك?
ربما همس بهذا بعض الكبار..
وهم يقرأون هذه السطور.
أنا أعتقد أن الشجرة العظيمة بنت الغرسة العظيمة.
وأن الصغير الذي يحمل في طفولته فكرة كبيرة هو الذي يخلق الوطن الكبير, والحياة الخصبة المبدعة.
غنوا معي إذن, أيها الصغار.
غنوا معي.. أيها الملايين من الأطفال الذين حرموا الضوء, والفرح, والنشيد الجميل..
كما حرموا الثوب, والدفء, والحذاء الجميل.
غنوا للحرية, والتجديد والحياة..
يا أمل الحرية..
ورصيد التجديد
وفرح الحياة

 

سليمان العيسى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات