تجارب ناصعة في بلاد المهجر

تجارب ناصعة في بلاد المهجر

قضايا
إلى متى يتجاهل العـرب جالياتهم?

ثمة تجربة رائعة يخوضها العرب المقيمون في الخارج, للتواصل مع القضايا العربية والتأثير الفاعل هناك في الوطن البديل, فمتى يمد عرب الشرق أيديهم لمساعدة إخوانهم في البلاد البعيدة?

عندما ألقى إبراهيم أبو نادر عصا ترحاله في مدينة مونتريال الكندية عام 1882 قادماً من مدينة زحلة (التي كانت تابعة لسوريا حينذاك) عبر مدينة نيويورك الأمريكية, لم يكن يخطر بباله أن ما فعله كان بمنزلة وضع اللبنة الأولى في بناء البيت العربي - الكندي على أديم (العالم الجديد), وهو البيت نفسه الذي ساهمت - ولا تزال - موجات الهجرة العربية إلى كندا في تشييد صرحه وتدعيم أركانه لكي يستوعب حالياً أكثر من 400 ألف نسمة من العرب الكنديين (أي حوالي 1,4 بالمائة من مجموع سكان كندا) والذين أصبحوا يعكسون في أصولهم الإقليمية أو الوطنية, وفي لهجاتهم المحلية وانتماءاتهم الدينية والاجتماعية كل ما يحتضنه العالم العربي من التوهّج الحضاري أو الثقافي والتوتر السياسي والتباين الاجتماعي والاقتصادي, وتلك هي إحدى نقاط الضعف والقوة معاً للجالية أو (الجاليات) العربية - الكندية, لأن التركيز على نقاط الاختلاف يضعف من فاعلية أبناء المهجر, ولكن تقوية عناصر الوحدة - وما أكثرها - واستغلاله يزيد من فاعلية الجالية وثقلها الاجتماعي والسياسي.

وأغلب الظن أن العوامل التي دفعت أبو نادر وأمثاله من المهاجرين العرب لمغادرة بلادهم والتوجه نحو شاطئ كندا خاصة والعالم الجديد عامة هي العوامل نفسها التي كانت, ولاتزال, تدفع بالآلاف من أبناء العالم العربي للرحيل عن أوطانهم: إما سعياً وراء آفاق أوسع للرزق وفرص أكبر للعمل والعيش وأملاً بالاستقرار في مجتمعات تحترم حرية الإنسان وكرامة المواطن (أي عوامل الجذب), وإما هرباً من الظلم والقمع والإرهاب وضيق سبل العمل والكسب (أي عوامل الدفع). ومن هنا تبرز أهمية معالجة التحديات التي تواجه العرب في المهجر, لأنه وجود مليء بالاحتمالات, احتمالات تأسيس (قرطاجة) جديدة أو (أندلس) حديثة, جنباً إلى جنب مع احتمالات تحطيم قرطاجة وضياع الأندلس, وبالتالي ضياع الهوية الحضارية أو الثقافية للعرب الكنديين. فكما أثبتت تجربة الحضارة العربية - الإسلامية في الأندلس نفسها, فإن العطاء الحضاري للعرب كان يرتكز أساساً على قدرتهم على الانفتاح والتسامح وبناء مؤسسات ترفد التوهج الحضاري وتذكّيه, كما أن غياب شمسهم من سماء الأندلس جاء نتيجة لسيادة القبلية السياسية متمثّلة بممالك الطوائف, وانحسار التسامح, وسيادة التعصب القبلي أو الطائفي الأعمى, وكذلك الضعف المزمن في القيادات والمؤسسات, وفقدان القدرة على الإبداع مع فقدان الحرية والاستقرار. إن وجود العرب في كندا - وفي الولايات المتحدة أيضاً - يحتوي على كل هذه الاحتمالات, كما أن نجاحهم أو فشلهم في التحليل الأخير هو رهن بمدى قدرتهم على استخدام هذه الطاقات البشرية والمادية والفكرية المتاحة بكفاءة وذكاء لما فيه خيرهم وخير المجتمع الذي يعيشون فيه.

خلفية تاريخية

إن بداية هجرة العرب السوريين (إحصاءات الهجرة الكندية استمرت في تصنيف المهاجرين من لبنان وسوريا الحاليتين كسوريين حتى بداية عقد الخمسينيات من القرن الماضي) إلى كندا تزامنت مع الفترة التي شهدت زيادة في أعداد المهاجرين إلى كندا عموماً. ففي سنة 1882 التي دخل فيها أبو نادر كندا - مثلاً - سمحت كندا بدخول حوالي 113 ألفاً من المهاجرين مقارنة بحوالي 48 ألفاً خلال العام السابق, كما أن حوالي 886 ألف مهاجر دخلوا كندا بين عامي 1881 و1890 مقارنة بأقل من 343 ألف مهاجر خلال فترة السنوات العشر السابقة لذلك. الأهم من هذا هو أن أعداداً متزايدة من المهاجرين الذين جاءوا إلى كندا خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر جاءوا من خارج الولايات المتحدة وأوربا الغربية - وخاصة من دول شرقي ووسط وجنوبي أوربا. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن منظار الاثنية الكندي قد بدأ يعكس ألواناً مختلفة, ومن هذا المنطلق, فإن هجرة العرب إلى كندا أضافت بعداً جديداً إلى هذا المنظار, وذلك على الرغم من الانخفاض النسبي لعدد المهاجرين العرب وخفة وزنهم الديموغرافي بحيث إنهم أضافوا مجرد لون باهت يصعب ملاحظته ضمن ألوان قوس قزح الاثني الكندي.

من ناحية أخرى, فإن معدل نمو الجالية العربية - الكندية من عام 1911 وحتى عام 1951 كان منخفضاً واعتمد أساساً على الزيادة الطبيعية أي الفرق الإيجابي بين الولادات والوفيات. وبهذا الخصوص, فإن عدد العرب السوريين المولودين في كندا بين عامي 1911 و1921 ازداد بحوالي 970 شخصا فقط, أي من 2907 إلى 3877, كما أضيف إلى هؤلاء مجرد 74 شخصاً فقط بين عامي 1921 و1931. الأكثر من ذلك, فإن عدد العرب السوريين المولودين في كندا خلال الفترة من عام 1931 وحتى 1941 قد انخفض من 3953 إلى 3577, وذلك لتوقف الهجرة كلياً إلى كندا من ناحية, وبسبب وفاة بعض العرب الكنديين الذين ينتمون إلى الرعيل الأول من المهاجرين من ناحية أخرى.

ومع ذلك, وابتداء من نهاية الحرب العالمية الثانية, فإن الحكومة الكندية تعرضت لضغوط كثيرة ومن مصادر مختلفة بما فيها الأقليات الاثنية الكندية لتحرير سياسة الهجرة الكندية وجعلها أكثر انفتاحاً وليبرالية. وبالرغم من أن الاستجابة لهذه الضغوط كانت بطيئة, فإن هذه الفترة قد شهدت تغيرات كبيرة في سياسات الهجرة, ونتج عن ذلك دخول أكثر من أربعة ملايين مهاجر جديد إلى كندا خلال الفترة الممتدة من عام 1946 إلى عام 1975, كما أن أكثر من واحد من كل مائة من هؤلاء المهاجرين جاء من العالم العربي, ومن هنا يمكن القول بأن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية, وخاصة عقد الستينيات, شهدت نموّاً متسارعاً في الهجرة العربية إلى كندا واكب تغيرات نوعية في خصائص هؤلاء المهاجرين العرب وأصولهم الوطنية. إذ بينما جاء معظم - إن لم يكن كل - المهاجرين العرب إلى كندا قبل عام 1945 من لبنان وسوريا بالتحديد, فإن هؤلاء المهاجرين أصبحوا أكثر تنوّعاً وأقل تجانساً.

واعتباراً من عام 1967, أي العام نفسه الذي شهد حرب (أو هزيمة أو بالأحرى مأساة) الأيام الستة, فإن قانون الهجرة الكندي تعرض لتغييرات جذرية بحيث ألغي منه كل تمييز قائم على أساس الأصل العرقي أو القومي للمهاجر, وأصبح هناك ثلاث فئات للمتقدمين للهجرة إلى كندا وهي: (1) فئة المكفولين من قبل الأقرباء المباشرين المقيمين في كندا, سواء أم أو أب أو أخ أو أخت أو زوج أو زوجة أي فئة توحيد العائلات, و (2) فئة المستقلين الذين تقيم طلباتهم للهجرة على أساس نظام مبني على معايير موضوعية مثل المهارة اللغوية باللغتين الرسميتين الإنجليزية والفرنسية, ومستوى التحصيل العلمي والخبرة والمهارات العملية والعمر وما إلى ذلك, و (3 ) فئة اللاجئين الذين يسمح لهم بدخول كندا لأسباب إنسانية تتمثل بالهروب أو النجاة من الاضطهاد السياسي أو الإرهاب والعنف.

إن هذه التغيرات الإيجابية في قوانين الهجرة الكندية والتي واكبت الهزات أو النكسات والنكبات السياسية الكبرى التي عصفت بالعالم العربي (سواء نكبة فلسطين أو الحروب الأهلية في لبنان والعراق والجزائر والصومال والسودان أو الحرب الإيرانية - العراقية, أو حرب الخليج الثانية - عاصفة الصحراء), قد ساهمت كلها في زيادة الهجرة العربية إلى كندا وبوتائر متسارعة والتي تبين أن عدد المهاجرين العرب والذي بلغ حوالي 64 ألفاً خلال عقد الستينيات قد ارتفع إلى حوالي 76 ألفاً خلال عقد الثمانينيات, وإلى أكثر من 133 ألفاً خلال العقد الأخير من القرن العشرين.

خصائص ديموجرافية واجتماعية

تشير المعلومات المتوافرة حول العرب في كندا إلى وجود خصائص متميزة يمكن تلخيصها حسب البنود التالية:

1- إن الجالية (أو الجاليات) العربية شابة نسبياً وذات معدلات ذكورية عالية. إذ إن الهيكل العمري للعرب الكنديين يعكس بوضوح سيادة الشرائح العمرية المنتجة (أي الفئات العمرية بين 25-26 سنة) مقارنة ببقية سكان كندا وانخفاض الفئات العمرية التي تتعدى أعمار التقاعد أو الإحالة للمعاش (أي 65 سنة فما فوق). كما أن حجم العائلة العربية - الكندية نسبياً أكبر من حجم العائلة لبقية سكان كندا مما سيؤدي إلى استمرار التزايد الطبيعي لهذه الجالية (أو الجاليات) في المستقبل. يضاف إلى ذلك أن نسبة الذكور إلى النساء بين العرب الكنديين (أي ما يسمى بالمعدلات الذكورية MASCULINITY RATIOS) هي نسبة عالية وخاصة ضمن الفئات العمرية ذات العلاقة المباشرة بالتكوين العائلي أو الأسري, وهذه هي أحد العوامل المسئولة عن ارتفاع نسب زواج الذكور العرب من النساء الكنديات غير العربيات, على الرغم من اختلاف هذه المعدلات الذكورية بحسب الأصل الوطني للعرب الكنديين إلا أن المعدل الإجمالي هو في حدود 121 رجلا لكل مائة امرأة.

2- زيادة التنوع الديني والأصل الوطني, إذ بينما كان المسيحيون العرب يشكّلون الغالبية العظمى من المهاجرين الأوائل من سوريا ولبنان, فإن هذه السمة قد شهدت تغيرات كبيرة خلال العقود الثلاثة الماضية, وخاصة بعد الحرب الأهلية في لبنان والاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي في جنوب لبنان, وكذلك نتيجة للحرب الأهلية في الجزائر والصومال (السبب في ذكر الصومال هنا هو أن هذه الدولة - من الناحية النظرية على الأقل - مازالت تعتبر عضواً في جامعة الدول العربية) وحربي الخليج الأولى والثانية والنكبات التي تعرض لها الشعب العربي الفلسطيني ولايزال من جراء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقطاع. نتيجة لهذا كله, ارتفعت نسبة المهاجرين من العرب المسلمين مما أدى إلى زيادة التنوع الديني بحيث صارت الجالية (أو الجاليات) العربية - الكندية أقل تجانساً من موجات الهجرة الأولى, كما أنها أصبحت تعكس بشكل أكبر فسيفساء العالم العربي نفسه.

3- التحسن الواضح في الخلفيات المهنية والتعليمية وزيادة التنوّع الاجتماعي, إذ شهد التكوين المهني والأصل الاجتماعي والسمات الاقتصادية والتعليمية للمهاجرين العرب تغيرات هائلة خلال السنوات الماضية, إذ بينما كانت الغالبية العظمى من المهاجرين الأوائل تتميز بمستويات تعليمية منخفضة, وكان أفرادها يمارسون مهناً تحتاج إلى القوة العضلية والمثابرة والذكاء الفطري (مثل البيع بالتجوال أو العمل اليدوي في المصانع أو إدارة البقالات الصغيرة), كما أن غالبيتهم قد جاءوا من خلفيات ريفية أو جبلية فقيرة (مثل قرى جبال لبنان), فإن موجات الهجرة العربية خلال العقود الثلاثة الماضية قد تميّزت بمستويات تعليمية وكفاءات مهنية عالية وخاصة تلك القادمة من مصر والعراق وسوريا والأردن والسودان والمغرب والضفة الغربية وقطاع غزة. ولهذا السبب, فإن غالبية العرب الكنديين يعيشون في المدن الكندية الكبرى (مثل تورنتو ومونتريال وأوتاوا ولندن وهاملتون وادمنتون وجالجري وهاليفاكس وشارلتون تاون وغيرها من الحواضر الكندية التي تستقطب المهاجرين من ذوي الكفاءات التعليمية والمهنية العالية).

وبسبب هذه التغيرات الكمية والنوعية الهائلة التي شهدتها الجالية (أو الجاليات) العربية - الكندية, فإن تحديات الاندماج في المجتمع الكندي وبناء المؤسسات القادرة على تفعيل دورالعرب الكنديين في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكندية ازدادت أهمية وحساسية وخطورة معاً.

بين الأصالة والانتماء

إن عملية التأقلم الحضاري أو الثقافي معقدة, كما أنها ليست وقفاً على العرب الكنديين وحدهم أو أن كندا نفسها قد عُرّفت بأنها (أمة مهاجرة) لأن الشعوب أو الأقليات الاثنية الكندية تتكلم أكثر من 150 لغة بما في ذلك اللغة العربية, كما أن قضية التأقلم الثقافي ترتبط وبشكل مباشر بمسألة التواصل أو الامتداد الحضاري للجماعات ومدى إمكان خلق نوع من التوازن المبدع والخلاّق بين الأصالة الثقافية والانتماء إلى الموطن الجديد والتفاعل البناء معه.

أربعة أنماط

لقد ميّز علماء الاجتماع بين أربعة أنماط من التأقلم الحضاري وهي:

أولاً: نمط الذوبان وسمته الأساسية هي محاولة المهاجر الهروب من جلده واستبداله بجلد جديد حيث يصبح (محمد) (مايك) و (فاروق) (فرانك) و (سهيل) (ستيف), إضافة إلى إقامة علاقات اجتماعية وعائلية, بما في ذلك الزواج خارج المجموعة الاثنية التي ينتمي إليها المهاجر أصلاً. وتلك كانت سمة المهاجرين الأوائل من العرب الذين (ذابوا) تماماً في المحيط الكندي وذلك لأسباب متعددة أهمها قلة العدد النسبية والتحيز العنصري ضد المهاجرين غير الأوربيين وعدم وجود مؤسسات ثقافية أو اجتماعية للحفاظ على الشخصية الحضارية ودعم الاحتفاظ باللغة العربية.

ثانياً: نمط الانعزال وهو نقيض النموذج الأول ويتميز معتنقوه بالانفصال الكامل عن المحيط الاجتماعي والثقافي الكندي والعيش في قوقعة أو مناطق خاصة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمجتمع الكندي الكبير. وعندما يحدث الانعزال بشكل اختياري, فإن النتيجة هي الانفصال الكامل كما حدث بالنسبة للطائفة الدينية المعروفة باسم (الهوتورايتز) في كندا والتي يعيش أفرادها في مناطق مستقلة تماماً ومعزولة كلياً عن بقية المجتمع الكندي وذلك في محاولة متعمّدة للحفاظ على تقاليد واعتقادات معينة لهذه الطائفة.

ثالثاً: نمط التهميش والذي يتسم بإجبار المهاجر على اتخاذ موقف يشبه المتفرّج على مسرحية تجري فصولها ويتم إخراج أدوارها على نحو بعيد كل البعد عن حياة واهتمامات المهاجر, ونتيجة لذلك يعاني المهاجر مما يمكن تسميته بــ (أزمة الهوية), حيث يتم (تغريبه) عن ثقافته وتاريخه إضافة لتهميشه من قبل المجتمع الذي فرض عليه العيش فيه, وهذه حالة العبيد أو الجماعات المنبوذة في المجتمعات العنصرية.

رابعاً: نمط الاندماج والذي يسمح للمهاجر بالمشاركة الفعلية الكاملة وعلى جميع الأصعدة والمستويات في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الكندي ويمكنه في الوقت نفسه من الاحتفاظ به, ويشجعه على تنمية الشخصية الحضارية الأصلية للمهاجر بما في ذلك اللغة ومنظومة القيم والدين والعادات والتقاليد المتعلقة بالهوية الاثنية أو الثقافية للمهاجر.

وفيما يتعلق بالعرب الكنديين عموماً, فإن اتجاه الغالبية العظمى هو تحبيذ او انتهاج النمط الرابع, أي الاندماج لأنهم أظهروا رغبة قوية بالمشاركة الفعلية في الحياة الكندية بكل ألوانها وحقولها يوازيه رغبة لا تقل قوة للاحتفاظ بالهوية الحضارية, مثل اللغة والدين وبعض العادات والتقاليد بما في ذلك الطعام والموسيقى وتفضيل الزواج من ضمن أبناء الجالية حفاظاً على (سلامة العائلة).

هذا لا يعني طبعاً أن الإنسان العربي - الكندي يعكس في تصرّفاته دائماً سمات وخصائص هذا (النمط الاندماجي) أو أنه أمين تماماً لمضمونه, بل على العكس, فإنه من الممكن أن يعكس المهاجر العربي - الكندي خلال فترات مختلفة من حياته وفي تعامله مع المجتمع الكندي الكبير بعضاً من سمات الأنماط الأربعة معاً, ولكن الأمر الأساسي هنا هو أن (التوجه العام) لغالبية العرب الكنديين بما في ذلك أنماط التفكير والتصرف المسيطرة على حياتهم كأفراد وجماعات تشير نحو توجه اندماجي فاعل ومتفاعل مع المجتمع الكندي, وهو توجه يمكن وصفه بأنه صحيّ ومبدع ومتسامح لأنه قائم على أساس المقولة التي طرحها أحد الحكماء وفحواها (إنني مستعد لفتح شبابيك بيتي لهبوب الرياح من كل جهات الأرض, ولكنني لن أسمح لها بأن تقتلعني من بيتي لأن البيت هنا يعكس الشخصية الحضارية للإنسان.

تطبيق الاندماج

وهنا تبرز أهمية إحدى المشكلات الأساسية التي تواجهها الجالية (أو الجاليات) العربية في كندا عموماً, وهي أن قدرة هذه الجالية على التطبيق الناجح للنموذج الاندماجي تستلزم إنشاء مؤسسات قوية مدعومة مالياً وإدارياً لترجمة الطموحات والآمال إلى واقع حي معيش مثل المدارس لتعليم اللغة لأبناء وبنات الأجيال الجديدة, ومراكز للخدمات الاجتماعية والعائلية والترفيهية, ودون بناء هذه القاعدة (المؤسساتية) القوية, فإن الجالية ستشهد - كما هو حالها الآن - وجود فجوة كبيرة بين الطموحات والوقائع, أي بين الحلم والحقيقة مما قد يؤدي إلى الإحباط أو الانهماك في نشاطات أو خلافات جانبية ذات أبعاد إقليمية أو طائفية لا تغني من فقر ولا تشبع من جوع, بل وقد تؤدي بالبعض إما لاحتضان نموذج الذوبان أو الهروب إلى نموذج الانعزال أو البقاء على الهامش, وكلها أنماط قاسمها المشترك هو عدم القدرة على التعامل الفعّال والفاعل مع المجتمع الكندي, وهذا ما نجحت في تحقيقه الجالية (أو الجاليات) اليهودية في كندا. إذ استطاع اليهود الكنديون (والأمريكيون أيضاً) بناء قاعدة مؤسساتية قوية ومتكاملة وعلى مستويات عالية من الكفاءة الإدارية والتمويل بحيث أصبح التأثير أو الوزن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لليهود يفوق كثيراً نسبتهم السكانية (يوجد حالياً في كندا حوالي 360 ألف يهودي, وهو أقل من عدد العرب الكنديين, أما عدد المسلمين في كندا فإنه يفوق المليون شخص أي أكثر من أربعة بالمائة من مجموع سكان كندا, ومع ذلك فإن الوزن السياسي والاجتماعي لكل من العرب والمسلمين هو أقل بكثير من وزنهم العددي).

وهنا تجدر الإشارة إلى أحد الأسباب المهمة لعدم قدرة العرب الكنديين على خدمة القضايا العادلة للعالم العربي, وخاصة قضية فلسطين ومعها قضية رفع الحصار المميت ضد الشعب الفلسطيني يعود أساساً لما يمكن وصفه بــ(أزمة احترام النفس) التي يعاني منها العرب, سواء على المستوى الفردي (أو الجزئي) أو على المستوى القومي (أو الكلي) والتي تنعكس في نواح متعددة من الحياة العربية سواء في بلاد المهجر أو في الأوطان الأم, وتبرز أعراض هذه الأزمة المزمنة من خلال مجالات متعددة أهمها ثلاثة وهي: (1) الحقل الثقافي متمثلاً بهزالة الوجود الحضاري المعاصر للعالم العربي و (2) الحقل السياسي متمثلاً بغياب الحرية والديمقراطية وسيادة النظم الديكتاتورية في الدول العربية و (3) الحقل الاقتصادي متمثلاً بفشل الدول العربية في إقامة سوق عربية مشتركة, ومن ثم إقامة نظام اقتصادي عربي موحد منسجم مع روح عصر العولمة والتكتلات الاقتصادية الكبرى وديناميكية التطور التكنولوجي السريع, أما أسباب هذه الأزمة, فإنها متعددة أيضاً, ويمكن إجمالها ضمن أربعة عناصر أساسية وهي:

(1) الإرث الاستعماري, إذ إن النظم الاستعمارية, أجنبية كانت أو محلية, بطبيعتها تحاول تحطيم كرامة الشعوب المستعمَرة وتزييف تاريخها وتشويه حضارتها, لكي تفقد هذه الشعوب احترامها لنفسها وثقتها بها.

(2) النظم الاستبدادية, فمن طبائع الاستبداد أن يحاول تجريد الإنسان من الكرامة وعزة النفس لأن النظم الاستبدادية تريد تحويل الشعوب إلى قطعان غنم لا فرسان فكر ونور.

(3) نظم التعليم السائدة في الدول العربية والتي لا تشجع على التفكير الحر ولا تنمّي الإحساس بالكرامة لأنها في مجملها استمرار أو تكريس للأجواء القمعية القائمة في المجتمع.

(4) التربية البيتية التي يغلب عليها الطابع التسلطي, ولكنها في الوقت نفسه تقوّي روح الاتكالية على (رب العائلة) وما يترتب على ذلك من قلة الاعتماد على النفس, ومن ثم قلة احترام النفس.

وضمن هذا الاطار, فإنه يمكننا أن نفهم أسباب عدم قدرة عرب المهجر على خدمة قضايا العالم العربي بشكل فعّال من ناحية, وتحويل طموحاتهم الحضارية في المهجر إلى وقائع من ناحية أخرى, فهم شاءوا أم أبوا يعكسون تناقضات العالم العربي, ولكنهم في الوقت نفسه يمتلكون كل احتمالات القوة والنجاح الكامنة في ذلك العالم المليء بالمتناقضات, ومنها تناقضات الفقر المدقع مع الغنى الفاحش, والضعف المزمن مع قوة الموارد والمواهب.

تفاعل عربي

لقد قطعت الجالية أو (الجاليات) العربية - الكندية أشواطاً تاريخية طويلة وتخطت عقبات كثيرة منذ ولادتها على أديم كندا عند وصول أول مهاجر عربي من لبنان (سوريا) عام 1882, أي بعد حوالي ست سنوات فقط من إنشاء كندا كدولة اتحادية وذلك عام 1876. وخلال هذا التاريخ الطويل, استطاع العرب الكنديون القيام بمساهمات كبرى وفي كل الحقول والمجالات, وعلى سبيل المثال لا الحصر, فإن المرحوم جوغيز والمتحدر من عائلة عربية لبنانية, والذي وافته المنية في أواخر عام 1996 قد تقلّد منصب رئيس وزراء مقاطعة برنس ادوار آيلند من عام 1986 وحتى عام 1992 وكان من أشهر رجال السياسة الكندية, كما حظي باحترام الشعب الكندي كله لحنكته السياسية ونبل مواقفه الوطنية.

كما أن المغني (الأمريكي) المشهور بول أنكا هو أصلاً من مواليد كندا ومن عائلة عربية لبنانية الأصل والمنشأ. وكذلك الحال بالنسبة للفنان المشهور المرحوم جون جوزيف عرب الذي توفي في منتصف العام الماضي بعد عمر طويل قضاه بالغناء وخدمة الحياة الفنية الكندية. وهناك أيضاً السيدة كلير حداد التي تعتبر من أشهر مصممات الأزياء في كندا ومنحتها الحكومة الفيدرالية الكندية أعلى جائزة تقديرية وهي (وسام كندا). وتلك هي مجرد أمثلة, وهناك الكثير الكثير من المساهمات في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والاختراعات العلمية والكوادر الأكاديمية بحيث لا تخلو جامعة كندية من أستاذ أو أكثر من أصل عربي, إذ إن أول امرأة كندية تتقلد منصب عميد كلية الهندسة في أي جامعة كندية كانت من أصل عربي (وهي المصرية الأصل البروفسورة هدى المراغي).

ومع ذلك, وبالرغم من أن تاريخ الوجود العربي في كندا قد ابتدأ منذ ولادة كندا نفسها كدولة. وبرغم عظمة المساهمات التي كان العرب الكنديون ولايزالون يقدمونها للحياة الكندية, وبالرغم من التزايد السريع في الهجرة العربية إلى كندا, فإن الثقل الاجتماعي والسياسي للعرب الكنديين لايزال ضعيفاً ولا يتناسب أبداً مع الوزن الديموجرافي لهذه المجموعة الاثنية الشابّة نسبياً والنشطة دائماً. كما أن العرب الكنديين كانوا ومازالوا يواجهون العديد من التحديات والقضايا المهمة سواء على المستوى الكندي العام (مثل الشعور بالتحيز الإعلامي ضدهم وضد ثقافتهم وتاريخهم وقضاياهم المعاصرة وخاصة قضية فلسطين), أو على المستوى الفردي والعائلي (مثل مشاكل العمالة, والتوتر العائلي بين الأجيال الجديدة والقديمة وحالات الطلاق المتزايدة والمشاكل الناجمة عن الزواج من غير العرب), أو على المستوى التنظيمي متمثلا بالضعف المؤسسي, إذ إنه لا يوجد حتى الآن وفي أي مدينة كندية أي مركز ثقافي عربي أو أي قسم في أي جامعة كندية متخصصة بالعلاقات العربية - الكندية, وليس هناك أدنى شك في أن إقامة مثل هذه المؤسسات الحضارية تعد جزءاً لا يتجزأ من عملية التفاعل البنّاء بين العرب الكنديين والمجتمع الكندي الذي يعيشون فيه. ومثل هذه المؤسسات الثقافية أو الأكاديمية تختلف عن المهام التي تؤديها أو تلعبها دور العبادة مثلاً, كما أنها تكمل وتدعم الثقل الديموجرافي أو السكاني لأي أقلية اثنية, ومع الأسف فإنه مع تزايد أعداد العرب في كندا, فقد ظهرت مفارقة واضحة ألا وهي الزيادة الكبيرة في إقامة دور العبادة - أي الخصب الديني - والضعف المزمن للمؤسسات أو المنظمات العربية العلمانية - أي الفقر المؤسسي العلماني. وبهذا الخصوص, فإن الاتحاد العربي الكندي الذي أنشئ عام 1967 - وكان نتيجة لحرب الأيام الستة - بهدف الدفاع عن القضايا العادلة للعرب الكنديين جميعاً وتقوية العلاقات العربية - الكندية, يعتبر بحق المنظمة العربية الكندية الوحيدة التي يمكنها أن تزعم وبمصداقية لا تشوبها شائبة أنها المؤسسة التي تمثل في توجهها وتطلعاتها ودستورها التأسيسي ونشاطاتها المختلفة كل آمال وطموحات العرب الكنديين, وخير مثال على ذلك هو تنظيم (يوم التراث العربي) الذي يقوم به الاتحاد كل عام في مدينة تورنتو (خلال الأسبوع الثالث من شهر أكتوبر) ويعكس هذا الاحتفال السنوي في برامجه ومضامينه الثقافية والفنية كل ألوان قوس قزح العربي, ابتداء من دول شمال إفريقيا وانتهاء بدول الخليج العربي ومروراً بحوض النيل وبلدان الهلال الخصيب.

التحدي الكبير

إن عدم قدرة العرب الكنديين حتى الآن على إنشاء مراكز ثقافية عربية متكاملة في المدن الكندية الكبرى على شاكلة تلك المراكز التي قامت بإنشائها مجموعة إثنية أخرى مثل الجاليات اليونانية والإيطالية واليابانية والبولندية والأرمنية والصينية واليهودية والاوكرانية, تعتبر حالياً أحد التحديات الكبرى التي تواجهها الجاليات العربية - الكندية لأن هذه المراكز أو المؤسسات الثقافية هي التي تعطي للوجود الحضاري العربي بعداً أو ثقلاً مادياً محسوساً تتنفس من خلاله الأجيال العربية - الكندية الحالية والقادمة عطر الحديقة الحضارية الدائمة الخضرة للعرب جميعاً, بغض النظر عن أصولهم الوطنية أو انتماءاتهم الدينية أو توجهاتهم السياسية. وإذا كان صحيحاً أن (من أنكر أصله فلا أصل له), فإنه لصحيح أيضاً أن (من لم يحترم ثقافته فلن يحترم نفسه), واحترام الثقافة العربية يتطلب إنشاء مراكز ثقافية عربية - كندية لجعل الوجود العربي في كندا أكثر تألقاً وأقوى فاعلية.

 

إبراهيم حياني







شارع قديم متجدد قرب البرج العظيم





مركز البوسنة الإسلامي





السيد جمال كافيه (في الوسط) وعن يمينه السيد سليم الهرش رئيس النادي الاردني والسيد إلياس حزينة مساعد السيد كافيه





الدكتور عبدالفتاح الزاوي وزوجته, رئيس جمعية الاطباء العرب في اونتاريو





أحد شوارع تورنتو القديمة