زيارة قصر الحمراء نور الدين خضور

زيارة قصر الحمراء

بقلم: جان كو

كنت في التاسعة من عمري. كل أسبوع كان يذهب والدي إلى الأرملة سانجورجو فيسألها إن كانت الوظيفة قد شغرت. وكان والدي قال لأمي: "روزاريو، إني أعرف الأرملة سانجورجو وهي صاحبة فندق رينا إيزابيل. سأذهب وأطلب منها عملا". وهكذا أخذ يذهب إليها كل أسبوع. وكل أسبوع كانت تقول له:

- إني سعيدة برؤيتك، يا ميشيل. هل تريد فنجان قهوة؟ بلى، بلى، سنتناول فنجان قهوة.

- لا أريد أن أزعجك.

- إنك لا تزعجني.

كانت بدينة، لطيفة، تتضوع عطرا منذ الصباح. وكانت، أثناء تناول القهوة، تبتسم لوالدي، كان نحيلا، لكنه جميل جدا، ورجل بكل ما في الكلمة من معنى. وإني اليوم متأكد أنه لو قابل الأرملة ابتساما بابتسام لأعطته في الحال وظيفة بواب. لكنه كان يتناول قهوته بحياء وأنفة. فكانت تقول:

- لا، يا ميشيل، الوظيفة ليست شاغرة. لا يمكنني أن أطرد العجوز شينيتو. صحيح أنه مريض ويسعل باستمرار، ولا يمكنه أن يصعد إلا بحقيبة واحدة كل مرة، ويستند إلى الجدار عند كل دور، لكن ليس هناك ما أعيبه عليه: إنه يقوم بعمله، فاهم؟

- طبعا، إني فاهم.

- مر علي في الأسبوع القادم، يا ميشيل.

وعند انصرافنا من الفندق كنا نلتقي أحيانا العجوز شينيتو وهو يجر بصعوبة حقيبة، كان بوسع والدي أن يحملها بكل سهولة. وكان العجوز يحدجنا بنظرة حاقدة من عينيه الحمراوين.

أخيرا بدأت والدتي تغار من الأرملة سانجورجو فقالت ذات يوم:

- ها قد مضى شهران وأنت تذهب إليها تسألها عن عمل ! وكل أسبوع! ومنذ شهرين! لا بد أنها تضحك عندما تراك مقبلا.

- لن أذهب بعد الآن. أجاب والدي.

- من الأفضل لك أن تسأل السيد فيسانت، فهو واسع الحيلة وقد يرشدك إلى أمر.

وذهبنا إلى فيسانت فأخبره والدي أنه بلا عمل وأننا نعيش من خدمة والدتي في بيوت الأغنياء. قال فيسانت:

- نعم، نعم، هذا صعب، يا ميشيل، إني فاهم وضعك.

وراح يفكر وهو يدعك وجنتيه ثم أردف قائلا:

- اسمع، يا ميشيل، يمكنك أن تكون دليلا سياحيا. فهذا شهر مايو قد أقبل والسياح بدأوا يتوافدون، إني بستاني في قصر الحمراء، ولا يحق لي أن أكون دليلا، أما أنت فيمكنك ذلك. أظنها فكرة جيدة، جيدة جدا!

أجاب والدي بدهشة:

دليل سياحي؟ أين؟ وماذا سأقول؟

ومضى فيسانت يشرح لوالدي أن ذلك لا يعني بالنسبة له أن يكون دليلا داخل القصر: "حالما يحصل السياح على تذاكرهم، ينتهي دورك، لأن هناك أدلاء القصر، وما لم يدخل السياح، فإن الأمر لك" لا شك أن فيسانت كان شديد النشاط، متوقد الذكاء. لقد شرح لوالدي ماذا يجب عليه عمله، بل وعرض أن يعيره كتابا يتعلم منه ما ينبغي له أن يقوله. لكن، لسوء الحظ، لم يكن يحسن القراءة. فما كان من فيسانت إلا أن اقترح أن يعطي والدي دروسا كل يوم، ولمدة أسبوع. فعلى أرض الواقع تجري الأمور بسرعة".

قال والدي:

- حسنا، اتفقنا.

في اليوم التالي بدأت الدروس وقد قال فيسانت لوالدي: "يا ميشيل، يجب أن تصنع لك روزاريو قبعة كي تبدو دليلا حقيقيا. بإمكان الصغير أن يأتي معك فقد يعطيه السياح، بعض النقود، وزيادة الخير خير. والآن اسمع: تقف هنا وتنتظر الزبون. ها هو يصل. بالنسبة له أمامه أمران: إما أن يسلك الطريق المرصوف وإما ممر الحمراء. ستقول له إن الممر هو للسيارات، وأن لا شيء هناك يستحق المشاهدة، ثم تشير إلى الطريق المرصوف، فيتبعك". واستمر الحال هكذا طوال أسبوع، وفي نهاية الأمر أصبح والدي يعلم أن الأسوار قد بنيت في القرن الثاني عشر، وجملة من الأمور المعقدة. بل إن فيسانت نصحه أن يخترع حكايا مخيفة ليأخذ بألباب السياح.

أخيرا. حفظ والدي دروسه، وبدءا من الاثنين التالي أخذني "أعمل" معه. في البدء كان الأمر صعبا لأنه كان خجولا عزيز النفس. وإني لأذكر أنه كان شاحبا عندما دنا من أول سائحين له. لقد تكلم وعرض خدماته، لكن أحد السائحين قال إنه لا يفهم الإسبانية، فأرخى والدي ذراعيه وابتعد كاسف البال.

ومع ذلك واصل القيام بدور الدليل وبكسب بعض المال، ما بين العشرين والأربعين بيزيتا في اليوم. ولم يكن ذلك بالكثير، لكن بما أننا كنا ننتظر أخا صغيرا في شهر يوليو فإن ذلك أحسن من لا شيء.

ذات يوم اعترضنا سائحين فرنسيين. هي كانت شقراء، زرقاء العينين، وهو كان طويلا جدا، نحيل الساقين، ويفهم الإسبانية. وراح والدي يحدثه عن الأبراج والحجارة والأعمدة. بينما راح الرجل يترجم للمرأة بالفرنسية ما يقوله والدي. كانت المرأة تبدو مسرورة، وأخذت تداعب شعري سائلة إياي عن اسمي. فأجاب والدي:

- يواكيم.
- وسأله الرجل بعد ذلك:
- هل أنت عاطل عن العمل؟
- نعم.
-مهلا.

وكعادته أشاح والدي بوجهه في تلك اللحظة، وبينما السيدة تقبلني (لقد خيل إلي أنه جنية) وضع الرجل شيئا في جيب والدي.

ومضينا ننظر إليهما وهما يدلفان إلى قصر الحمراء، ثم قال والدي: "لقد أعطاني ورقة نقدية صغيرة" وبحث في جيبه وعندما أخرج يده فغر فمه صائحا: "انظر، إنها خمسمائة بيزيتا" لقد كانت يده ترتعش: "مستحيل، إنه قد أخطأ". لقد كنا نسير بسرعة ونحن ننزل شارع غومير لأن والدي كان مقتنعا أن السائح قد أخطأ وأنه على وشك أن يدركنا. لقد كان يحث الخطى الأمر الذي كان يضطرني إلى الجري تقريبا. العرق كان يتصبب منه، وكان شاحبا يردد لاهثا أن والدتي سيطير عقلها من الفرح وأن أحوالنا قد "فرجت". وفي ساحة نوفا إذا به يبطئ الخطى وكأنما ساقاه تؤلمانه وقال: "سنتناول فنجان قهوة". وجلسنا في مقهى - الأمر الذي لم يحدث لي أبدا - مثل الأثرياء، ومثل ثري طلب والدي فنجاني قهوة له ولي.

- هل سمعت اسم فندقهما؟
- نعم. لقد قال السيد إنهما ينزلان في فندق الحمراء.
- متأكد؟
- نعم.

وبقينا في المقهى أكثر من ساعة وما كنت أدري لماذا لا نعود إلى المنزل ونعطي الورقة النقدية لوالدتي. ثم إني ما كنت أدري لماذا جرينا بتلك السرعة كي نتوقف فجأة، ونبقى هنا جالسين مثل تمثالين، في هذا المقهى. "تعال" قال والدي بصوت هادئ. ولما كنا لا نسلك طريق المنزل فقد سألته: أين نحن ذاهبان؟

- اسمع، يا بني، لا تخبر والدتك بأمر الخمسمائة بيزيتا.
- لماذا؟.
- لأني سأعيدها، يا يواكيم.
ولما رآني لا أجيب وأنظر إليه باستغراب، أضاف:

- لو احتفظت بهذه الورقة النقدية، لكان ذلك مالا حراما. إن أخذ مال من شخص أخطأ هو كالسرقة تماما، ونحن لسنا لصوصا، يا بني.

وجلسنا على حجر كبير، تحت شجرة، على بعد بضعة أمتار من مدخل فندق الحمراء وانتظرنا. وكان الليل قد حل.

- لا بد أنهما ذهبا إلى المدينة يتعشيان، لكنهما سيعودان إلى الفندق. يواكيم، يجب أن تتذكر على الدوام أني أعدت الورقة النقدية، أتسمع؟

لقد برزا تقريبا من العتمة، فبدرت عنهما حركة مفاجئة وتراجعا عندما أبصرانا. "هيا! ها هما!" قال والدي بصوت مختنق. لكنه كان هادئا للغاية عندما خاطب الرجل قائلا: "سينيور، لقد أخطأت هذا اليوم ودفع إليه بالورقة النقدية: "لقد أعطيتني خمسمائة بيزيتا". وبقي واقفا أمام الرجل والمرأة الصامتين، والورقة في يده. قال الرجل:

- هل أنتما هنا منذ فترة طويلة؟
- كنا ننتظركما، يا سيدي.
- إني لم أخطئ. قال الرجل مبتسما، إن الصغير نعسان، على ما أعتقد، طابت ليلتكما.

ولم أكن نائما لأني رأيت السيدة تبكي وهي تنظر إلي.

 

نور الدين خضور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات