الفلسفة تعيد السؤال عن نفسها محمود أمين العالم
الفلسفة تعيد السؤال عن نفسها
على أن المسألة ليست بحثا عن إجابة في شكل تعريف للفلسفة.. فلو كان الأمر كذلك لوجدنا التعريف جاهزا.. (عفوا) لوجدنا أكثر من تعريف جاهز كذلك عبر التاريخ الطويل للمدارس الفلسفية المختلفة: فقد تكون الإجابة متعلقة "بالبحث عن الوجود من حيث هو" أي مشاكل الوجود الأولية والأساسية كما في الفكر اليوناني، وقد تكون متعلقة بالأخلاق العملية كما في العصر الهليني، أو بالعلاقة بين الله والإنسان أي بالدين كما في الحضارة الإسلامية والعصر الوسيط المسيحي، أو متعلقة بالأنا أفكر، أو بالأنا الموجود، أو بالتجريبية أو النقدية أو التنويرية أو العقلانية والحدسية إلى غير ذلك في عصرنا الراهن. وباختلاف هذه التعاريف تبرز الطبيعة التاريخية للفلسفة.. أي اختلافها باختلاف مراحل التاريخ، واختلاف الأوضاع الذاتية والموضوعية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن سؤال الفلسفة عن نفسها اليوم، أو سؤالنا نحن عن الفلسفة اليوم، هو سؤال عن راهنية الفلسفة، أي عن علاقة الفلسفة بعصرنا الراهن: وأتساءل قبل السؤال: هل هو سؤال معرفة؟ أم سؤال أزمة؟ وأقول منذ البداية: إنه سؤال أزمة. وهذه هي القضية التي نعرض لها في مقالنا هذا، دعوة للحوار أكثر منها محاولة للإجابة عن سؤال. ما هي الفلسفة؟.. هذا السؤال ليس سؤالا شخصيا.. بل يكاد يكون سؤال عصرنا الراهن. ولعل أبرز من عبر عنه في السنوات الأخيرة هو فيلسوف فرنسي يعد واحدا من أبرز فلاسفة فرنسا المعاصرين هو جيل دولوز في كتابه: "ما هي الفلسفة؟" الذي صدر عام 1991 بالمشاركة مع فيلسوف فرنسي آخر هو فيلكس جتاري. وكتاب دولوز هو آخر كتبه فيما أعتقد قبل انتحاره، كتبه في أواخر عمره بعد عمر طويل من البحث والإبداع الفلسفي. لماذا السؤال بعد كل هذا العمر من الممارسة الفلسفية الطويلة، ولماذا السؤال اليوم؟ لنفس السبب الذي دفعني إلى السؤال منذ ثلاثين عاما، إنه سؤال أزمة لا سؤال معرفة. وعندما نتحدث عن أزمة الفلسفة، فنحن نتحدث عن الفلسفة في عموميتها، نتحدث عن موقفها وإجاباتها إزاء الأوضاع الإنسانية السائدة. لا نتحدث عن مستوى الدراسات الفلسفية في بلادنا أو أي بلد آخر. فهذا أمر آخر وحديث آخر. هناك أزمة في الفلسفة على المستوى الفكري الإنساني العام. أزعم أنها جزء من الأزمة العامة التي يعانيها العالم كله في مختلف أقطاره وفي مختلف جوانب حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والقيمية بوجه خاص. أقول هذا، دون أن أنفي أو أتعالى عن ذكر أزمتي الفكرية الخاصة المتمثلة في انهيار تجربة الحلم الذي كان واعدا في المنظومة الاشتراكية عامة، والاتحاد السوفييتي خاصة، وفي المشروع القومي المصري العربي وفي تفاقم هيمنة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. هذه الهيمنة التي تتمثل بوجه خاص في وجهيها الصهيوني والأمريكي. على أن الاعتراف بأزمة لا يعني النكوص عن طريق الحلم أو التسليم لأعدائه، وإنما هو مراجعة نقدية واعية للفكر والنفس والواقع لمواصلة أفضل وأعمق فيما أرجو. على أن ما يعنينا هنا هو الجانب الفكري من أزمة الفلسفة. ولهذا أكتفي بالإشارة باختصار شديد إلى أن عصرنا الراهن أردنا أم لم نرد، رضينا أم لم نرض، هو عصر سيادة حضارة أوربا الرأسمالية، التي فرضت نفسها وأصبحت حضارة العالم، ولقد تميزت هذه الحضارة عند نشأتها بسيادة العقل، والتطلع إلى توسيع آفاق الحرية الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان عامة. وأصبح العقل هو مفتاح عصر جديد من المعرفة والتقدم والحرية والازدهار الثقافي والإنساني عامة، وإن اختلفت الأبواب التي راح هذا المفتاح يسعى لفتحها، فديكارت يفتح باب الأنا أفكر، مميزا بين الفكر والمادة الممتدة، وكانط يفتح باب التنوير والقضايا القبلية، ونقد الفكر إبستمولوجيا.. وهيجل يفتح باب الدولة التي تجسد الروح المطلقة ويتصور أنه أغلق بهذا باب التاريخ كله، وماركس يلج بالجدل المادي من باب الصراع الطبقي بين الطبقة الرأسمالية السائدة المسيطرة والطبقة العاملة الصاعدة، مبشرا بعالم جديد تتحقق فيه الوفرة والمساواة والحرية وينتهي فيه الاستغلال. وفرويد يغوص في أعماق اللاشعور والحلم فاضحا الجذور العميقة الدفينة لمظاهر سلوكنا العقلاني رابطا بين التحضر عامة وضرورة الكبت والقمع، ونيتشه يعلن موت الإله ويطرد الأخلاق المسيحية من عالمه ويسلح إنسانه الأعلى بإرادة القوة والاستعلاء. وتدخل بنا المكتشفات العلمية والتكنولوجية الباهرة إلى قلب الذرة، وترتفع بنا في رحلة على سطح القمر وتزيل المسافات المكانية وتكاد تزيل المسافات الثقافية بالتفاعل أو بالاستتباع للقوى الأكبر. الحصاد المر وعلى أن الثمرة في النهاية كانت مرة شديدة المرارة: خلاصتها حرب عالمية أولى بين الدول الرأسمالية نفسها، وصدامات ونضالات وطنية ضد الدول الرأسمالية الغازية، وانقسام العالم إلى معسكرين اشتراكي ورأسمالي، وقيام دول فاشية توسعية تفضي بالعالم إلى حرب عالمية ثانية، ويدخل السلاح الذري لأول مرة مع الأسلحة التقليدية والحديثة لتحقيق إبادة شاملة لملايين من البشر، ويعود العالم بعد الحرب العالمية الثانية إلى حرب باردة بين المعسكرين، وتتصاعد عمليات التسلح وغزو الفضاء وترتفع مداخن المصانع والتجارب التكنولوجية إلى فضاء الإنسان تلوثه بسمومها، ويزداد العنف والإرهاب والتعصب والعدوان وينتهي الأمر بهزيمة النموذج التنموي للمنظومة الاشتراكية وتفكك النظام العربي وإلى الاستقطاب العالمي لمصلحة الهيمنة الرأسمالية العالمية. وخلال هذه المخاضة، يتحول العقل من عقل تنويري تحريري تغييري لمصلحة التقدم والازدهار الإنساني، إلى عقل إجرائي وضعي تقني قمعي يسعى للتفوق العسكري والفضائي والتكنولوجي والصناعي والتجاري، وإلى أجهزة حكم تسلطية وفاشية وعنصرية مستبدة تستخدم العقل ضد العقل نفسه على حساب مصالح الشعوب والسلام العالمي والحقوق الديمقراطية والاجتماعية والثقافية. الحداثة في إطار التخلف ولم يقتصر هذا على البلاد الرأسمالية الاشتراكية، بل اتخذ شكلا أكثر تخلفا في بلدان العالم الثالث، القمع والاستبداد والتحديث النخبوي البراني والتبعية، وارتبط هذا كله بما يسمى بالحداثة، مما أعطى لهذا المفهوم العقلاني التنويري التقدمي الديمقراطي دلالة تتناقض مع حقيقته. ولهذا، كان من الطبيعي أن يكون لهذا كله رد فعل عكسي معاد للعقل نفسه، بل كاد النقد الجذري للعقل أن يصبح "مودة" السنوات الأخيرة، بل تخفى نقد العقل وراء نقد الميتافيزيقا، ووراء نقد التسلط ونقد الأنسقة المغلقة عامة، وأخذت تبرز الاتجاهات اللاعقلية في أشكالها المختلفة، لا ضد الاستخدام اللاعقلاني للعقل، بل ضد العقل نفسه صراحة - كما ذكرنا - سواء في شكل اتجاهات دينية وقومية متعصبة، أو تيارات فكرية ذات نزعات لا عقلية يغلب عليها الطابع القومي أو الذاتي أو الشعوري أو الحدسي أو الوضعي البرجماتي، أو تلك التي ترفض جميع التعميمات والكليات والأنساق الفكرية والاجتماعية والقيمية والتعبيرية باسم ما بعد الحداثة أو ما بعد البنائية. وهكذا يمكن القول إن الساحة الفكرية العالمية اليوم يكاد يسود فيها اتجاهات أربعة أساسية: 1 - الاتجاه
العقلي الإجرائي التقني أو الوضعي. ونكتفي بعرض سريع للاتجاهين الأخيرين لطابعهما الفلسفي الغالب.. ونبدأ باتجاه ما بعد الحداثة مركزين أساسا على كتاب "ما هي الفلسفة؟" لجيل دولوز. ودولوز هو واحد من كوكبة الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين لعل أبرزهم جتاري وفوكو وديريرا وليوتار وسولرز صاحب مجلة Tel Quel. وهم يسمون - على تنوع اجتهاداتهم - باسم فلاسفة ما بعد الحداثة، وفي مقابل نزعة الحداثة التي تعني بشكل عام التنوير والعقلانية والرؤية الموضوعية للتاريخ والتقدم الإنساني والأساس الموضوعي للمعرفة عامة، وتقوم نزعة ما بعد الحداثة على رفض فلسفة التنوير العقلاني ورفض كل فلسفة تقوم على النسق الكلي، أو على مفهوم التاريخ أو مفهوم التطور، فضلا عن الأساس الموضوعي للمعرفة، وبل يرى بعض فلاسفتها وخاصة فوكو أن الحقيقة ليست معرفة أو ثمرة معرفة موضوعية بل هي علاقة قوة. فالحقيقة هي السلطة والسلطة هي الحقيقة. وإن الواقع الإنساني واقع متشظ متجزئ وصراعات من أجل السلطة المنبثة في مختلف المستويات الاجتماعية، والتي تختلف باختلاف مراحل التاريخ دون أن تكون لها دلالة تاريخية. وإلى جانب هذه الرؤية المتشظية المتجزئة للوجود، يسود المنهج التفكيكي في المعرفة لاكتشاف العناصر الأصلية الجوهرية إن كان هناك ما هو جوهري، وتعد هذه النزعة امتدادا لفلسفة نيتشه في إرادة القوة وفلسفة هايدجر في نظريته الوجودية المطلقة وفي منهج تحليلاته اللغوية كمصدر معرفي أساسي. وليس كتاب "ما هي الفلسفة؟" لدولوز إلا تجليا من تجليات هذه النزعة، يعرف دولوز الفلسفة بأنها: فن تكوين أو اختراع أو صناعة أو إبداع المفاهيم، ولهذا فإبداع المفاهيم هو موضوع الفلسفة. والفلسفة عنده ليست تأملا، أو تفكيرا فهذه كلها أدوات لصنع المفاهيم، والمفاهيم الفلسفية عنده مستقلة، من حيث مصدر نشأتها وإبداعها، عن العلوم أو الخبرات الاجتماعية، ذلك أنها خلق وإبداع. وهو يشير إلى المفاهيم التي تتشكل منها الفلسفات المختلفة مثل الهيولا الأرسطية والكوجيتو الديكارتي والموناد عند ليبنتز والمدة أو الديمومة La Duree عند برجسون إلى غير ذلك. الفلسفة والعلم والفن لكن هذه المفاهيم من حيث إنها من صنع الفيلسوف وإبداعه لا تشير إلى أوضاع الأشياء أو إلى معاني الحياة كما يقول وإنما هي مجرد قوة، أو هي حدث Evenment. والحدث عنده ليس شيئا متحققا وليس شيئا غير متحقق بل بنية فكرية تحلق فوق جميع العوامل الممكنة والمحتملة أو بتعبير آخر هي حقيقة ممكنة Virtual أو حقيقة بالقوة لو استخدمنا مصطلح أرسطو. ومهمة المفاهيم هي مواجهة الفوضى أو العماء الذي يشكل العالم والوجود والكون الذي نعيشه، وتعطي لهذه الفوضى أو العماء ملامحه المحتملة أي تصوغ للفوضى وللعماء دلالة ما.. أو دلالة ممكنة. وأشكال الفكر عند دولوز ثلاثة هي الفلسفة والعلم والفن. الفلسفة كما رأينا هي إبداع المفاهيم، أما العلم فيحدد وظائف أوضاع الأشياء، والفن هو الذي يفجر الأحاسيس في إبداعاته. ويتحقق هذا التشكيل المفهومي، أو الوظيفي أو الحسي في مواجهة الفوضى أو العماء على المستوى الطبيعي والإنساني، وهناك تداخل بين هذه العمليات الثلاث، ولكنها مع ذلك مستقلة، لكل منها عالمها الخاص. أما مصدر هذه الأفكار فيكاد دولوز أن يرد هذا المصدر إلى البنية الفسيولوجية العصبية للمخ الإنساني، وهكذا ينعزل الإبداع الفلسفي والعملي والفني عن الواقع الإنساني المعيش والواقع الطبيعي.. وأما خارج هذا الإبداع التشكيلي الفلسفي والعلمي والفني ففوضى وعماء وعدم تحديد. وفضلا عن هذا، فإن دولوز يكاد يعطي الفلسفة طبيعة أو دلالة مكانية أو على حد تعبيره دلالة أرضية محددة أي جغرافية، ولهذا يقصرها على اليونان القديمة، وعلى أوربا الحديثة، متأثرا في ذلك بمفهوم "الجيوفلسفة" عند نيتشه. على أنه بهذا لا يجعل للفلسفة أساسا جغرافيا، بل في تقديري يجعلها أساسا عنصريا يذكرنا بنظرية إرنست رينان القديمة، فهو يلغي بهذا كل الجهود الفكرية والفلسفية قبل اليونان وخارج أوربا. خلاصة الأمر، أن مدرسة ما بعد الحداثة تتذرع بنقد التوظيف الأداتي الإجرائي القمعي الاستبدادي للعقل، للتمرد على العقل نفسه والدفاع عن اللاعقلانية، ورفض كل رؤية موضوعية كلية أو شمولية للواقع الطبيعي أو الإنساني أو الفكري باسم سيادة العماء والفوضى وتشظي الواقع، وبالتالي سيادة فلسفة الاختلاف على حد تعبير ديريدا في مقابل فلسفة الهوية والوحدة والرؤى الكلية دفاعا عن حرية الفكر والعلم والذاتية الإنسانية المطلقة في مواجهة النظريات والأوضاع التسلطية والشمولية. ولعلنا نجد تماثلا كبيرا مع الاختلاف بين هذا الاتجاه ما بعد الحداثي والمدارس الحدسية والشعورية في الفلسفة الحديثة لا عند نتيشه وهايدجر فحسب بل في فلسفة الظاهريات كذلك. وفي مواجهة مدرسة ما بعد الحداثة هذه، نجد مدرسة أخرى ذات موقف نقدي للعقلانية الأداتية القمعية كذلك ولكن دون أن تتخلى عن العقل، بل تسعى لإعطائه مدلولا إنسانيا اجتماعيا تاريخيا فاعلا. لعلنا نتبين الإرهاصات الأولى لهذه الفلسفة عند الفيلسوف الإيطالي المناضل أنطونيو جرامشي، وخاصة في رؤيته للفلسفة وفي امتدادها عند الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير مع إضافة بنيوية. كما نتبينها في مدرسة فرانكفورت، ثم نتبينها أخيرا بشكل أكثر تحديدا في فلسفة هابرماس ونظريته التواصلية أو الاتصالية بوجه خاص. والفلسفة عند جرامشي ليست نسقا متعاليا من التصورات أو نشاطا عقليا خاصا بفئة من العلماء والفلاسفة المحترفين، بل هي نشاط فكري تلقائي يقوم به الناس جميعا تعبيرا عن تصوراتهم للعالم، ولهذا فكل إنسان فيلسوف، والفلسفة موجودة في كل الأنشطة والتعابير والمعتقدات وأشكال السلوك الإنسانية، يمتصها الإنسان منذ ولادته خلال علاقاته وممارساته المختلفة، على أنه كما يقول لا بد من الانتقال من هذا الموقف الامتثالي الاستقبالي إلى موقف التلقي الإيجابي بأن يتخذ الإنسان موقفا نقديا لا بالنسبة لتصوراتنا الخاصة فحسب بل للتصورات الفلسفية السابقة والراهنة وبهذا تنتقل الفلسفة إلى حالة الوعي النقدي وتحقق للإنسان استقلاله التاريخي. على أن الأمر لا يقف كما يرى عند الجهد الفردي وإنما يمتد إلى ضرورة العمل على نشر الفلسفة اجتماعيا وتسليح الناس بها. الفلسفة بهذا ليست مجرد فكر إبداعي في المطلق كما رأينا عند دولوز بل هي فعل تثقيفي نقدي اجتماعي تغييري. وهو بهذا يلخص مقولة ماركس المشهورة: "الفلسفة لا تسعى إلى تفسير العالم بل إلى تغييره كذلك". الاتجاه العقلاني ولكن لعل أبرز المعبرين عن الاتجاه العقلاني ونقد الطابع التقني الوضعي القمعي للعقل في الممارسات الرأسمالية والاشتراكية، ومحاولة تنمية البعد الموضوعي الإنساني للعقل هو الفيلسوف الألماني المعاصر: يرجن هابرماس. ولهذا يطلق على مفهوم العقل عنده العقل التواصلي أو الاتصالي، وهو أبرز الفلاسفة المعاصرين تصديا لاتجاه ما بعد الحداثة وخاصة في نقده لفوكو وديريدا ودولوز وامتداداتهم في الفكر الألماني المعاصر. والعقل الاتصالي عند هابرماس هو فاعلية تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه، فضلا عن نقده للاتجاهات اللاعقلانية والشعورية والحدسية.. وتتسم دراسات هابرماس الفلسفية، بالتداخل بين الدراسات الإبستمولوجية والاجتماعية والسيكولوجية والسياسية والثقافية والأخلاقية والعلمية في برنامج دراسي منهجي موحد. إنه صاحب رؤية عقلانية نقدية مفتوحة على مختلف الأنشطة والاجتهادات والأوضاع الإنسانية في تفاعلها الأفقي وفاعليتها العمودية التاريخية، دون أن يسعى بهذا إلى إقامة أي نسق نهائي مغلق. وبرغم أنه قريب من الماركسية، أو الماركسية الجديدة كما يقال، فإنه يختلف مع ماركس في أمرين أساسيين: فهو يرى أن ماركس قد أخطأ في إعطائه للإنتاج المادي المركز الأساسي في تعريفه للإنسان في رؤيته للتاريخ باعتباره تطورا للأشكال والأنماط الاجتماعية، ولهذا يرى هابرماس أن "التفاعل الاجتماعي" وهو أيضا بعد أساسي من أبعاد الممارسة الإنسانية، وليس الإنتاج وحده، وانطلاقا من هذا النقد تتضح فلسفته التي تقوم على مفهوم الاتصال أو التواصل، ولهذا كذلك يجعل للغة أسبقية وأولوية على العمل، ويتفاعل في فلسفته ويتداخل العقل مع الممارسة، بل يجد في داخل العقلانية نفسها موضعا للاعقلانية. على أن هذه الرؤية الفلسفية ذات التوجه العقلاني النقدي الجدلي الموضوعي الإنساني الشامل الملتحم بقضايا العصر ومشاكله وخبراته ومنجزاته الاجتماعية والعملية والتكنولوجية لا تعنى - من ناحية - القطيعة عن معالجة القضايا التقليدية المتخصصة في الفلسفة وتاريخها، في مجال الوجود والمعرفة والقيم سواء في التراث القديم أو الحديث، بل ستغنى هذه المعالجات المتخصصة برؤية تاريخية ومنهجية متجددة، كما أنها لا تعني - من ناحية أخرى - إغفال الخصوصيات والخبرات الثقافية والقومية والعقائدية في كل بلد من البلدان في العالم، بل تحتم أن تكون بعدا أساسيا في هذا الوعي العقلاني النقدي الجدلي الإنساني الشامل. فالرؤية الإنسانية الشاملة - في تقديري - لا تلغي الخصوصية القومية والثقافية، كما أن هذه لا تلغي تلك، بل يمكن أن يقوم بينهما تفاعل مثمر، فالعام كامن محايث في الخاص، والخاص طاقة تجديد وتطوير للعام، بالوعي الموضوعي النقدي والممارسة الإبداعية المشتركة. كما أنها لا تعني - من ناحية ثالثة - تغليب ما هو طبيعي على ما هو ثقافي، أو ما هو ثقافي على ما هو طبيعي، بل تتطلع إلى إلغاء هذه الثنائية الضدية الاستبعادية تحقيقا لوحدة الإنسان، بين ذاتيته الوجودية وموضوعيته الإنسانية والكونية، بين جسده وروحه، بين فرديته ومجتمعيته، بين كينونته وصيرورته، بين حياته في الضرورة وضرورة الحرية في حياته، بين معرفيته وإبداعيته. ولهذا نجد العديد من المؤتمرات والندوات الفلسفية في العالم اليوم تحتدم حواراتها حول قضايا ذات طابع إنساني شامل، وتجمع ما بين ما هو ثقافي وما هو طبيعي، مثل قضايا التنمية وقضايا العلوم والتكنولوجيا الحديثة كعلوم الوراثة والفيزياء، والمعلوماتية والاتصالية ومناهج العلوم الاجتماعية والتاريخية ومشكلاتها ودلالاتها الجديدة في حياة الإنسان، إلى جانب قضايا البيئة الاجتماعية والطبيعية والكونية، وقضايا السلام، وقضايا المرأة والعلاقة بين الثقافات أو الحضارات المختلفة والصراعات الدينية والقومية والعرقية إلى غير ذلك. هذه في تقديري هي أبرز هموم الساحة الفلسفية في عصرنا الراهن التي تحتدم حولها الأسئلة والحوارات والصراعات والاختلافات والاجتهادات العلمية والأيديولوجية وهي في مجملها تتواكب مع الطابع الانتقالي للأوضاع العالمية الراهنة، ولهذا نجد أنها أسئلة وإجابات نقدية مفتوحة على هذه الأوضاع الجديدة أكثر منها أنسقة فكرية نهائية منغلقة أو يقينية اللهم إلا لدى التيارات الأصولية الدينية المتزمتة أو القومية أو اليسارية المتعصبة. وإذا كنت قد بدأت كلمتي بسؤال عن ما هي الفلسفة عامة في عصرنا الراهن، وحاولت أن أجتهد في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، فكان من الطبيعي بل من الواجب أن يستكمل هذا السؤال الأول بسؤال ثان عن الوضع الراهن للفكر الفلسفي العربي، في إطار هذا العصر الراهن؟ وقد أسمح لنفسي بأن أقول في النهاية إن سؤال الفلسفة أو إجاباته في أغلب جامعاتنا العربية وأغلب حواراتنا واجتهاداتنا الفلسفية، لا يزال سؤالا تقليديا بعيدا عن هموم مجتمعاتنا العربية ومشاكلها، وعن حقائق عصرنا ومنجزاته وقضاياه الفكرية. وأرجو أن يكون هذا موضوع مقال آخر.
|
|