الألوهية والظاهرة الدينية عزت قرني

الألوهية والظاهرة الدينية

أول ما يجد الباحث واجبا عليه أن يقرره هو شيئان: أن فكرة الألوهية ذات أهمية عظمى في حياة الغالبية العظمى من البشر، وأنها فكرة قديمة كل القدم ومنتشرة كل الانتشار، حتى أنه لا توجد مجتمعات قديمة أو حديثة إلا ونجد عندها حضورا على نحو أو آخر لهذه الفكرة الجليلة، بل إن هناك من المجتمعات ما يجعل الألوهية هي الأفق المباشر الذي ينظم سائر تفاصيل حياته وتعتمد عليها علاقاته، كالمجتمع المصري القديم على سبيل المثال والمجتمعات الدينية بالمعنى الدقيق لهذا التعبير، حيث الإله أو الآلهة هم الذين يسيرون أمور الحياة اليومية، وباسمه أو باسمهم تعقد وتتم المعاملات، وهو أو هم الذين يحددون الحاكم، وهو أو هم أصحاب الأمر في الثواب والعقاب، إلى غير ذلك.

وقد شغلت الأذهان منذ قديم الزمان بالإجابة عن هذا السؤال: كيف توصل الإنسان إلى فكرة الألوهية، أي فكرة ذلك الموجود فائق القوة كامل الصفات الذي يعود إليه كل شيء؟ إن هناك ثلاث إجابات أساسية عن هذا السؤال: فالبعض يرى أن دراسة تاريخ الإنسان على الأرض، وخاصة في فترات ما قبل التاريخ، تبين أن التجربة الفردية والاجتماعية في مواجهة الطبيعة أدت إلى القول بهذه القوة الفائقة، والبعض الثاني يرى أن العقل هو السبيل إلى معرفة الألوهية، والبعض الثالث يرى أن السبيل الحق لمعرفة الألوهية إنما هو الدين حيث يعلن الإله عن نفسه بنفسه.

وقد تعددت صور تصورات الفلاسفة المؤلهين عن الألوهية: فمنهم من رأى فيها مبدأ الخير، ومنهم من رأى أنها عقل خالص كامل، ومنهم من رأى أنها القانون الكوني، ومنهم من رأى أنها المبدأ الأول واجب الوجود الذي لولاه ما كان وجود، ومنهم من رأى أنها المطلق الذي لا يشترطه شرط ولا يحده حد، ومنهم من رأى أنها حركة الكون الجوهرية، إلى غير ذلك من تصورات تعددت بعدد الفلاسفة المؤلهين. وقد توصل هؤلاء الفلاسفة المؤلهين إلى القول بوجود الربوبية عن طريق عدد من البراهين، لعل أهمها ثلاثة، هي برهان الصانع وبرهان التدبير والعناية وبرهان الكمال.

البرهان العقلي الأول هو برهان الصانع، وخلاصته أن لكل شيء صانعا، فلا بد إذن أن يكون لهذا الكون صانع صنعه. ولكن قد يرد على هذا البرهان بأن مبدأه يؤدي إلى التساؤل: ومن صنع الصانع نفسه؟ فيرى أصحاب هذا البرهان أنه لا بد من الوقوف عند صانع أول، وإلا تقهقرنا إلى مالا نهاية له، وهو غير مقبول من العقل في رأيهم، وإن أمكن الرد عليهم: ومن أين أتت هذه "اللا بد"؟ ولم لا يمكن التقهقر إلى مالا نهاية؟

البرهان العقلي الثاني هو برهان التدبير والعناية، وملخصه أن الكون لا يمتاز بالنظام والجمال وحسب، وإنما هو مهيأ لكي يكون للإنسان معاش وفائدة ونفعا، فلا بد أن يكون هذا الكون قد صنع لغاية، ولا بد من مدبر وصاحب عناية من وراء هذا الصنع الغائي، هذا المدبر هو الإله. ويهتم الفلاسفة الذين يقولون بهذا الدليل بجسم الإنسان على الخصوص فهو مرتب على أعظم ترتيب وأدقه ولا يعقل في رأيهم أن يكون من صنع المصادفة. ويرد على هذا الدليل بأوجه البؤس والشقاء في حياة الإنسان من ناحية. وبالاعتراض بأنه لا توجد ضرورة منطقية تحتم وجود مدبر وراء الخير والجمال.

البرهان العقلي الثالث هو برهان الكمال. وهو دليل في غاية الدقة واللطافة، ويقول إن لدى الإنسان فكرة عن الكمال المطلق، ولكن الإنسان ناقص في كل شيء، فلا يمكن أن تكون فكرة الكمال المطلق من صنعه، وإنما لا بد إنها أتت إليه من هذا الكائن الكامل، وهو الإله، والوجود أحد الكمالات، فلا بد أن يكون هذا الكمال المطلق موجودا كذلك. ويعترض على هذا الدليل بأنه لغوي محض، وينتقل من الفكرة إلى الوجود، وهو انتقال غير ضروري.

هذه هي براهين وجود الألوهية عند أصحاب الاتجاه العقلي. أما أصحاب الاتجاه الثالث فإنهم يرون أن العقل قد يؤدي إلى اختلافات، وأن الطريق الصحيح لمعرفة الألوهية إنما هو عن طريق الوحي، وهو ما نعرفه من الديانات السماوية التي يتوسط فيها رسل عرفوا بصدقهم بين الإله والبشر.

الخبرة الدينية

إذا كنا قد بدأنا بالحديث عن مفهوم الألوهية لأنه وثيق الصلة بالحديث عن العالم، فإن الخبرة الدينية، التي تقف في مقابل المعرفة العلمية والفكر الفلسفي وفي موازاتها، تغطي ميدانا واسعا يمكن أن نسميه "الظاهرة الدينية"، ويشكل مفهوم الألوهية مركزه الوجودي، ولكنه يضم إلى جوار هذا المفهوم عددا آخر من المكونات التي سوف ننظر إلى أهمها ولو نظرا سريعا.

ويمكن أن ينتظم الكلام عن الظاهرة الدينية في تشكيل ثلاثي يتناول: جوانبها ومضمونها ونتائجها، وهو ما يسمح لنا بإدراك تفرعات هذه الظاهرة الإنسانية الكبرى في كثير من مجالات حياتنا اليومية. أما جوانب الظاهرة الدينية، إذا أخذناها على ما تظهر لنا في خبرتنا مع أنفسنا ومع الآخرين، فإنها قد تختزل إلى هذا التكوين الثلاثي: المؤمن وفعل الإيمان ومضمون الإيمان. وربما يدهش البعض من التأكيد على أهمية عامل المؤمن. لأننا نتجه على الدوام أو يكاد إلى مفهوم الألوهية باعتبارها كيانا وجوديا مؤسسا لكل ما عداه، ولكن الواقع الإنساني ينبهنا إلى أنه إذا كانت الألوهية هي غاية العلاقة الدينية، أي نقطة الطرف الأعلى، فإن المؤمن يشكل نقطة البداية الإنسانية، وبغير المؤمن لا يكون هناك دين.

ثم هناك فعل الإيمان، وهو متعدد التركيب وعديد الطبقات، ويمكن أن ننظر إليه مستقلا عن القائم عليه، ألا وهو المؤمن، لأنه يتشابه في بنيته الأساسية عبر ملايين المؤمنين. وربما أمكن تلخيص فعل الإيمان في أنه تصديق ويقين، ولكن يحيط بهما إطار عاطفي ووجداني يجعل من الخبرة الدينية عالما كاملا من المشاعر قد يستغرق فيها البعض للحظات أو لسنين. وكما أمكن أن ننظر إلى فعل الإيمان مستقلا عن صاحبه، فإننا يمكن أن ننظر إلى مضمون فعل الإيمان مستقلا عن تلك الحالة الشعورية الخاصة التي نسميها بفعل الإيمان. هذا المضمون قد يكون ثلاثي التكوين هو الآخر: الألوهية والنفس والخلود، مع ما يرتبط به هذا العنصر أو ذاك من عناصر ضرورية أخرى ينبغي إضافتها، وأبرزها الوحي والرسالة والمعجزة. وقد تحدثنا فيما سبق عن مفهوم الألوهية، أما النفس، فإن الاعتقاد الديني (ونحن نتحدث هنا في إطار الديانات التي يهتم بها ويعيش في إطارها القارئ بالعربية) لا يقوم إلا بالقول بالنفس كيانا متميزا قائما بذاته تبقى بعد الجسد عند الموت وتتعرض للمحاسبة وللثواب وللعقاب، وذلك بعد أن كانت كيانا متميزا عن الجسد في أثناء الحياة الدنيا، بل وتقف في مواجهته في كثير من الأحيان. والنفس هي محل الإيمان، وهي محل تلك الحياة الداخلية الخصبة المتشعبة التي تكون مجموع الخبرة الدينية. أما الخلود، فإنه لا يرتبط بالحساب والقصاص وحسب، وهما أمران مهمان من منظور العدالة البشرية والإلهية على السواء، بل وكذلك بأمر آخر نادرا ما يظهر بوضوح، ولكنه قائم في أفق الخلود، ألا وهو معنى إدراك الحقيقة الحقة بعد المشقة وألوان التعذيب وتقلبات الشكوك.

إن اللحظات التي نقضيها في إطار التجربة الدينية كل يوم تفوق في عددها إلى درجة كبيرة جدا تلك التي نقضيها واعين في أي إطار آخر. والواقع أنه لا توجد خبرة إنسانية يمكن أن تقوم مقام الخبرة الدينية ولا أن تؤدي وظائفها، ويمكن القول إنه لا العلم الطبيعي ولا الفلسفة - ولا غيرهما من باب أولى - بقادرين على زحزحة الدين من مكانه المميز في الحياة اليومية للأفراد. إن الفلسفة ليست بديلا للدين. وقد حاول قادة الاتحاد السوفييتي مثلا أن يقنعوا أنفسهم بإمكان ذلك، فكان الفشل العظيم. إنما على الفلسفة والدين والعلم جميعا أن يتعايشوا معا. ومن الواضح أن هناك مسائل مشتركة بين ميدان الدين وميدان الفلسفة، ومنها البحث في الطبيعة الإنسانية وفي النفس وفي الخلود وفي معنى الحياة وفي الحرية والجبر، فضلا عن المفهوم المركزي الذي هو مفهوم الألوهية أو المطلق.

البشر والألوهية

وقد ظهر فرع من فروع الفلسفة يتسمى باسم "فلسفة الدين". وربما كان في اجتماع الكلمتين ضرب من التناقض، ولكن هذا النوع من البحث يريد تناول أصول الظاهرة الدينية بوجه عام، ودون دفاع عن دين معين أو هجوم على دين آخر، ويهتم بفحص الصفات الإلهية وطبيعة علاقات الإله بالعالم وظاهرة المعجزة ووجود الشر وإمكان الاتصال بين البشر والألوهية، فضلا عن تعريف الدين تعريفا عاما شاملا لشتى تجسداته عند البشر. وهناك سؤال يلح على الجميع: ما مغزى استمرار الظاهرة الدينية؟ ولعل الإجابة أن تقوم في أمرين معا: الأمر الأول هو أن العقل الإنساني، بوسائله المعرفية وطرائق استدلالاته المعروفة، له حدوده، فهو لا يستطيع الوصول إلى كل شيء ولا تناول كل المسائل، وهذا ظاهر في حدود العلم وفي حدود الفلسفة، أي أن هناك قوى إدراكية ومعرفية أخرى غير العقل وغير الحس، ولكن يحتويها جميعا "الذهن" الإنساني، وإن لم تظهر، هذه القوى الأخرى، بشكل واحد ولا عند الجميع على نحو سواء، وهو ما يحدث مع قوتي الحس والعقل. هذه القوى الإدراكية تسمت بأسماء مختلفة، منها القلب والعاطفة والوجدان، وغيرها. وقد عبر عنها المتصوفون خاصة، ولكن هناك عبارة مشهورة في الحضارة الغربية، التي ظهرت على انقاض الحضارة الدينية المسيحية، تعبر عن ذلك المعنى، وهي قول عالم رياضي ومفكر ديني مشهور في فرنسا هو باسكال: "للقلب اعتبارات لا يدري العقل عنها شيئا" (وقد استخدم نفس الكلمة (Raison) لما ترجمناه هنا مرة "باعتبارات" ومرة "بالعقل"، ويمكن أن تعاد الترجمة بوضع كلمة "أسباب" محل كلمة "اعتبارات".

محدودية العقل

هذا هو الأمر الأول الذي يبرر اللجوء إلى الخبرة الدينية، وهو في كلمة واحدة: محدودية العقل. أما الأمر الثاني، فإنه يكمل الأول ويلتصق به، وهو أن العقل الإنساني ليس قادرا على الحسم في صدد مسائل لها أهميتها العظمى في الحياة الإنسانية، من مثل: من أين أتينا؟ ما سبب وجودنا في العالم؟ ما غاية حياتنا؟ ما معنى الحياة؟ إلى أين المصير؟ ما معنى البشر؟ هل العالم وجد بالمصادفة أم له غاية تدبرها عناية؟

وليس من السهل تعريف الدين بوجه عام، ولكن فلنجازف بتعريف للخبرة الدينية على الأقل، إنها علاقة حميمة مع قوة عليا تسود باقي القوى وتتسم بالكمال. وقد تسمت هذه القوى العليا أحيانا، أو اتخذت شكل، "الموجود الأعلى". وابتداء من هذه القوة العليا في علاقتها بالعالم وبالبشر، يتكون نظام تفسيري يضم كل شيء، أو يجتهد في أن يضم كل شيء، إن تصريحا وإن ضمنا وعلى سبيل النتيجة. في مقابل هذا التعريف يقوم تعريف آخر للدين من حيث هو واقعة اجتماعية لها مظاهر موضوعية، وتتخذ أشكال الشعائر ومظاهر السلوك وتنظيمات عائلية وأخلاقية وغيرها. ولكن وجهة النظر الأولى هي التي تناسب موضوعنا هنا، حيث تنطلق من الذات الفردية في سعيها لفهم العلاقة مع الآخرين ومع العالم ومع المطلق. وفي هذا الإطار الفردي يظهر الدين للمؤمن علاقة شخصية حميمة، وهو ما يتضح في فعل الصلاة، وهو فعل مركزي بين أفعال الإيمان، حتى ليمكن القول إنه لا يوجد سبيل أي سبيل لمعادلة "إيمان" زيد "بإيمان" عمرو، لأن كليهما أمر شخصي حميم. ولكن المؤكد أن الاعتقاد الديني عند المؤمن يصبح قائدا لحياته الباطنية في أشكالها المختلفة، وينتهي، عند اكتماله، إلى أن يغير من حياته كلها. ولعل اليقين والاطمئنان أن يكون من أهم سمات حياة الإيمان. وفي المقابل، فإن نفس الطابع الشخصي الحميم للخبرة الدينية يجعل من الممكن أن تكون تلك الخبرة فاسدة إذا تعلقت بمحض الشعائر الظاهرة أمام الأعين وافتقرت إلى معنى الإيمان الداخلي الحقيقي. وقد ذهب البعض في هذا الطريق إلى حد إقامة المعارضة بين الدين القلبي وإقامة الشعائر الخارجية والحرص على إتمام الصيغ الكلامية وحسب، وهو ما يتمثل في القول الذي نسمعه بين الفينة والفينة: "إنما الرب رب القلوب" (وإن كان لهذا القول مضامين أخرى غير ما نريد الإشارة إليه من منظورنا الحالي).

وقد أرادت النظرة الاجتماعية للأديان أن تلفت النظر إلى ظاهرة تعدد الأديان، وهي محقة في هذا، ثم أراد البعض الانتقال إلى نتيجة مختلفة، وهي نسبية الأديان، ليس فقط بحسب الحضارات، بل وكذلك بحسب تعدد الأفراد أنفسهم في النهاية، إلى أن نصل إلى القول عند البعض، بأن كل دين إنما يكشف عن جانب واحد من جوانب الظاهرة الدينية الكاملة، ومن هنا فهو - مأخوذا على حده - نسبي. ولذلك، فإن البعض يأخذ في وضع هذا السؤال: ألا من سبيل إلى تكامل الإديان؟ والحق أن هذا الأمر يخفي وراءه أمرا أخطر، وهو: هل توضع سائر الأديان على حد سواء؟ ثم هناك سؤال ملح: هل تكون الأديان "المختلفة" نسخا نسبية من "نفس" الديانة الواحدة الحقة؟ إن المسائل التي تضعها ظاهرة تعدد الأديان مسائل صعبة، وليس من اليسير التقرير بشأنها، وكل يقرر في النهاية من منظور اعتقاداته الشخصية، وهي في النهاية حميمة وشديدة الذاتية، وهكذا نعود ونرتد إلى الظاهرة الصلبة، التي هي ظاهرة المؤمن وفعل الإيمان عنده، فهي الحد الأدنى المشترك بين سائر المعتنقين للأديان المختلفة. ولكن هناك نتيجة ينبغي التأكيد عليها من واقعة تعدد المؤمنين نفسها، ألا وهي ضرورة قبول التعدد والأخذ بنتيجته الضرورية، وهي التسامح.

 

عزت قرني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات