توليد الصور التراثية في شعر البارودي جابر عصفور

توليد الصور التراثية في شعر البارودي

محمود سامي البارودي رائد الشعر العربي الحديث بلا منازع، وريادته متعددة الأبعاد، خصوصا في الجوانب الحديثة التي استهلها، والتي فتحت أفق التجديد أمام الجيل الثاني من الإحيائيين الذين يمثلهم أحمد شوقي ورفيقه حافظ إبراهيم، لكن استهلال البارودي للجديد ما كان يمكن أن يتم لولا القديم الأدبي الذي بعثه والماضي الإبداعي الذي أحياه. وأحسب أن العبارة المأثورة عن الأستاذ أمين الخولي التي تقول إن أول التجديد قتل القديم فهما هي عبارة تنطبق على البارودي الشاعر إلى حد كبير، فهو شاعر بدأ من القديم الذي قتله فهما، وانتقل من الفهم إلى المحاكاة، ومن المحاكاة إلى المنافسة التي يضيف بها اللاحق إلى السابق. وكان ذلك بداية النهضة الشعرية في تطلعها إلى المستقبل الواعد على هدى من ميراث الماضي الزاهر.

ولكن العلاقة بين الحاضر والماضي علاقة إشكالية في شعر البارودي، يحسبها البعض نسخا واتباعا، ويراها البعض الآخر محاولة للتجاوز. والواقع أنها مزيج من الجانبين، فما كان يمكن للبارودي الذي استهل الجديد أن يؤسس للواعد من شعر المستقبل إلا بعد أن أحكم أصوله التراثية، واستغرق فيها إلى الدرجة التي فرضت نفسها على إبداعه، وظهرت آثارها في الكيفية التي يصوغ بها صوره الشعرية. هذه الكيفية لا يكفي الوصف الخارجي لتعرفها، أو الإشارة إليها بوصفها مظهرا من مظاهر البعد التراثي في شعر البارود، أو العبور عليها كأنها إحدى المسلمات، ذلك لأنها خاصية تفضي إلى بعض أسرار الإبداع الذي ينطوي عليه شعر البارودي من منظور الشاعر نفسه، وحسب القيم الإبداعية التي حكمت إنجازه الشعري. وهي خاصية يكشف تأملها عن الآليات التي ينبني بها شعر البارودي في الدائرة التي تكشف عن آية الموهبة الشعرية، وهي الصورة الشعرية. ولا يخفى على قارئ البارودي أن صوره الشعرية تؤدي وظائف متعددة، وتنقسم إلى أنواع متباينة. لكن المهم في هذا السياق هو الكيفية التي تنبني بها هذه الصور في علاقاتها بمصادرها التراثية.

والواقع أن ذهن البارودي فيما يدل عليه شعره في هذا الجانب، تحديدا، كان ذهنا توليديا بطبيعته، لا يتوقف أمام صورة من صور الشعر القديم إلا ليلتقطها مكونا منها صورة جديدة مخترعة، بعد عمليات متعددة من التحوير والتغيير. وهو في هذه العملية ما كان يعتمد على شاعر واحد كما قد يرد على الخاطر لأول وهلة، وإنما كان يتذكر كل ما قرأه وحفظه من صور تتشابه مع تلك الصورة التي أعجبته، ثم يخلطها جميعا بالصورة التي بين يديه ليولد من الجميع صورة يجتهد في جعلها تختلف عن مصادرها الأصلية التي اشتقت منها. من هنا لا تمثل الصور ذات الأصل الواحد سوى جانب قليل في شعر البارودي، لأنه كان يعتمد على ذخيرة هائلة من الصور التي تجمعت في ذاكرته نتيجة قراءاته الهائلة ومحفوظه المذهل من الشعر القديم. وقد ساعد على تعدد مصادر الصورة الواحدة عنده أن الشعر العربي نفسه كان يدور في دوائر محدودة من المجالات والأغراض، فضلا عن أن ارتباط الشاعر المتأخر بمن تقدمه من الشعراء جعله يدور في حدود تشبيهاتهم وصورهم. ومن هنا مر التشبيه الواحد أو الاستعارة الواحدة بعمليات متكررة من التوليد والتحوير، ووجد لهما عشرات بل مئات من الأشكال المتنوعة التي ولدها المتأخرون من المتقدمين. وقد أفاد البارودي من هذه الدورات المتكررة من التوليد مع شعراء مدرسته، ومن ثم كانت أغلب صوره نسيجا متعدد الخيوط.

لكن علينا ملاحظة أن مصادر الصورة من هذه الزاوية لم تكن مصادر عربية فحسب، فقد كان البارودي يعرف الفارسية والتركية، ويكتب شعرا باللغة التركية، ويحدثنا المؤرخون له عن قصائده التي خلفها باللغة التركية والتي لم يقم أحد إلى الآن، فيما أعلم، بدراستها ونشرها. ويعني ذلك أن أي دراسة للمصادر التراثية للصورة الشعرية عن البارودي تظل ناقصة ما لم تستكمل بالأصول غير العربية. ومن ثم فإن الخواطر التي أعرضها في هذا المقال تظل خواطر مقرونة بالتحذير والاحتراس، وينبغي أن تفهم في حدود الثقافة العربية وحدها، إلى أن يقوم المتخصصون في الآداب الشرقية بدورهم ويكشفوا عن الأبعاد التي لا تزال مجهولة من شعر البارودي في هذا الجانب، وهي الأبعاد التي لا تقتصر عليه وحده، والتي يشاركه فيها غيره من شعراء النهضة الذين كانوا يعرفون الآداب التركية بالدرجة الأولى بحكم أوضاعهم الشخصية ومستوياتهم التثقيفية.

وإذا اقتصرنا على التراث الشعري العربي الذي استغرق فيه البارودي والذي كان له فيما أحسب الأثر الحاسم في تكوينه الشعري، إلى أن يثبت العكس، سهل أن نلاحظ آليات التوليد التي تنبني بها الصورة التراثية في شعر البارودي. وأول ذلك هو ما نلاحظه من أنه كان يعتمد، أحيانا، في تكوين صورة بعينها على شاعر قديم بعينه، ولذلك أسباب كثيرة، منها شدة إعجابه بهذا الشاعر القديم، أو انفراده بمثل هذه الصورة. ولكن حتى في مثل هذه الحالة ما كان البارودي يعتمد على صورة واحدة دون غيرها، بل كان يسترجع في ذهنه جميع الأوجه والهيئات التي تقلبت فيها هذه الصورة عند هذا الشاعر القديم، ويستفيد منها جميعا في تكوين صورته الجديدة. والأمثلة على ذلك كثيرة ويمكن أن نتوقف عند مثلين اثنين فقط، يتأثر البارودي في أولهما بأبي العلاء وفي ثانيهما بصردر.

يقول البارودي:

إني أرى أنجمه قد ونت

فمالها أيد على السبح

هنا نجد الصورة تعتمد على أبي العلاء بوجه خاص، فقد أغرم المعري غراما لافتا باستعارة الغرق للنجوم، على نحو يمكن أن يلاحظه القارئ لسقط الزند. وقد وعى البارودي كل هذه الصور ثم استخلص، أو استنتج، منها صورته التي تجعل النجم ضعيفا متهالكا، لا يستطيع أن يسبح في بحر الظلام، بعد أن أشرف على الغرق الذي أكثر أبو العلاء الحديث عنه، فتابع أبا العلاء وحقق معنى الإضافة إليه.

أما عندما يقول البارودي:

عاتبته لا لأمر فيه معتبة

ولكن لأرعى وردة الخجل

فألبست ياسمين الخد خجلته

وردا جنيا جناه رائد المقل

فإنه يعتمد في تركيب صورته على الشاعر صردر بوجه خاص، ولكن الصورة التي يصوغها بيتا البارودي لا تعتمد على مصدر واحد أو أصل واحد في شعر صردر بل تجمع في خيوطها أكثر من مصدر وأكثر من أصل. وتقوم صورة البارودي على ما يسميه البلاغيون بحسن التعليل، فهو يعلل عتابه للحبيبة بطلبه رعي ورود الخجل التي تتفتح في صفحتي خدها لحظة العتاب، ثم يضيف إلى ذلك فكرة أخرى هي جنيه لهذا الورد بعينيه. أما فكرة الرعي فأخذها من قول صردر:

إن روض الخدود ليس لرعي

ونمير الثغور ليس لشرب

ولكن ما أساليب البارودي في عمليات التوليد التي كان يعتمد عليها في تكوين صوره التراثية؟ لقد كان يلجأ -في كثير من الأحيان - إلى صورة جزئية كثرت عند الشعراء القدامى ثم يوسعها مكونا منها صورة مفصلة، مستعينا على ذلك بمحفوظه الغزير، تماما كما كان يحدث في قصائد المعارضات. وهذه الوسيلة هي دعامة البارودي الأساسية في تكوين الصور التراثية. ويمكن أن نتوقف عند مثال واحد فحسب يدل على غيره. وهو مثال صورة الخال التي تتكرر كثيرا في شعره، ومنها هذه الصورة:

ليس لي غير خالك الأس

ود في كعبة المحاسن قبلة

فأثبني على الجمال زكاة

فزكاة الجمال في الخد قبلة

ويكشف تتبع مصادر هذه الصورة في التراث الشعري أن البارودي أخذ تشبيه الخال بالحجر الأسود عن أكثر من شاعر، لأنه تشبيه يكثر بالفعل عند الشعراء وأحسب أن ذاكرة البارودي، في أبعادها التراثية، استعادت تشبيهات كثيرة، وانتبهت إلى أن الشعراء القدماء ولدوها من فكرة الحج إلى الحبيبة والطواف حولها، وبما أن الحج ركن من أركان الإسلام فيمكن للبارودي، والأمر كذلك، أن يضيف ركنا آخر إلى الصورة القديمة حتى يوسعها ويزيدها طرافة، وهنا يتذكر فكرة الزكاة في قول أبي العلاء:

لغيري زكاة من جمال فإن تكن

زكاة الجمال فاذكري ابن سبيل

فيتلقفها لكنه لا يجعل الزكاة هي الذكرى التي تحدث عنها أبوالعلاء بل يجعلها "القبلة" كي يجانس في بيته بين "القبلة" و "القبلة"، ويتفوق على ابن المعتز وابن سناء الملك وابن النبيه وأضرابهم. ومن الطريف أن شوقي تأثر بصورة البارودي هذه، لكنه توقف عند الأساس منها فقط فقال:

وبخال كاد يحج له

لو كان يقبل أسوده

وهناك وسيلة ثانية يلجأ إليها البارودي في الاستفادة من صور الموروث وتوليد صور جديدة منه. وهي وسيلة تكشف عن آلية أخرى من آليات الاتباع الذي تنبني على أساسه الصورة التراثية. وهذه الوسيلة الثانية عكس الأولى تماما، فإذا كنا في الأولى نرى الشاعر يوسع الصورة الأصلية بالاستعانة بغيرها من الصور فإن الوسيلة الثانية تقوم على اختزال مجموعة من الصور القديمة واستخراج صورة موجزة منها. من هذه الصور بيت البارودي:

ناغيتها بلسان الشوق فازدهرت

للحسن في وجنتيها وردتا خفر

ولسان الشوق في هذا البيت كناية عن الدموع، وهو أمر يوضحه البارودي عندما يقول:

فثقي بما تمليه ألسنة الهوى

وهي الدموع، فحقها لم يدفع

والكناية في البيت مأخوذة من أكثر من مصدر، من البحتري وابن الأحنف والمتنبي وأبي فراس والأرجاني، والبارودي يعرف هذا النوع من التراث معرفة كاملة أتاحت له التوقف عند أمثال هذه التشبيهات تحديدا، والإفادة منها في عمليات التوليد التي يقوم بها، وذلك على النحو الذي انتهى معه إلى الربط بين غزارة الدموع وتفتح الورد في الوجنات بواسطة الدموع أو ألسنة الشوق التي تروي الخد على سبيل الاستعارة المكنية.

ولم يتوقف البارودي عند هذا الحد بل قال في قصيدة أخرى:

ضمت جوانحه إليك رسالة

عنوانها في الخد حمر الأدمع

فأقام البيت على حسن التعليل الذي استفاد في تكوينه من توليدات الشعراء المتأخرين فاستفاد من ابن قلاقس، ومن العباس ابن الأحنف العباسي.

لكنه مزج الصور التي استمدها بغيرها من التشبيهات التي تصل الدموع بالدم، وولد منها صورته التي أفادت من التوليدات المتعددة واختزلتها في خيوطها المكتنزة.

وهناك وسيلة ثالثة يلجأ إليها البارودي لتوليد صوره التراثية. وهي وسيلة الجمع بين فكرتين متعارضتين معا لإثارة المفارقة وإدهاش القارئ. ولنضرب مثلا على ذلك بقول البارودي:

عجبت لعيني كيف تظمأ دونها

وإنسانها في لجة الماء سابح

فالصورة تثير دهشة القارئ فيما يفترض، لأنها تقوم على المفارقة بين ظمأ العين لوجه الحبيبة وغرق إنسانها في الدموع. والمفارقة، بدورها، مقصود بها إظهار براعة الصنعة بالدرجة الأولى، فهي نوع من المران العقلي، أو المنافسة الحرفية، وهي في هذا المثال نتيجة محاولة حاذقة للجمع بين أكثر من مصدر لتكوين صورة طريفة. وعندما نفتش عن مصادر مثل الصورة نجد البارودي يأخذ فكرة الظمأ إلى الحبيبة من البهاء زهير ثم يأخذ فكرة السبح في بحر الدموع من ابن المعتز، ثم يجمع بين الفكرتين البعيدتين على نحو يحدث المفارقة التي قامت عليها الصورة.

أما الوسيلة الأخيرة التي يلجأ إليها البارودي لتوليد صوره، فهي الانتقال بالصور القديمة من مجالاتها التي ذكرت فيها إلى مجالات أخرى جديدة. فإذا كان الشاعر القديم الذي يتوقف عنده البارودي يأتي في مديحه مثلا ببعض الصور الطريفة فإن البارودي يأخذ الصورة وينقلها من مجال المديح إلى مجال الغزل أو وصف الطبيعة، وقد يصنع العكس. ولا تظهر هذه الوسيلة إلا في قصائد المعارضات، وهي مرتبطة بحرص التفوق على الشاعر المعارض. هكذا يتوقف البارودي عند إحدى مدائح ابن هانئ في المعز لدين الله الفاطمي، ويلفت نظره قول ابن هانئ:

خابت أمية في الذي طلبت

كما يخيب رأس الأقرع المشط

فأخذ الصورة ونقلها من مجال المديح إلى مجال آخر هو وصف الطبيعة فقال:

وللنسيم خلال النبت غلغلة

كما تغلغل وسط اللمة المشط

هذه هي الوسائل الأساسية التي كان يلجأ إليها البارودي لتكوين صوره أو معانيه المبتكرة. ومن المهم أن نؤكد، في هذا السياق، أن البارودي في تشكيله لأمثال هذه الصور التراثية ما كان ينفرد بتقنياته، أو يتميز بها عن غيره، ذلك لأنه كان يعتمد التقنيات نفسها التي سبقه إليها أسلافه من الشعراء، التقنيات التي تعلمها منهم، ونقلها هو إلى الجيل الثاني من الإحيائيين، ومن ثم أصبحت هذه التقنيات بمنزلة وسائل وآليات عامة في التوليد، ثقفها الجميع وتوسلوا بها كي يحاكوا القدماء ويتفوقوا عليهم، وينالوا ثناء أمثال حسين المرصفي ومن على شاكلته من نقده ذلك العصر.

قد يرفض القارئ المعاصر بذوقه المغاير طرائق التوليد هذه، أو يرفض الصورة التراثية بوجه عام، ويرى في الكثير منها تلاعبا ذهنيا بمواد الشعر القديم لا يمكن أن يصل بأي شاعر إلا إلى العقم. وقد قام جيل طه حسين و العقاد بواجب هذا الرفض على نحو حاسم. لكن علينا أن نتذكر، قبل المضي في موجة الرفض، أن هذه التقنيات كانت النهج المثالي لعصر الإحياء في صناعة الشعر، خصوصا في أبعاده التراثية، وهو عصر كانت له معايير في فهم الشعر وتقويمه وتذوقه تختلف اختلافا كبيرا عن معاييرنا المعاصرة.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات