نوبل تحيي الشعر شيمبروسكا.. الشاعرة المجهولة محمود قاسم

نوبل تحيي الشعر شيمبروسكا.. الشاعرة المجهولة

خمسة وتسعون روائيا وشاعرا وكاتبا فازوا بجائزة نوبل في الآداب طوال القرن العشرين، ولو راجعت أسماء الأدباء الذين حصلوا على شرف حمل الجائزة، وتسلم قيمتها المالية، وقدرها الآن 1.2 مليون دولار، فسوف تكتشف أن أكثر نصف هذه القائمة شبه مجهول.

ويمكن أن تنطبق هذه الملحوظة بشكل واضح لدى الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبروسكا التي انضمت أخيرا إلى قائمة الفائزين بجائزة نوبل، والتي أثار فوزها تساؤلا جديدا: لماذا تصر أكاديمية ستكهولم على أن تمنح الجائزة لمثل هذه الأسماء المجهولة؟ صحيح أن مندوب الأكاديمية يخرج على رجال الإعلام، ويقول فيما يخص الشاعرة البولندية وموضحا سبب منحها الجائزة: "لأن شعرها، بتعبيراته المحدودة القوية، يسمح بمفهوم تاريخي وحيوي للتظاهر والتعمق في الحقيقة الإنسانية" . ولكن بمراجعة جميع التعبيرات المختصرة التي تطلع بها الأكاديمية من الحيثيات، سوف نلاحظ أنها متشابهة، ومتقاربة، وأن هذه العبارات يمكن إطلاقها بمنتهى السهولة على قصائد الشاعر الإيرلندي شيموس هيني "نوبل 1995" وعلى زملائه من الحاصلين على الجائزة، وأيضا على أغلب الذين لم يحلموا بالمرة بأن ينالوا الجائزة.

وهل كانت فيسوافا شيمبروسكا تحلم بأن تفوز بالجائزة، وخاصة عام 1996؟ أغلب الظن "لا"، لأن الكاتبة في تلك اللحظات التي أعلنت فيها الجائزة، لم تكن مستعدة نفسيا لتلقيها، وقد نشرت الصحف أنها كانت تتناول طعام الغداء في بيت المبدعين، وأن أحدا لم يشأ أن يقطع عليها مراسيمها اليومية.

ولا يعني هذا أننا أمام شاعرة لا تستحق الجائزة، أو أن الأكاديمية أخطأت مجددا حين أعطتها الجائزة، ولكن نعتقد أن هناك فرقا واضحا بين الصدى الإعلامي الذي صاحب فوز الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث عام 1990، وبين نفس الضجة التي صاحبت فوز الشعراء الثلاثة الذين فازوا بنفس الجائزة بعد ذلك، وهم ديريك والكوت (1992)، شيموس هيني، ثم شيمبروسكا، والضجة التي نقصدها هنا هي الدهشة السلبية المصحوبة بسؤال: لماذا؟

وبصرف النظر عن أن فوز كاتب يستدعي الانتباه إليه، على الأقل طوال عدة أشهر بعد حصوله على الجائزة، فإن أقل ما يفعله إعلان اسم الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، على الأقل في السنوات الأخيرة، هو التعرف على كاتب كان في طي النسيان، ولعل أضعف الإيمان لما فعلته الأكاديمية في السنوات الأخيرة، أنها نبهت الناس في كل مكان، إلى أن الشعر لم يمت، وأن الرواية التي تعيش ازدهارا لم تطغ على الشعر، وأن الشعراء لا يزالون بخير، والدليل تلك القصائد التي نشرتها الصحف والمجلات الأسبوعية للشاعرة شيمبروسكا بعد فوزها، فقد أتاح هذا لمن لم يعودوا يقرأون الشعر أن يطالعوا قصائد قصيرة، اتفق أعضاء أكاديمية ستكهولم على أنها تستحق النشر، وأن مكافأة كاتبتها عن هذا الشعر هي ميدالية، واحتفال مهيب، ومبلغ لا بأس به بالنسبة لشاعر.

أغاني الحب الريفي

كل السيرة الحياتية للشاعرة المنشورة حتى الآن، والمتاحة، حتى تلك التي قرأها البعض تبدو متشابهة، وليس فيها تفصيلات دقيقة عن حياة فيسوافا المولودة في الثاني من يوليو في كورنيك، في منطقة بوزنان الواقعة في غرب بولندا، وقد تلقت العلوم الاجتماعية بجامعة كراكوفيا وهي اسم مدينة تعتبر عاصمة تاريخية لجنوب بولندا، وهي المنطقة التي عاشت فيها الشاعرة طوال حياتها.

وحتى الآن، فإن فيسوافا قد نشرت تسعة دواوين شعرية، وبعض الكتب النثرية التي جمعت فيها أبرز مقالاتها النقدية، أي أننا أمام مبدعة لها رويتها ومنهجها النقدي. وتقول الشاعرة إن قصائدها الأولى التي نشرتها لأول مرة عام 1945 كانت بالغة الرداءة. برغم أنها نشرتها في الجريدة الكبرى التي تحمل اسم مدينة "كراكوفيا". وقد رأى بعض النقاد أن هذا الشعر الرديء كان يحمل معاناة من يمثلون البروليتاريا في إطار نظام رأسمالي، وذلك باعتبار أن فيسوافا قد كتبت هذا الشعر قبل أن تسقط بولندا في الحكم الشيوعي الذي سيطر عليها عقب نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويعتبر النقاد أن ميلاد فيسوافا الحقيقي قد ولد في ديوانها "أسئلة مطروحة على نفسي" عام 1954. وفيه اتضح جميع اهتمامات الكاتبة، فهي لا تتعامل مع السياسة، وتكشف عن بواطن امرأة مهمومة بقصائد أغاني الحب الريفي التي تمس شغاف القلب.

ومن اللحظة الأولى حددت الشاعرة مسارها: "شعري ليس ياسيا، برغم أن الحياة تتقاطع بشكل جذري مع السياسة. ولكنني حرصت على أن أبعد جميع كتاباتي الشعرية عن السياسة، فهي كلها عن الناس والحياة".

وقد حاول البعض التأكيد على أن الديوان الذي خصته الأكاديمية بالجائزة مرتبط بمرحلة تاريخية مهمة في بولندا، ففي عام 1980 صدر ديوانها "لا شيء مرة أخرى" . أي قبل التمرد الأكبر في جدانسك الذي قادته حركة "تضامن" العمالية في وجه السلطات الشيوعية. حيث تقول على سبيل المثال:

بالابتسامات والقبلات، نحن نفضل / أن نعقد اتفاقا وراء نجمتنا / لأننا مختلفان / مثلما تختلف نقطتا ماء.

لا .. للسياسة

ومن الواضح أن الإسقاط السياسي هنا غير مقصود، وقد اعترفت الكاتبة بنفسها - كما جاء في جريدة هيرالد تريبون 4 أكتوبر 1996 - إن "أعمالي لم تستلهم قط من فترة المتاعب السياسية في بولندا عندما قامت "تضامن" بأنشطتها السياسية. فأنا استلهم شعري من حياتي خاصة في تلك الفترة. ولم أتعمد قط أن أغير من مسيرتي".

من أهم دواوين الشاعرة: "نداء إلى يتي" عام 1957، "ملح" 1962 "مليون ضحكة وأمل مشرق" 1967، "هناك من أجل صلاة شكر" 1972، "رقم كبير" 1976، "قصائد" 1988، "النهاية والبداية" 1991، "مثل كسرات الخبز الصغيرة" 1963، ولها كتاب نثري بالغ الأهمية باسم "مراجعات الكتب" قامت فيه بعرض مجموعة من أهم الكتب في الفلسفة، والإبداع، وعلوم الاجتماع والنفس وفي الموسوعات، والجدير بالذكر أن الشاعرة قد عرفت بموسوعيتها، كما مارست أعمال الترجمة الأدبية، فنقلت إلى البولندية مجموعة من أعمال أدباء تأثرت بهم مثل مالاراييه، وبول فاليري، وهي تردد دائما قول مونتين الذي ترجمت بعضا من كتبه مثل "انظروا كم نهاية لهذه العصا"، وهي عبارة كانت توجهها لهؤلاء الذين يفسرون الكثير من قصائدها حسب أيديولوجيتهم.

ومن المهم قبل الحديث عن شعر شيمبروسكا أن نعرف منزلتها في الشعر البولندي الحديث، حيث يضعها النقاد ضمن ضلع في مثلث يمثله أيضا كل من زايينيو هربرت (1924) وتادوش روزفيتش (1921)، اللذين ينتميان، كما هو واضح إلى نفس جيلها، فحسب ما نشرته جريدة لوموند فإن فوز شيمبروسكا بالجائزة قد سبب دهشة للبولنديين أنفسهم، فهربرت هو أبوالشعر الحديث في بولندا، وكانت الشاعرة تردد دائما أنها صغيرة، بالنسبة لهربرت، وهو الذي يملأ الأوساط الأدبية في بلاده، وذلك عكس شاعرتنا التي كانت تبعد عن الأوساط الأدبية، ولعل ذلك بسبب نوع القصيدة التي يكتبها كل شاعر من الثلاثة، فقد كتب هربرت الشعر السياسي غير المعارض، ولعل هذا يفسر سبب تجاوزه إلى شاعرة كانت أكثر شعبية بقصائدها العاطفية من الشعبية الشكلية التي يتسم بها أي شعر سياسي.

ففي شعر شيمبروسكا هناك مرارة التجربة الإنسانية، سواء تجربتها الخاصة، أو كما قرأتها في عيون الآخرين. وقد آمنت دائما بأن الإنسان البسيط ليس في حاجة إلى أفكار عظمى وأن البشر الأكثر عمقا يضحكون ببساطة أقل، وتبدو الآلية والتكلف في ضحكاتهم، وذلك بعكس التلقائيين.

شعر . . وفلسفة . . وعزلة

وبرغم هذا، فإن الوجه الآخر للشاعرة المتمثل في ثقافتها الموسوعية لم يفقدها روح السخرية. لما أسمته بدراما الحياة، وفانتازيا الوعي، فالوجود الإنساني ينتمي إلى سلسلة طويلة من التطور الحيوي ومن السخرية أن نتعامل مع كل هذا بأي جدية . وفي قصيدتها "دقيقة في طروادة" المنشورة في ديوانها "مليون ضحكة وأمل مشرق واحد" تقول ساخرة:

تشعر الحسناوات بخفتهن ويعرفن / أن الجمال نعمة / وينال الكلام معناه من شفاه صاحبته / وترسم الملامح نفسها / بما تتضمنه من لا مبالاة.

من المهم الإشارة إلى أن هذا الشعر الساخر لم يخل أبدا من بعد فلسفي، حيث ترى أن ذلك يجعلها تساعد في تفهم العالم بمعاناته. فالسعادة والألم تتناثر أشلاؤهما معا، واللحظة بكل ما بها تفوت، لكن الكتابة هي التي تبقيها، وتجسدها. كما أنها ترى أن الشاعر يصنع من إبداعه ما يراه خياله. "فالغابة التي أكتب عنها ليست لها حواجز مشابهة لما أعبر عنه والغزال الذي يعبرها غير موجود إلا في واقع كتابتي".

ولم يكن إيمانها بالكتابة كما تشاء هي، وليس ما يمليه عليها المجتمع بمنزلة انعزال عن العالم، فهي لم تنفصل قط، على الأقل ذاتيا، عن محركات البشرية الحديثة، وترى أن أساس كل شيء هو معرفة أين يقع الإنسان لمضاعفة وجهات النظر التي تصنع انعكاساتها التاريخية، المأساويات الأشد خصوصية والدراما الأكثر عالمية.

ويبقى الشعر بالنسبة لها هو أساس الحياة، فتقول في قصيدتها "البعض يحبون الشعر" من ديوانها "النهاية والبداية":

البعض / وليس كل الناس / لا الأغلبية، ولكن أقلية/ عدا الطلاب الذين يحفظونه / والشعراء أنفسهم / وبحوالي نسبة اثنين في الألف / فالبعض يحبون / ولكننا نحب أيضا حساء الشعرية / ونحب المديح والألوان الصافية / ونحب وشاحا قديما / ونحب معاكسة كلب / الشعر، لكن ما هو الشعر؟ / أنا شخصيا لا أعرف / لا أعرف شيئا وأضعه جانبا / كأنه تحية عابرة.

من المهم الإشارة إلى أن فيسوافا شيمبروسكا هي سادس أديب بولندي يحصل على جائزة نوبل بعد هنريك سنكفيتش (1905)، وفلاديسلاف ريمونت (1924) وإسحاق باشتفتس سنجر (1978)، وشيزلاف ميلوش (1980) وهذان الأخيران حصلا على الجنسية الأمريكية مثل زميلهما الأديب إيلي فيسل الذي حصل عليها في السلام عام 1986 برغم شهرته كأديب أكثر من صانع للسلام وهناك كاتبان يهوديان متعصبان من هؤلاء الستة هما سنجر وفيسل.

كما أن هذه ليست أول جائزة أدبية تفوز بها شيمبروسكا فقد سبق لها أن نالت العديد من الجوائز الأدبية في بولندا، فضلا عن جائزة ألمانية تحمل اسم "جوته" وأخرى نمساوية تحمل اسم "هردر".

 

محمود قاسم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




فيسوافا شيمبروسكا





جابرييل جارثيا ماركيز





إيلي فيسل





شيزلاف ميلوش





شيموس هيني





يوسف برودسكي