الشعر .. هل هو حقاً ديوان العرب؟ محمد رجب النجار

الشعر .. هل هو حقاً ديوان العرب؟

قضايا

من أكثر المقولات السائدة في دراساتنا الأدبية والنقدية مقولة (الشعر ديوان العرب) التي أطلقها ابن عباس (رضي الله عنه) مقرونة بصيغة الزمن الماضي (كان) الذي يشير إلى العصر
الجاهلي. ومع ذلك ما زلنا نرددها ونعممها منذ خمسة عشر قرناً من الزمان حتى اليوم.

لقد كان القدماء حين يرددون هذه المقولة إنما يشيرون إلى وظيفة الشعر المعرفية في مثل هذه المجتمعات التي لا مصدر معرفيا لها غير الشعر. وهذا يعني أن الشعر العربي في العصر الجاهلي كان المصدر المعرفي الوحيد والصحيح والذي يمكن الاعتماد عليه والوثوق به (نسبياً) حين يندر أو يعز علينا وجود مصادر أخرى. ولعل هذا هو ما كان يعنيه عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين قال: (كان الشعر علم قوْمٍ ليس لهم علم أصح منه). وهو ما ردده الجاحظ (255 هـ) من بعد... ثم أكده ابن قتيبة (276هـ) في حديثه عن (الشعر والشعراء), وفي كتابه (عيون الأخبار) مشيراً إلى وظائفه المعرفية المتعددة, ودور الشعر في تسجيل هذه الوظائف والحفاظ عليها ونقلها ـ باعتبارها ميراثاً وتراثاً ـ من جيل إلى جيل في البيئات والمجتمعات التي لم تعرف التدوين الكتابي. وما كان لنا ـ في العصور اللاحقة ـ أن نعرف هذه الوظائف لولا الشعر الذي استطاع بفضل وظائفه الجمالية وآلياته الأدبية أو الفنية كالوزن والقافية أن يعلق بالذاكرة البشرية على نحو يسهل معه حفظه وتناقله وخلوده.. فقال:

(الشعر معدن علم العرب, وسفر حكمتها, وديوان أخبارها, ومستودع أيامها, والسور المضروب على مآثرها, والخندق المحفور على مفاخرها, والشاهد العدل يوم النِّفار, والحجة القاطعة عند الخصام, ومن لم يقم عندهم على شرفه وما يدعيه لسلفه من المناقب الكريمة والفعال الحميدة بيتٌ منه ـ شذّت مساعيه وإن كانت مشهورة, ودرست على مرور الأيام وإن كانت جساماً. ومن قيّدها بقوافي الشعر, وأوثقها بأوزانه... أخلدها على الدهر).

ديوان البادية

وهذا يعني أن الشعر الجاهلي ـ على الرغم من كونه شعراً شفاهياً ـ كان هو المصدر المعرفي الوحيد لأخبار العرب, وتاريخهم, وعاداتهم وتقاليدهم, وعلومهم ومعارفهم, وحروبهم وأيامهم, ومآثرهم ومفاخرهم, وقيمهم ومثلهم العليا.. وهو ما أكده ابن خلدون (808هـ) أيضاً في مقدمته حين تحدث عن الشعر البدوي الشفاهي (الشعبي) الذائع في البوادي العربية حتى عصره, بل كان ذلك أيضاً مبرره الأول ـ في تاريخه ـ للعناية بمثل هذا الشعر البدوي الشفاهي وسرد كثير من نصوصه, ومن ثم كانت دعوته إلى الاعتراف به وتدوينه برغم مجافاته للنحو, نظراً لقيمته المعرفية: التاريخية والحربية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية, فضلاً عن كونه المصدر المعرفي الوحيد للمجتمعات القبلية ذات الثقافة الشفاهية, مشيراً في الوقت نفسه إلى أنه (ديوان البادية).

ذلك أن ضياع مثل هذا الشعر البدوي ـ بما هو شعر شفاهي ـ يشكل في النهاية خسارة معرفية وأدبية لا تعوّض, إما لموت الرواة وإما لضعف الذاكرة البشرية, على نحو ما حدث أيضاً مع الشعر الجاهلي نفسه ـ بما أنه هو شعر شفاهي أيضاً ـ من ضياع معظمه كما يقول أبو عمرو بن العلاء: (ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله, ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير), وهذا يعني أنه ديوان قد وصلنا ناقصاً!

مجمل القول: إن مقولة الشعر ديوان العرب لا تعني ـ في سياقها السوسيوثقافي والتاريخي ـ إلاّ شعر المجتمعات والبوادي ذات الثقافة الشفاهية.. وإن هذا الضرب من الشعر (الشفاهي) الذي تختزنه الذاكرة الجمعية لأصحابه ومبدعيه ومردديه هو المصدر المعرفي الأساسي والوحيد الذي يشكل ثقافتهم ويتشكل بها في آن. وهذا هو المعنى المراد من هذه المقولة التي عمّم كثير من النقاد والباحثين معناها إلى أن أصبحت تطلق أيضاً على الشعر العربي كله قديمه وحديثه, حتى في عصور الثقافة الكتابية المعاصرة وزمن الرواية. ولهذا, لا غرو أن نجد كثيراً من المجلات المعنية بالشعر ـ في العصر الحديث ـ تتخذ من هذه المقولة و(غوايتها) شعاراً لها, كما أننا ما زلنا نتشدق في محافلنا العلمية والأكاديمية بهذه المقولة, على إطلاقها زمانا ومكانا وإبداعاً. وفي هذا إجحاف ما بعده إجحاف بفنون القول الأخرى التي ذاعت منذ عصر التدوين الذي صاحب ازدهار الحضارة العربية في عصرها الذهبي... وحتى اليوم.

الإسلام والطفرة الروحية

ذلك أننا نعرف أن الإسلام هو الذي حقق الطفرة الروحية التي حققت بدورها الطفرة السياسية والثقافية والعلمية للعرب, ومنذ أن قام العرب بتأسيس دولتهم الكبرى, وانفتاح ثقافتهم على الآخر الحضاري حتى شرعت ثقافتهم تعرف طريقها إلى التدوين الكتابي الذي ازدهر بعد الإسلام, وبلغ أوجه في عصور العافية السياسية والعلمية والثقافية, فكان (النثر الكتابي) بنوعيه التأليفي والإبداعي, وذلك منذ ظهور دواوين الإنشاء ودور الحكمة التي زخرت بمئات الألوف من الكتب والمصادر التراثية (النثرية) في كل ضروب المعرفة, ابتداءً من المؤلفات الدينية والتاريخية, مروراً بالمؤلفات اللغوية والأدبية والفلسفية, وانتهاء بكتب الفلك والعلوم والكيمياء والفيزياء والجبر والرياضيات وكتب الجغرافيا والرحلات وكتب التراجم والطبقات.

وهذا يعني ـ ببساطة ـ أن ثمة مصادر أخرى للمعرفة, ليس من بينها الشعر الذي انتهت وظيفته المعرفية التأسيسية مع ظهور عصر الثقافة الكتابية, كما كان الحال من قبل إبان الثقافة الشفاهية في العصر الجاهلي.. بعبارة أخرى لم يعد الشعر ديوان العرب, وإنما أصبح (النثر ديوان العرب) في عصر الثقافة الكتابية.

فما من موضوع من موضوعات الحياة الفكرية, وما من فرع من فروع المعرفة الإنسانية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية إلا وكان للنثر فيه شأن وشأو كبيران, ولأن المعرفة تراكمية, أصبح التراث النثري هو ديوان المعارف والعلوم الذي لا يضاهيه ديوان معرفي آخر في الحضارة العربية, وهو الديوان الذي استوعب ـ وما زال ـ تراثنا العلمي والفكري والسياسي والفلسفي, والديني والأدبي والنقدي واللغوي, والتاريخي والجغرافي... إلخ. وذلك على نحو انتفت معه مقولة الشعر ديوان العرب ـ اللهم إلا في العصر الجاهلي حيث لا مصدر معرفياً آخر سواه في الثقافات الشفاهية ـ وحق لنا القول دون تردد: إن النثر العربي ـ منذ عرف العرب الثقافة الكتابية ـ بات منذ ذلك الحين ديوان العرب الأول, في ضوء وظائفه المعرفية التي لم يعد الشعر بقادر على منافسته فيها, لأن الشعر في جوهره خطاب الوجدان لا العقل, وهذا يعني أنه خطاب شعوري لا معرفي.

بعبارة أخرى, هل يعقل أن نلغي تراث ابن المقفع والجاحظ وابن قتيبة وأبي حيان التوحيدي والكندي والفارابي والغزالي وابن رشد وابن سينا وابن حزم وابن طفيل وابن خلدون وغيرهم كثير, لصالح (وهم) أو (سحر) أو (غواية) مقولة الشعر ديوان العرب, أم أنه آن الأوان للحد من هذه التعميمات المطلقة والمبالغات ذات النزعة الخطابية التي ينطوي عليها ترديدنا ـ بوعي أو لا وعي ـ لهذه المقولة وكثير غيرها من المقولات/ المسلمات ـ على إطلاقها من غير أن تكون مقيدة بسياقها الثقافي وشرطها التاريخي أو الحضاري الذي أكدنا عليه.

ولا يعني ذلك أننا ضد الشعر, فما زال الشعر جوهر الثقافة العربية النخبوية, ولا يعني ذلك أيضا أننا نبغي انتهاك المحرّم, أو نرغب في مخالفة السائد والمشهور, ذلك أن الشعر ـ في أسمى وظائفه ـ تأسيس للوجود الإنساني الأسمى, ولكن على طريقته الخاصة والآسرة للأفئدة في آن.

 

محمد رجب النجار