منذ عدة سنوات اختفى من التداول أو كاد, مصطلح (حداثة)
الذي كان أكثر المصطلحات شيوعاً في الخمسينيات والستينيات من القرن
العشرين.
لم تكن الحداثة حركة فكرية أو أدبية فحسب, بل كانت حركة قوى اجتماعية
وتاريخية, انطلقت من أوربا لتنتشر في العالم, وقد عرفها المسلمون والعرب خلال
احتكاكهم الطويل بالقارة الأوربية, فسعوا إلى تحديث مجتمعاتهم ومؤسساتهم
وآدابهم.
فما الذي أوقف هذا التيار في سبعينيات القرن العشرين, فحل مكانه تيار
(ما بعد الحداثة) في أوربا, وما الذي جعل العرب والمسلمين يتخلون عن التحديث
مستبدلين بذلك البحث عن الهوية والأصالة والخصوصية?
ما هذه الحركة التاريخية التي عُرفت باسم الحداثة, وما علاقتنا نحن
المسلمين والعرب بها, وهل أضعنا فرصة التحديث, أم أن علينا أن نستدرك ما فاتنا إذا
ما أردنا أن نستعيد دورنا في العالم?
تاريخ الحداثة
الحداثة تيار قديم في أوربا, يمكن تعقّب جذوره في نهضتها ونشوء المدن
البرجوازية التي استقلت عن سلطة الإقطاع وانطلقت منها حركة التجارة الحرة. وعلى
مستوى المفاهيم فإن هذا التيار عبر عن نفسه مع الأفكار التي عبرت عنها الفلسفة التي
عُرفت باسم (الفلسفة الحديثة). ومن أبرز روّادها فرنسيس بيكون (1561-1626) الذي دعا
إلى منهج جديد للتفكير يقوم على التجربة وسيطرة الإنسان على الطبيعة, ورينيه ديكارت
(1596-1650) الذي يعتبر أو يعتبره الفرنسيون أباً للفلسفة الحديثة. الذي كتب من بين
العديد من المؤلفات رسالة قصيرة تحت عنوان (مقالة الطريقة) وفيها منهج جديد للعقل
في سبيل تقدم الفكر والعلم.
والفلسفة الحديثة هي التي عبرت عن هذا التيار الجديد الذي يريد أن
يقطع مع أفكار وفلسفات القرون الوسطى, ويريد أن يتحرر من منطق أرسطو الشكلي أو
الصوري, لتفتح آفاق جديدة أمام العقل وأمام الإنسان. وقد يكون باروخ سبينوزا
(1632-1677) من بين أبرز مَن عبّر عن هذه النزعة الجديدة, وكتابه الموسوم (رسالة
اللاهوت والسياسة) الذي يشتمل على نقد تاريخي وموضوعي للتوراة هو الكتاب الذي عبّر
فيه عن تلك النزعة التحررية بدعوته إلى الخضوع لقوانين العقل وإشراك الناس في الحكم
عن طريق الديمقراطية. وفي نهاية القرن السابع عشر, كتب الفيلسوف الإنجليزي جون لوك
(1632-1704) (مقالتان في الحكم المدني) نجد فيهما تصوراً جديداً لعالم سياسي يقوم
على الحرية الشخصية, حيث لا سيادة لأحد على آخر, من هنا يعتبر لوك من مؤسسي المذهب
الليبرالي الجديد.
لم تبق (الحداثة) أسيرة المؤلفات الفلسفية, إذ إن الأفكار التي عبر
عنها تيار الفلسفة الحديثة كانت تتحول إلى حركة تمتد إلى الاجتماع والسياسة. وكان
القرن الثامن عشر مسرحاً لتحوّلات اجتماعية واقتصادية كالثورة الصناعية التي أوجدت
علاقات عمل جديدة وأطلقت حرية الاختيار وحرية رأس المال, فزادت الاختراعات
والاكتشافات التي نمت عن قدرة الإنسان على إخضاع الطبيعة وإمساكه بمصيره الاجتماعي,
وقد عبّر عن كل هذه التحوّلات الموسوعيون الإنجليز والتنويريون الفرنسيون, ولم ينته
القرن الثامن عشر إلا بقيام الثورة الفرنسية (1789) فانفتح أمام أوربا عالم جديد
وعصر جديد, وسرعان ما امتدت أفكار أوربا لتنتشر في أنحاء العالم.
كان المشروع التحديثي مشروعاً كونياً, والأفكار التي أطلقتها الفلسفة
الحديثة كانت تخص الإنسانية جمعاء. والحق أن أفكار الحرية والمساواة سرعان ما وجدت
صداها في أرجاء المعمورة, فبلغت الهند والصين كما وصلت إلى الأمريكتين, حتى أن
الانقلابيين في اسطنبول الذين خلعوا السلطان عبدالحميد سكوا عملة جديدة زيّنوها
بثلاث مفردات: عدالة - حرية - مساواة.
الإسلام والحداثة
لم يتأخر المسلمون في إدراك هذه التطورات, ولو أن هذا الإدراك قد
اقتصر في بداية الأمر على فئة ضئيلة من الإداريين العثمانيين الذين تنبّهوا في وقت
مبكّر من القرن السابع عشر إلى أمرين مترابطين, الأول: تدهور أوضاع الإدارة
والاقتصاد في الدولة العثمانية, وهذا ما أشار إليه اثنان من العاملين في الإدارة
السلطانية, قوجي بيك وكاتب حلبي, في النصف الأول من القرن السابع عشر, وذلك في
رسائل موجّهة إلى السلطان. كما أن المتنوّرين العثمانيين أدركوا أن الدول والممالك
الأوربية المتفرقة, بالرغم مما تبديه من ضعف عسكري نسبي أمام الجيش والأسطول
العثمانيين, فإن هذه الدول تطوّر فنونها وإدارتها وبحريتها وتجارتها, بحيث إن الوقت
سيمضي سريعاً وستتمكن من ارتياد البحار البعيدة وتحيط بدول الإسلام.
والحق أن العثمانيين الذين كانوا يمثلون الدولة العثمانية الكبرى في
ذلك العصر, لم يشعروا بأن العالم قد تغير حقيقة إلا بعد الهزيمة المنكرة في السنة
الأخيرة من القرن السابع عشر (1699) حين انكسرت الجيوش العثمانية (الانكشارية) أمام
النمسا وروسيا.
وإذا كان السلطان العثماني أحمد الثالث (1703-1730) قد أدرك ضرورة
التحديث, فإن إدراكه هذا لم يشاطره إياه سوى العدد القليل من معاونيه. ثم إن هذا
الإدراك كان مقصوراً في ذهن الطبقة الحاكمة على الجوانب العسكرية فحسب.
ومع ذلك فإن أحد العاملين في الإدارة العثمانية ويُعرف باسم (إبراهيم
متفرقة) وهو الذي كلف بتأسيس أول مطبعة في اسطنبول عام 1727 مع ما يعنيه ذلك من
ضرورة إدخال هذا الإنجاز والعمل به. كتب رسالة تحت عنوان: (أصول الحكم في نظام
الأمم) وطبعها عام 1731 في المطبعة على أن يشرف على أعمالها, أظهر فيها فهماً
عقلانياً للعالم المحيط بالدول العثمانية, مشيراً إلى تقدم العلوم والأفكار
والأنظمة في الدول الأوربية, شارحاً أن روسيا البدائية لم تقدر على هزيمة الدولة
العثمانية, لو لم تأخذ بالترتيبات الحديثة, ومن بين أهم ما يذكره متفرقة قوله: (إن
الشعوب الأوربية تتعلق فقط بقوانين وتشريعات بشرية ناتجة عن نور العقل وحده), مما
يدل على أن التغيير العميق الذي أصاب أوربا لم يكن يقتصر على تراكم العلوم بل في
تبني قيم الحداثة.
إن العلاقات بين العالم الإسلامي وأوربا في القرن التاسع عشر معروفة
تبدأ مع سليم الثالث الذي ارتقى العرش في السنة التي قامت فيها الثورة الفرنسية,
وأراد أن يؤسس مشروعاً تحديثياً متكاملاً تحت اسم (النظام الجديد), لكن القوى
المحافظة في الداخل ومطامع فرنسا التي كان يأمل أن تساعده في مشروعه, قد أحبطت
مساعيه فخُلع وقُتل العام 1808, ثم تبنى السلطان محمود الثاني مشروعاً تحديثياً شمل
التعليم والعسكرية والإدارة, وتمكن من القضاء على أبرز علامات النظام القديم ممثلة
بقوات الانكشارية, فأنشأ بديلاً عنها قوات عسكرية منظمة ممهداً لعصر جديد من
التحديث العثماني.
في فترة معاصرة للسلطان محمود الثاني قام عاهل مصر محمد علي باشا بجهد
مواز لتحديث اقتصاد مصر وجيشها ومعاهدها وإدارتها, معتمداً على خبراء أوربيين وعلى
أفراد البعثات العلمية من المصريين الذين تلقوا تعليماً متخصصاً في أوربا وخصوصاً
فرنسا. ولكن إحدى العلامات الفارقة لذلك العصر هو أن العاهلين المسلمين محمد علي
ومحمود الثاني قد خاضا حرباً لا هوادة فيها مما أجهض التحديث, حين تدخلت الدول
الأوربية لحل النزاع بين الدولتين.
الفرص الضائعة
عرف العالم الإسلامي والعربي حقبتين تاريخيتين سعى خلالهما بشكل واع
إلى اكتساب الحداثة: الحقبة الأولى تشغل ثلاثة عقود من وسط القرن التاسع عشر بين
1840 و1870, وهي الحقبة التي تعرف بعهد التنظيمات في تركيا والولايات العربية
التابعة لها. وقد استقر آنذاك في أذهان الحكام المصلحين مثل السلطان عبدالعزيز
والسلطان عبدالمجيد في تركيا والخديو إسماعيل في مصر وأحمد باي ومحمد الصادق باي في
تونس, أن التحديث صار ضرورة لتعويض ما فات الأقاليم الإسلامية من علوم وتنظيمات
جديدة. ولم يقتصر الأمر على الحكّام, فقد عبّر مفكرو ومتنوّرو تلك الحقبة مثل نامق
كمال وضياغو قالب التركيين والطهطاوي وعلي مبارك المصريين, وخير الدين باشا التونسي
عن الأفكار الملائمة للتحديث.
في تلك المدة من الزمن لم ير أحد من هؤلاء تعارضاً بين الإسلام
والحداثة, بل على العكس من ذلك, فقد رأوا أن أوربا قد اعتمدت في تطور علومها على ما
استعارته من المسلمين أصلاً. وقد نفذ خير الدين التونسي بخبرته إلى أمرين جوهريين.
الأول: إن مبدأ المصلحة يحتم اختيار ما هو أصلح لعموم المسلمين, ويذهب إلى (تحذير
ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عمّا يُحمد من سيرة الغير
الموافقة لشرعنا فور أن انتقش في عقولهم أن جميع ما عليه غير المسلم من السير
والترتيب ينبغي أن يهجر).
أما الثاني فهو حتمية انتشار التحديث: (إن التمدن الأوربي قد تدفق
سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع فيخشى على الممالك
المجاورة لأوربا من ذلك التيار, إلا إذا حذوا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات
الدنيوية, فيمكن نجاتهم من الغرق).
لكن هذه الفترة القصيرة من التحديث انتهت بإخفاق مدوٍ, لأسباب ذاتية
داخلية وأخرى خارجية.
فمن جهة العوامل الداخلية, اعتقد الحكّام أن التحديث في الاقتصاد
والإدارة والتعليم يمكن أن يتم دون تبديل في السلطة القائمة وآليات عملها. فالتحديث
الأوربي ترافق مع تحديث السلطة وتقييدها, وإطلاق المبادرات الفردية عن طريق إطلاق
الحرية الشخصية. فكان الحكّام في اسطنبول أو في مصر يعتقدون أن إرادتهم تكفي, ولهذا
فإن مشاريعهم انتهت إلى الإخفاق, ومن جهتها فإن الدول الأوربية التي كانت تحض هؤلاء
الحكام على التحديث والاستدانة, كانت تضمر نوايا استعمارية سرعان ما تكشّفت مع
احتلال مصر من جانب الإنجليز, وتونس من جانب الفرنسيين, ودخل بعدهما العالم
الإسلامي في دوامة المطامع الاستعمارية, واكتشف المفكرون من المسلمين أن أوربا
التحديثية والليبرالية هي غير أوربا الاستعمارية التي لا تسعى إلا إلى مصالحها.
إهمال الديمقراطية
انتهت المرحلة الاستعمارية الطويلة مع نهاية الحرب العالمية الثانية,
وبدا أن عالماً جديداً في طور البناء, فقد نالت بعض الدول العربية والإسلامية
استقلالها قبل نهاية الحرب الثانية مثل سوريا ولبنان, وعقدت بلدان أخرى معاهدات
تفضي إلى الاستقلال الناجز. أما الهند وباكستان, فقد نالت كل منهما الاستقلال عام
1948, ونالت إندونيسيا استقلالها في 1949. وهكذا بدا العالم الإسلامي وكأنه ذاهب
إلى الحرية والرخاء.
ومع الخمسينيات, برزت مرحلة جديدة من التفاؤل, وخلال عقدين من الزمن
تحرر العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه, وباتت المهمة بناء الدولة ومؤسساتها
واكتساب العلوم وتأمين الازدهار للشعوب.
واندفعت الدول الوطنية الناشئة في تحديث انتقائي غير آخذة بالاعتبار
التغيرات الديمغرافية. وبدل أن تتعلم من دروس الماضي, لم تعر الديمقراطية اهتماماً,
بل ضيّقت على رجال الفكر من أجل الترويج لفكر أحادي لا يقبل النقد والاعتراض, باسم
البناء والتنمية, لكن مشاريع التنمية تكشّفت عن خطط عشوائية وإدارات فاسدة وإخفاقات
مدوية وهزيمة للدول والشعوب.
هل مازال التحديث ممكناً?
إذا تجاوزنا العوامل التي أدت إلى إخفاق المشروع التحديثي في العالمين
الإسلامي والعربي, وهو ما يحتاج إلى بحث مفصل, يمكننا أن نتساءل عن فكرة الحداثة
كمشروع كوني أطلقته أوربا ونشرته في أرجاء العالم, فهل مازال هذا المشروع
قائماً?
مع نهاية الحرب الثانية المدمّرة, بدا أن أوربا تتجه للانكفاء على
ذاتها, كأنها لم تعد مهتمة بمشروعها التحديثي الكوني الذي رعته على امتداد قرون من
الزمن. وخلال الخمسين سنة الأخيرة, انصرف الأوربيون إلى ترتيب البيت الأوربي (حتى
اعتماد نقد موحد مع مطلع عام 2002). وقد انعكس ذلك على العقلانية الأوربية التي لم
تعد تنتج الأفكار والمذاهب الكبرى, بل على العكس من ذلك, فقد تراجعت العقلانيـــة
أمام التيارات الفـكرية والأوربية اللاعقلانية, وأخذ الفكر الأوربي يتفحص جذوره
وأسباب التدهور. فالمؤرخون ينـــكبّون على دراسة القرون الوسطى, والفلاســـفة
ينصرفون إلى تفــكيك الخطابات الفلسفية الكبرى. ومع السبعينيات, بدأ الحديث عن تيار
جديد هو تيار ما بعد الحداثة الذي يعيد النظر في إنجازات الحداثة وينقدها, ويغلب
التعبير على المعنى والذاتي على الموضوعي والخاص على العام.
إن أوربا التي أنجزت حداثتها, والتي استعمرت العالم بدلاً من تحديثه
كما كان يعد مشروعهاً, يحق لها أن تعيد النظر في إنجازاتها وإخفاقاتها, ولكن العالم
الإسلامي بدل أن ينكب على إنجاز مشروعه الذاتي للحداثة, انصرف عامته ومفكّروه بحثاً
عن الأصالة والهوية والخصوصية.
لكن هذا البحث المضني عن الخصوصية والهوية خلال عقدين سابقين أضاع
الأولويات التي يتعلق بها مصير ملايين المواطنين على امتداد العالم الإسلامي الذين
لا يمكنهم أن يضحوا بمشاريع التنمية والبناء وتحسين عيشهم لقاء البحث المضني عن
هوية تتعلق بالأشكال والتعابير وتهمل المعنى العميق للكرامة الإنسانية.
لا مفر أمام المسلمين والعرب من أن ينجزوا مشروعهم التحديثي النابع من
واقعهم وتجاربهم التاريخية وثقافتهم, وبذلك يكتسب الإسلام هويته
المعاصرة.