مساحة ود

مساحة ود

(أحلام ليست شاردة)....

بعد أن تباعد وتناءى شبح الموت - المرض - الوحش الضاري, الذي أخذني بين فكيه بعض الوقت, فقضم قطعة من جسدي, وجذب ما تبقى عدد من الصديقات, وابني الجميل, الذي قوى بداخلي إرادة الحياة والنجاة (إبداعي), من قبل عزفت عن الزواج ثانية من أجله, من أجل ألا آتي له بـ(زوج أم) يعامله بقسوة أو يهينه أو ينفيه بعيدًا عني.

ثمة وهج للتجربة, وإيجابيات خاصة للألم, لابد من الوقوف لحظة, أو لحظات أمامها قبل انطفائها.

في محاولة مني لتجاوز المحنة, كان يجب أن أقف في منطقة أقل تورّطًا مع المرض, ولو معنويًا. أن أتعامل مع ما يحدث لي, وما أراه داخل طرقات المستشفى, التي بدت لي بممراتها وطرقها مثل بيت جحا, لكن بشروط العصر.

أن تقف خارج المشهد, وتتأمل جيدًا, يعني أنك لا تنظر بعيني سائح, ولكن بعيني إنسان, وأحيانًا بعيني فيلسوف. وهي قدرة دعمها بداخلي إحساسي الفائق بدرجة اليتم, التي سيلقاها ابني (مجموعتان قصيرتان وثلاث روايات, مخطوطات تحتاج إلى بعض الوقت والعمل فيها لتخرج إلى النور), جسد هذا الخروج من حال الذعر, والكدر, والحزن الشديد, إلى درجة لابأس بها من الحياد والبساطة, وليس التبسيط, ربما لأنني أعلم جيدًا أن نسبة كبيرة من علاج مرض مثل السرطان يعتمد على الحال المعنوية, والتي من شأنها أن تقوّي الجهاز المناعي, وتمنحه قدرة هائلة على المقاومة. والتشبث بأمل جميل يمنح الإنسان قوة دفع حقيقية أشبه بطوق النجاة.

بدأت الرحلة مع بداية الشتاء الحزين, أصعب من الجراحة ذاتها بتحليل الدم, وأشعات على الصدر والبطن والحوض والعظام, خشية أن يكون المرض قد أرسل بعض رسائله الحميمة هنا, أو هناك, بدوت لنفسي وكأنني في حال تأهيل جسدي ونفسي لامتطاء مركبة فضائية, ثم تذكرت أن رحلة الحياة لم تختلف كثيرًا عن الرحلة نفسها, وغالبية البشر مثل أمراض, فيروسات أو بكتيريا, أو أمراض واضحة أو كامنة, حميدة أو خبيثة.

بعض الأشعات أشبه بآلات التعذيب في معسكرات النازية, كنت أدرك بعدها أن هناك حقًا من يرغب في تدمير جهازي السمعي والعصبي, وربما المناعي.

بدت الرحلة مثل مسيرة متهم أخذوه (كعب دائر), وراحوا يدورون معه على جهات أمنية عدة, للتأكد من أنه ليس مطلوبًا على ذمة قضايا أخرى. كان لابد من التأكد من براءة بقية أعضاء جسمي من المرض نفسه, أو أمراض أخرى. كنت أتجاهل شخصي زاعمة لنفسي أنني شخص آخر محايد تمامًا, يرى الأطفال المرضى بأجسادهم الهزيلة, ووجوههم المحمرة, ورءوسهم الخالية من الشعر نتيجة العلاج الكيماوي والإشعاعي اللازم لقتل المرض, الذي هو في حقيقته العلمية خلايا (شاردة), ويقال عنها (مجنونة), تفقد وظيفتها, فتجن وتوجه كل طاقتها إلى إفشال وظائف الخلايا الأخرى, التي مازالت تحتفظ بالحيوية الكاملة, فتهاجمها وتحطم الجهاز المناعي للإنسان. والمعنى واضح الدلالة: لو اعتمدنا مبدأ التماثل بين الخلايا الشاردة في جسم الإنسان, والخلايا البشرية في جسم المجتمع حين تفقد وظائفها وأحلامها, لنا أن نتخيل ماذا فعلت البطالة في مجتمعاتنا العربية.

علينا - إذن - أن نتمسك بأحلامنا, حتى لا تشرد منا أو تجن, فتفعل فعل الخلايا الشاردة أو المجنونة.

الآن, وبعد أن انقضت فترة العلاج الكيماوي والإشعاعي, وسيبقى العلاج الهرموني لسنوات, أؤكد لنفسي دائمًا بمغادرة الحزن والكدر, فلا أرى نفسي مجرد (قطعة لحم) كل دورها في الحياة أن يلتهمها رجل, حتى أعيد إنتاج الغضب على أنوثة منقوصة.

 

نعمات البحيري