في أحوال الفيلم الروائي العربي القصير الجديد.. التزام سينمائي بقضايا الناس والمجتمعات

 في أحوال الفيلم الروائي العربي القصير الجديد.. التزام سينمائي بقضايا الناس والمجتمعات

لاتزال صناعة الفيلم العربي القصير مثيرة للنقاش النقدي. يميل معظم السينمائيين إلى اعتبار الفيلم القصير مدخلًا إلى الروائي الطويل. يرونه البداية، سواء حقّقوا فيلمًا قصيرًا واحدًا، أم أنجزوا أكثر من فيلم قصير. الغالبية الساحقة من المهتمّين بالشأن السينمائي تعتبره تمرينًا على الاشتغال السينمائي، دراميًا وجماليًا وإخراجيًا وتمثيلًا وتقنيات. لكن البراعة الإبداعية قادرة على جعله إنجازًا سينمائيًا مستقلًا بحدّ ذاته.

ليس سهلًا اختصار الكَمّ الهائل من الأفلام القصيرة التي أنجزها مخرجون عرب. في الأعوام القليلة الفائتة، تحوّل الفيلم العربي القصير إلى جزء أساسي من الصناعة السينمائية المتكاملة. تحوّل إلى أداة تعبير، وإن اعتبرها كثيرون بداية مسار مهنيّ. الغرب معتاد على هذا الشكل التعبيري، أفرد له حيّزًا واسعًا، إنتاجًا وعروضًا ومهرجانات. العالم العربي لايزال مُقصِّرًا في هذا المجال، على الرغم من وجود إنتاج مهمّ، شكلًا ومضمونًا. المهرجانات العربية المتخصّصة كلّيًا بالأفلام القصيرة قليلة جدًا، إن لم تكن شبه معدومة. مهرجان الإسماعيلية (مصر) أبرزها، وإن أدخل إلى جانبها أفلامًا وثائقية وأفلام تحريك. ربما لهذا السبب أتاحت مهرجانات عربية ذات بُعد دولي مكانًا واسعًا للأفلام القصيرة، مخصّصةً بها مسابقة رسمية وجوائز، كمهرجاني أبوظبي والدوحة مثلًا. المحطّات التلفزيونية الغربية ساهمت فعليًا في إنتاج الأفلام القصيرة، وعرضت منها أعمالًا كثيرة على شاشاتها الصغيرة. المحطّات التلفزيونية العربية منفضّة عن الإنتاج هذا، كانفضاضها عن المساهمة والمشاركة في إنتاج الأفلام الروائية الطويلة، في مقابل اهتمام متواضع بها (الروائية الطويلة تحديدًا)، واهتمام أكبر بصناعة الأفلام الوثائقية.

عن حرفية المهنة

هذه صورة عامّة عن واقع لا يزال حاضرًا في المشهد السينمائي العربي، أفلامٌ روائية عربية قصيرة عدّة عكست حرفية مهنية واضحة لدى سينمائيين عديدين، متمثّلة في اشتغال إبداعي مهمّ في المستويات كلّها، إخراجًا وتمثيلًا ومواضيع ومعالجات وتقنيات. في العامين 2010 و2011، أُنجز عددٌ لابأس به من الأفلام القصيرة، التي غاصت في متاهات القهر الفردي والمواجهات اليومية من أجل حياة أفضل، أو التي قدّمت شيئًا من واقع الحال الشبابي البائس، والراغب في الوقت نفسه في الخلاص من جحيم الأرض. أفلام عدّة بدت متماسكة في معاينتها أحوال الفرد العربي وآماله، وأخرى جعلت البيئة والحكايات مسرحًا للبوح القاسي.

هذا كلّه يعني أن الفيلم الروائي القصير قادرٌ على معاينة الحقائق والوقائع والحالات، وعلى سرد الحكايات والتفاصيل، وعلى البوح بالحميمي والخاصّ، تمامًا كأي فيلم سينمائي آخر. هذا كلّه يعني أيضًا أن الفيلم الروائي القصير محتاجٌ إلى مخيّلة ربما تكون (أو يجب أن تكون) أوسع وأعمق من أي مخيّلة أخرى، لأن المدّة الزمنية الخاصّة به (بين خمس دقائق ونصف ساعة بشكل عام) تتطلّب اختزالًا وتكثيفًا دراميين، وتحتاج إلى مفردات أقلّ وأقدر على قول الأشياء في وقت قصير. الفيلم الروائي الطويل محتاجٌ، بدوره، إلى اختزال وتكثيف دراميين، كي لا يقع في الثرثرة البصرية. لأن الاختزال والتكثيف ليسا حكرًا على المدّة الزمنية، بل حاجة ملحّة للنصّ السينمائي المتعمّق بمادته الدرامية: إنهما جوهر الحبكة القصصية والمعالجة البصرية، سواء كان الفيلم طويلًا أم قصيرًا. لكن المدّة الزمنية تُلحّ على السينمائي لجعل فيلمه القصير مختزَلًا ومُكثَّفًا، أكثر من إلحاح الفيلم الطويل.

الأمثلة عديدة، لكن الاختصار مفيدٌ هنا أيضًا، ففي عامي 2010 و2011 قدّم سينمائيون عرب عددًا من الأفلام الروائية القصيرة تميّز بعضها الأول بجماليات سينمائية معقودة على الكتابة والإخراج والمعالجة والتقنيات، وجعل بعضها الثاني الوثائقيّ ركيزة لسرد روائي كَسَر الحاجز القائم بين النوعين الروائي والوثائقي لمصلحة الفضاء الدرامي والاشتغالات التقنية والدرامية والفنية، وتاه بعضها الثالث بين مادة إنسانية مهمّة ومعالجة عادية أو مبسّطة، أو بين معالجة بصرية متمكّنة من شرطها الإبداعي، لقاء مادة عادية. الأمثلة عديدة، خصوصًا أن العامين الفائتين شكّلا امتدادًا طبيعيًا لهذا النوع من العمل السينمائي، وفتحا مجالًا أوسع لقول سينمائي في إطار روائي قصير.

بالنسبة إلى المزيج القائم بين الوثائقيّ والروائي القصير، يُمكن التوقّـــــف عند «أبـــــي ما زال شيوعيًا، أسرار حميمية للجميع» (لبنان/ الإمارات العربية المتحدّة، 2011، 32 دقيقة) للّبناني أحمد غصين: الركيزة الأساسية وثائقية، متمثّلة في إعادة سرد مقتطفات أساسية من سيرة الأبوين عبر أشرطة التسجيل الصوتي (كاسيت) التي تحوّلت إلى رسائل شفهية مُرسَلة من الأب المقيم في المملكة العربية السعودية للعمل إلى الأم المقيمة في لبنان وأولادهما، أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. غير أن المناخ العام، الذي ظلّل المسار الدرامي للحكاية المعقودة على صوت الأب وصورة الأم وظلال الأولاد، جعل فن الرواية طاغيًا. للصُّوَر الفوتوغرافية دور مهمّ أيضًا، سمح للمخرج الشابّ بالتلاعب الفني بها، لإدخالها في صلب الحكاية وتشعّباتها الموزّعة على الحرب وآثارها (انقطاع التيار الكهربائي، الصوت البعيد للقصف، تقنية الكاسيت في تبادل الرسائل في مرحلة الحرب تلك.. إلخ)، وعلى الذاكرة ومنعطفاتها الجميلة والقاسية. بهذا المعنى، بلغ أحمد غصين في فيلمه هذا مرتبة بديعة في جعل الصورة، السينمائية والفوتوغرافية، مرآة شفّافة لكشف أعماق الشخصيات الرئيسة (الأبوين أولًا)، ولكشف العلاقة القائمة بين المخرج أحمد وأشقائه الصغار من جهة أولى والأبوين من جهة ثانية، والمرحلة الحسّاسة والحرجة التي مرّ بها لبنان وأفراد العائلة معًا.

الصمت والمنفى

هذا نموذج متفرّد في آلية صناعة الفيلم القصير، المرتكز على ثنائية الوثائقي والروائي، وإن تمّ تصنيفه كفيلم وثائقي. النماذج الأخرى روائية قصيرة بشكل كامل. منها: «حنين» (فلسطين/ قطر/ الأردن، 2011، 18 دقيقة) لأسامة بواردي، و«وداعًا أيها المنفى» (المغرب، 2011، 15 دقيقة) للميا علمي، و«غدًا الجزائر» (الجزائر، 2011، 20 دقيقة) لأمين سيدي بومدين. وإذا التزم الفيلم الأول الصمت المطلق في الغالبية الساحقة من لقطاته، كمحاولة بصرية للاستفادة من قدرة الصورة على التعبير والسرد والبوح، فإن الكلام المعتَمَد في الفيلمين الآخرين بدا منسجمًا والحالة الإنسانية التي صنعت الركيزة الدرامية للحكاية: الرغبة العميقة في الهجرة، بسبب الواقع المزري الذي عانى تداعياته أناس معلّقون في الحدّ الواهي بين الفقر والموت والشقاء والفقدان. وإذا شكّل «حنين» واجهة إنسانية مفتوحة على أسئلة الوحدة والعزلة والصدام مع الخارج، على خلفية الاحتلال الصهيوني، فإن «وداعًا أيها المنفى» (أو «سلام غربة»، العنوان الأصليّ الظاهر في جينيريك البداية) و«غدًا الجزائر» التقيا بـ«حنين» عند الأسئلة نفسها تقريبًا، لكن على خلفية احتلال من نوع آخر: البؤس وانسداد الأفق وغياب المستقبل والحصار القاتل داخل البيئة الاجتماعية المولودة فيها شخصيات ساعية للهرب والخروج والانعتاق من قسوة اليوميّ.

المرأة الوحيدة والمنعزلة في بيتها (حنين) تكاد تُشبه المرأة الطامحة للّحاق بزوجها المهاجر إلى فرنسا (سلام غربة). غير أن الاحتلال الصهيوني الذي أفَقَد المرأة الأولى كل رغبة في الخروج، مع أن ابن الجيران سارق الفواكه من حديقة منزلها دفعها، من دون قصد منه، إلى ذلك؛ لا يُشبه احتلال القهر والفقر والانزواء داخل جدران البيئة الضيّقة، التي دفعت الزوج إلى الهجرة طلبًا لحرية ما أو لعيش كريم، والتي دفعت الزوجة إلى انتظار لحظة الخلاص. الشباب الجزائريون المندفعون إلى آفاق مسدودة في أمكنتهم التي ولدوا فيها وعاشوا فيها واصطدموا بالخراب العظيم المقيم فيها، يُشبهون المرأة المغربية العاجزة عن كسر الجدار وحدّته. أما المرأة الفلسطينية، التي تحدّت الاحتلال الصهيوني بإزالتها الرقم الموضوع على باب بيتها، فانزوت في وحدتها حتى لحظة الموت على باب المنزل، رفضًا للرقم نفسه، وللواقع البائس المفروض عليها أيضًا.

من فلسطين وعنها وعن ناسها المقيمين في القلق والخوف والمواجهة، هناك ثلاثة أفلام أخرى، إلى جانب «حنين»، هي: «ألفيس من الناصرة» (2011، 18 دقيقة) لراني مصالحة، «البير» (2011، 15 دقيقة) لأحمد حبش و«بيّاع الورد» (2010، 17 دقيقة) لإيهاب جادالله. المشترك بينها: أهمية المواد الدرامية المختارة. البساطة في المعالجة، تلك المنفضّة عن التسطيح، والقريبة من العمق الفني في تناول الحكايات. أي أن الشكل السينمائي العاديّ (أكاد أقول العاديّ جدًا أحيانًا) بدا مجرّد غطاء بصري لما هو أهمّ: حكاية الفرد الفلسطيني، سواء في مواجهته الاحتلال، أو في عيشه اليومي. العيش اليومي هذا ماثلٌ في الفيلم الأول، فمصالحة روى قصّة رجل مُغرم بألفيس بريسلي إلى درجة ابتكار حكايات وهمية عن علاقته الشخصية به، مُقلّدًا إياه في ملابسه ومشيته وعزفه على الجيتار. كأن التماهي المطلق بالآخر هروبٌ من قسوة العيش اليومي في ظلّ الاحتلال. أو كأن الرغبة في التملّص من بؤس الحياة دافعٌ إلى جعل التماهي هذا احتيالٌ على الواقع، أو ربما على الذات. لا يُقارب فيلم «ألفيس من الناصرة» مسألة الاحتلال والشعارات النضالية والمواجهات الحيّة ضد الصهيوني لأنه التزم قصّة الرجل بعيدًا عن الفضاء الأسود، وإن حضر الفضاء الأسود في الخلفية العميقة للنصّ. الرجل شبيه ألفيس ارتبط بعلاقة صداقة بصبي مراهق يعمل لصًّا، محاولًا إخراجه من الحالة تلك، في حين أن الأفق الحياتي مُغلق عليهما وعلى المحيطين بهما. أما المواجهة والتورّط البصريّ في سرد مقتطفات من الحياة الفلسطينية في مقارعة المحتلّ الإسرائيلي، فركيزتان دراميتان للفيلمين الآخرين: فـ«البير» استعادة للهجرة القسرية التي عانى الفلسطينيون آثارها وتداعياتها منذ نكبة العام 1948. و«بيّاع الورد» ذهب إلى الراهن، عبر بائع الورد المتعامل مع الصهيوني والغارق في أزمة ضمير وانتماء وضياع، قبل سعيه إلى الانقلاب على حاضره، والسقوط في لجّة الموت.

انقلابات

الأفلام الثلاثة مشغولة بحرفية متواضعة، وإن بدا سؤال العمالة أخطرها وأندرها اشتغالًا سينمائيًا وثقافيًا وأخلاقيًا. مشغولة ببساطة السرد والمعالجة، وإن أدركت حرفية ما في التصوير والمونتاج، كما في «بيّاع الورد» مثلًا. البساطة المنفلشة على المادة المختارة والمعالجة الدرامية ماثلةٌ في الفيلم السوري «يوم صمت» (2011، 16 دقيقة) للثنائي رنا كزكز وأنس خلف. لكنها بساطة ذاهبة بنصّها إلى تخوم الألم المنبثق من العلاقة الصدامية أو المنعزلة بين أصمّ والمجتمع المقيم فيه، فالمرأة الأم تُدرِّب ابنها الأصمّ على كيفية التعامل مع العالم الخارجي، سواء وافق الابن أم رفض بإلحاح، خوفًا من السخرية، أو رغبة في تفادي الإحراج. والعلاقة القائمة بين الأم وابنها موازية لعلاقتهما بالعالم الخارجي هذا، أو بالأحرى بين الثنائي كزكز وخلف التوازن بين العلاقتين على نسق هادئ وإيقاع متناغم وعالم الصمت المخيّم عليهما. الانقلاب الحاصل في بنية الحبكة برز قبيل دقائق من الخاتمة: الأم، هي أيضًا، صمّاء. بهذا المعنى، ولأن الاشتغال البصري شفّاف وبسيط، شكّل الانقلاب مدخلًا إلى إعادة النظر بالعلاقتين الاثنتين: العلاقة الداخلية القائمة بين الأم وابنها، والعلاقة الخارجية القائمة بينهما وبين العالم الخارجي. وهاتان العلاقتان منسجمتان معًا في تفكيك الحالة الإنسانية، ودفعها إلى إعادة صوغ حضورها داخل المجتمع نفسه.

يُمكن إضافة مثلين أخيرين عن البساطة في المعالجة الدرامية وشفافية الحسّ الإنساني الخفر، وإن تناقض المناخان السينمائيان في مقاربة مسألتي الموت والشيخوخة: «قعر الحفرة» (تونس، 2011، 14 دقيقة) لمعز بن حسين و«بهية ومحمود» (الأردن/ الولايات المتحدة الأميركية، 2011، 14 دقيقة) لزيد أبو حمدان. الموت انتحارًا (الفيلم الأول) في مقابل قسوة الشيخوخة لزوجين عجوزين يواجهان يوميًا تحدّيات الحياة والموت (الفيلم الثاني). الشاب محاصَر باليأس والقنوط وضيق الأفق وانسداد الدرب إلى مستقبل جيّد، في مُقابل شيخوخة العجوزين الذاهبين إلى حتفهما ببطء وقسوة مبطّنة. وَهمُ الخلاص مرافقٌ لقرار الانتحار. وَهمُ السعادة مبنيّ على الرغبة في تمضية بقية العمر بهدوء. في «قعر الحفرة»، وجد الشاب نفسه محاصرًا بين رغبة الانتحار ومآل الناس المحيطين به بعد انتحاره. في «بهية ومحمود»، وجد العجوزان أنفسهما أن الصدام اليومي بينهما جزء من الصدام اليومي بأحوال الدنيا. التداخل بين الحالات الإنسانية في فيلم بن حسين جعله المونتاج تشريحًا دقيقًا للمتن الإنساني المفتوح على الخيبات والآلام. التداخل بين الصدامين في فيلم أبو حمدان مشغول بإيقاع صاخب بصراخ المرأة العجوز، وبهذيان الرجل العجوز الباحث عن زوجته في شوارع ضاجّة بناسها، وهذا كلّه في إطار مائل إلى مزيج الكوميديا والسخرية المرّة (بهية ومحمود).

النماذج السابقة جزءٌ من مشهد عام جعل الفيلم الروائي العربي القصير أساسيًا في غربلته مآل الناس والمجتمعات والمصائر الممزّقة على حافة الهاوية، أو داخلها. نماذج لا تُلغي أفلامًا أخرى، بل تسعى لفهم آليات العمل في هذا النوع السينمائي، متمثّلٌ في معاينة النماذج السابقة تلك.
------------------------------
* ناقد سينمائي من لبنان.

 

نديم جرجورة*