جمال العربية

جمال العربية

الشرنوبي.. ريادة مُبكِّرة لقصيدة الشعر الحرّ

بين عامي 1924 و1951 عاش الشاعر صالح علي الشرنوبي, وعلى مدار سبعة وعشرين عامًا, بلغ الشاعر أفقه المرتقب في عالم الإبداع الشعري, ورحل مُخلّفًا وراءه تراثًا شعريًا ينطق بموهبته الفذة, وأصالته الشعرية الواضحة, آخذًا مكانه ومكانته بين شعراء العمر القصير والإبداع الثريّ, بدءًا بطرفة بن العبد, وصولاً إلى أبي القاسم الشابي.

لكن العمر القصير ليس الملمح الوحيد في سيرة الشرنوبي, فهناك العديد من صنوف الألم والمعاناة والحرمان التي تعرض لها الشاعر منذ نشأته الأولى, متقلبًا في وجه أبوّة قاسية تريد له أن يكون صورة من أبيه, وتعليم ديني أزهري, لا يلائم طبيعته الفنانة, ونزعته المتمردة الحرّة, وعقله دائم التساؤل والجموح, وحين يرى في التقدم إلى امتحان القبول لدار العلوم حلم حياته, وفرصة ابتعاده عن الحياة الأزهرية, ينجح في الامتحان التحريري, ويرسب في الشفوي بسبب عدم حفظه للقرآن الكريم, فيضطر إلى الالتحاق بكلية أصول الدين, التي يهجرها ويهجر كل أمل في الدراسة بسببها بعد شهور قليلة, وحين تضطره ظروف حياته إلى العمل مدرسًا بالتعليم الأولي, يفشل في أن يكون معلمًا ملتزمًا يحرص على مواعيده ودروسه. وينتهي به الأمر إلى حياة تستهلك طاقته وشبابه, بين صعاليك الفن, وحرافيش الصحافة, وأصدقاء الليل المليء باللهو والمجون والإدمان, وحين تسوء حاله, وتتداعى صحته, يكون مستشفى الأمراض العقلية بمنزلة الملاذ والإنقاذ, وحين يغادره بعد عدة شهور, يعود إلى سابق ما كان عليه, حتى تكون النهاية المحتومة, إثر عودته إلى أهله وبلدته (بلطيم) على شاطئ بحيرة البرلس في مصر, حين يجلس على شريط قطار الدلتا, مستغرقًا في تأملاته وخيالاته واسترجاع صور طفولته وصباه, فيصدمه القطار صدمة الموت, وتكون نهاية الشاعر تحت عجلاته.

والمتأمل في ديوان صالح الشرنوبي الذي صدر عن دار الكاتب العربي بالقاهرة في سلسلة (تراثنا) من دون تاريخ - بتحقيق د.عبدالحي دياب ومراجعة د.أحمد كمال زكي - يمكن أن يتابع رحلة الشاعر في دواوينه المتتابعة التي أصدرها بين عامي 1944 و1951 وهي: (أصداف الشاطئ) و(الأمواج) و(نسمات وأعاصير) و(في موكب الحرمان) و(وطنيات) و(أقاصيص في الحب والحياة) و(أشعار ورسوم) و(ظلال وألوان) وأخيرًا (مع الريح).

ظلال وألوان

يقول في تقديم مجموعته (ظلال وألوان), في لغة أدبية شعرية بديعة:

في ساعة صمت
والليل كأنه قلب العاشق المهجور
أَخلدَ إلى السلوى, بعد أن جاهد أشباح هواه
فأجهدته, وألقت به على تراب الواقع
والكون كله كالآهة المقرورة
تنبعث من قلب طائر مستوحش
دوّخته الريح
فلم يجد له بين الرياض عُشّا يأوي إليه
وأنا.. في وحدتي
أمثّل راهبًا من رهبان الأساطير
لم يكمل دوره بعد
لأن الشاعر الملهم الذي بدأ القصة
لم يرد أن يكملها,
حتى يستوحي عالمه الأثيري الحالم
معاني القوة والخلود
ومن حولي, ذكريات غير مسطورة
إلا في صفحات الوهم,
الطائرة في مهبّ الريح
وتستغرقني أحلامي وخيالاتي
فأنظر من وراء الحجب
لأرى الأهرام الثلاثة.. قصائد المجد الخالد
التي مازالت تتحدى بمعانيها
كلّ شاعر ظهر في هذا الوجود
ويقول صالح الشرنوبي تحت عنوان (أمشاج):
أيها الفلق المُلثّم بضباب الألم
أيها الفجر المُحيّر بين النور والظلمة
هذه صلواتي أبعثها إليك
باسمة الدمع
دامعة البسمات
لعل فيها بقية من عبير روحي
تسبح وتهيم في محرابك الصامت
لتوقظ في قلبك الناسي
معاني الرحمة والإشفاق
ويقول تحت عنوان (صلوات):
لاهمّ إني ظامئ إلى منهلٍ صوّره لي حنيني إليك جائع ملهم بوحي الخبز السماوي
الذي أتلقى فتاته حينما يزدردني الحرمان
إلا قلبًا يخفق بك, ولسانًا يذكرك,
وعينا تراك
لاهمّ فَارْوني
واشفني بقطرات غيثك الأزليّ الأبديّ
وأعطني
وأنلْني ولو بقية كسرة
من مائدتك الأزلية الأبدية

***

لاهمّ إني نقعت نفسي في كأسٍ من
الفكر الثائر والجَدِّ العاثر
وأذبت ترابي في مُحيط التراب
ولكنني كنت أرى روحي ترفّ على أثباجه
تناديني نداء المستغيث بالأمل:
أفق يا قبري من رقدتك
فما بقي على فراقنا إلا ما يعلم الله
فَاسْمُ عن طريقِ المعلوم فقد التاث
وأنتظر المجهول فهو الغياث!

الشاعر... شهاب يحترق

هذه الكتابات النثرية الشعرية البديعة, تكشف عن طبيعة الوجدان الذي حمله هذا الشاعر الذي توهج ساطعًا ومضى كالشهاب المحترق, مزيج من الحسّ الرومانسي - الذي كان به الشاعر معبرًا عن التيار الشعري الذي مثّله معه إبراهيم ناجي وعلي محمود طه والهمشري وصالح جودت ومحمود حسن إسماعيل في ذلك الوقت - والحسّ الصوفي أو الروحي, الذي كان به الشاعر يتطهر من أوْضاره وتُرابيّته وماديته النهمة ونزعاته الحسيّة الجامحة, ومن هذا المزيج كان مزاجه الشعري تحليقًا مستمرًا يصطدم بقيوده ومحدوديته, وانفلاتًا روحيًا, دون جدوى, من سجن الجسد والضرورة, وشغفًا مستحيلاً بما وراء اللذة العابرة والمتعة الجارفة من صفاء وأمان وطمأنينة.

من هنا, نجد في سيرته الشعرية رُفقة حميمة لشعراء القاهرة - في الأربعينيات والخمسينيات - يضمهم كالنجوم المتناثرة أفق واحد, وتتخطفهم دروب الليل وطقوسه, ليلتقوا في يومهم الجديد, من جديد, ليكملوا تجوالهم واقتناصهم لفنون اللذة والمتعة في شارع الفن: شارع عماد الدين, حيث دولة السينما والمسرح والغناء, وليمارسوا صولة الفاتكين, تتسقَّط الصحافة أخبارهم وحكاياتهم وتنشر الجديد من إبداعاتهم وتنشغل الحياة الأدبية والثقافية بكل ما يُروى عنهم.

في ظل هذا المناخ - النفسي والفني - كان الشرنوبي يقول:

أشغليني بما تريدين مني
واملئي بالغرام سمعي وعيني
بفنون الإغراءِ, باللهب الثائِر
من جسمك البديع الأغنِّ
جسمُكِ العبقريُّ شكلاً وظلا
الغويُّ, الغنيّ عن كلّ حُسْنِ
أشغليني, فقد تنالين من عُمريَ
يومًا, نقضيه كالحالمينْ
كرمُكِ المشتهى القريبُ من الأيدي
وإن كان غاية المتمني
خَفِيتُ فيه من أُنوثتك الحمراءِ
دُنيا حدودُها فوق ظني
يا ابنة الليل والخطيئة والآفاقِ
والسّجن والهوى والتمني
قصة أنتِ أَلّفَتها الليالي
من شذوذٍ وحيرةٍ وتجنِّ
أشعليني نارًا, فلن تحرقي منِّي
إلا ما جفّف الدهر مني

والحياة في نظره أنثى, تجعله يتقلب بين الوصل والصدود, وهو في الحالين مقود لا يملك أمره, ولا يستطيع أن يتخير طريقه, والأمل - كلّ الأمل - في رفاقه, من الشعراء وصعاليك الليل:

آمنتُ أنّ الحياة أُنثى
من طبعها الوصلُ والصدودُ
وأَعجبُ الأمر في هواها
أنّى إلى حُبّها مَقودُ
فيا رفاق الطريق غنّوا
فربما يقرب البعيدُ

وفي قصيدة عنوانها (أطياف) قالها في واحدة من فتيات (البرلّس) الفقيرات الجميلات, يفاجئنا صالح الشرنوبي بأنه من الرواد الأول في حركة الشعر الجديد, أو الشعر الحر, شعر التفعيلة, يهديها الشاعر إلى (كوخها الغريب في عزلته بين قصور الرمال والأمواج), ويضع لها عنوانًا لافتًا للانتباه هو (من الشعر المرسل). وعندما نتأمل التاريخ المبكر للقصيدة, وهو عام 1945, فإن الشرنوبي يكون سابقًا - بإبداعه لهذه القصيدة في صيغتها المكتملة - النموذجين اللذين شغلا النقاد ومؤرخي الأدب لكل من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب, والسؤال عن أيهما يُعدّ السابق في ريادة الحركة الشعرية الجديدة.

يقول الشرنوبي:

إذا ما العاشقُ المجهولُ أغرى الشمس باللّقيا
وراء الأفُق الضاحي
فَمنَّتهُ ومدّت, كخيوط الوهم, إشعاعاتها الحمرا
كما منَّيتني يومًا وفي خدَّيْكِ توريدُ
وسالت من شفاه السُّحبِ صهباءُ الترانيم
تهدهدُ ربّة الإشراقِ إذ أسكرها الحبُّ
لكن لا تُعجّلَ الخَطْوا
وأسكرها نداءُ الحبّ فاستقبلت الليلا
وحَيّتْهُ وألقتْ ثوب نُساكٍ معاميدِ
وغَيّبَ خصْرَها البحرُ
فكانت في مرائي العيْنِ محرابًا من التّبْرِ
وغنى الليل في الآفاق أنشودةَ أشواقه
وهوّم ذاهل الحسّ وفي كفّيْه مصباحُه
وظلّل جُنْحهُ الدامي نجومًا مثل أيامي
توالى السعدُ والنحْسُ عليها
واصطلتْ حرب ليالٍ حصَدتُ عُمري
وعُمرَ الأنجم الزَّهْرِ
وماس الضوءُ
واختال النسيمُ العفُّ وهُنانًا بما يحملُ من سرِّ
إلى عُشّاق خفَقاته
تُواكبَهم على الأُفقِ أمانٍ كالأساطيرِ
ومجّ البدرُ ريّق نُورِه المنْسابِ في الكونِ
فكحّل بالسّنا القُدْسي أهدابًا وأجفانا
وما شاء له العُجْبُ بمن يرجون رُجعاهُ
أَذابَ اللحنَ أصداءَ
وأَفْنى الليل أضواءَ
يُسلسل نَغْمَةَ الميعاد للهانئِ بالحبِّ
ويُرعشُ جفْنَهُ الضارع يحمي مُنْية الصبِّ ويرعاها
كما كان يزيّنُ لروحنا اللُّقيا
ويرعانا إذا جئنا إلى وادي الصبابات

***

بربّكِ إن رأيتِ الشمس في المغرب مشتاقهْ
إلى عاشقها النائي
وناغمتِ شُعاعاتٍ لها في الأُفق خفاقة
وشاهدْتِ سُرى الليل وإطراقه
وكحّل جفْنَكِ السّاجيَ واستأْنَى على هُدبِك
فصاغ لآلهاتِ الشِّعر أشراكِا من الألحاظ مسحورة
وضمّ البدرَ في عينيْكِ مهدٌ رائحٌ غادِ
كمهد الطفلِ, إلا أنه من مُقلٍ سُودِ
وخاض العطرُ الوسْنانُ من خمر ثناياهُ
على أعطافكِ النشوى
وراقصَ طائفُ الأنسامِ أفوافًا من الشِّعْرِ
يُموّجها على الجيد كما يهْوَى
وتخطرُ في حناياها الأفاويقُ
وباهى الشاطئُ الأسْنى بكِ الدنيا
بزيتونية العينَيْنِ, سينائيةِ النَّسَب
هواها في عذارى الشطِّ أحلامٌ غريبات
فحيّ العاشقَ المجهولَ, والشّمْسا
وحيّ الليل والبدْرَا
وحيّ في يباب الحب غضًّا ذاويَ الزهْرِ
وبين فرادسِ الأشواكِ طيرًا صاديَ الروحِ
لعلّ الله يُدنيني
فيُحْيي ذاويَ الزهر وتروي العاشقَ الصّادي
لأنْسَى عَالَمَ الحرمانِ والتّحْنان والسُّهْدِ
أُنادمُ من إذا أشرق فجرٌ أنكروا الفجرا
وإن أطبقَت الظلماءُ
- والظلماءُ ميثاق لبلواهم -
أقاموا مأتمًا للصفو بَكاءَ الأناشيد
تناهى بهمو الوجدُ فما يدرون إصباحا
ولم يدروا من الليلِ سوى زحمة آلامِ
كساها القدرالجبّار من حظ المساكينِ
ثيابَ الصّمْتِ والرَّوْعِ
فراحت تقطعُ الأُفقَ خِضمَّا دافقَ الموجِ
وآهات المحبّين به كالسُّفنِ الحيْرى

***

بربّكِ إن صحا الفجرُ وسار الأُفُقُ بالبدرِ
وغادتْكِ مع الأنسام أطيافُ الهوى الطّهُرِ
فلبّى الهاتف المجنون قد نَدّ عن الصدْرِ
وذاب مع النسيم نديً ليوقظ ناعسَ الزّهْرِ
وتيّمَه شعاعُ الفجر فانساب مع الفجرِ
وشاقَتْهُ معاني الروح من راووق أشعاره
فمثّلَ شوقَهُ المُلْتَاعَ أشباحًا وأطيافًا!

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات