هذه المدينة, التي لا تزال مركزا مهما لتلاقي الحضارات المختلفة
ومسرحاً للحوارات المتشعبة نسجت شبكة من العلاقات بصورة مثالية ندر تكرارها
واستنساخها مرة أخرى قبل أن تظهر وسائل المواصلات المريحة وفي ظل غياب وسائل
الاتصال وتبادل المعلومات بصورة ميسرة كما هو الحال اليوم.
إن نجاح هذه المدينة الايطالية في إقامة هذه الشبكة من العلاقات
الواسعة, يرجع إلى سبب محوري يتمثل بوضوح مضمون رسالتها, التي حملتها منذ البداية
إلى فضاء العالم الخارجي, والتي تجلت في مفاهيم التسامح والحوار والتعاون.
وربما يتساءل المتابع عن أهمية هذه المفاهيم السامية, التي تبنتها
مدينة فلورنسا قبل سبعة قرون من الزمن? وما مضمون ما كانت تتطلع اليه آنذاك ونحن في
بداية الألفية الثالثة? إن الإجابة عن هذه التساؤلات المشروعة في غاية الأهمية لفهم
ما هو والمتمثل في الرغبة والعمل الحثيث للخروج من مرحلة العصور الوسطى المظلمة
وتدشين عصر النهضة التنويرية ودفع المسيرة الإنسانية خطوات إلى الأمام.
خطت مدينة فلورنسا لنفسها خطاً فريداً من نوعه, وهي في مرحلة انفتاحها
على العالم فانطلقت من قاعدة راسخة وثابتة لم تتغير بتغير الأزمنة المختلفة
والأحداث, فقد (حاورت نفسها في البدء) قبل (أن تحاور الآخرين), فأصبحت أول مدينة في
عالمنا تصل إلى (مرحلة السلام مع النفس, ولتصل فيما بعد إلى السلام مع الآخرين) ولم
تتوقف عند حدود هذا الدور بل أثرته من خلال توقفاتها التأملية أثناء منعطفات
التاريخ المهمة.
بمعنى أنها رسمت ورصدت بدقة أهدافها, التي تريد تحقيقها. كما عرفت
أيضاً بصورة علمية وموضوعية ذات طابع تحليلي للظروف والمعطيات المتاحة أمامها آنذاك
والمحيطة بها لتجد وتخلق الآلية المناسبة والمرنة.
فعرفت أن ازدهار وتقدم تجارتها الخارجية وتراكم الأموال التي تجنى
منها يجب توظيفها بصورة مثلى لحمايتها أولاً عبر نقل هذه التجربة إلى الحواضر
والأمم الأخرى, ثانياً رفعت شعاراً ينادي بإزالة كل الحواجز وفتح الحدود مع الجميع
فطبقت (دعه يعمل. دعه يمر) قبل وقت طويل من الزمن.
وكذلك انفتاحها على الموروث الديني والثقافي ودراستها للتباين الاثني
والعرقي بصورة معمقة في القارة الأوربية ومنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط, حيث شجعت
حركة الترجمة إلى اللاتينية فنهلت بشغف من منابع وكنوز الثقافة الإسلامية والعربية
الشيء الكثير بالأندلس ثم انتقلت بعد هذه المرحلة إلى الاطلاع على الحضارة
الإغريقية وثقافات البلدان الاخرى.
كما تبنت عبر حقبة حكم آل ميدتشي نخبة من المفكرين والمثقفين
والفنانين الفلورنسيين لتضع الأطر السياسية والفكرية والثقافية لمدينة فلورنسا وهي
تتطلع نحو الانفتاح الخارجي, فقد أقامت ودشنت حقبة العلاقات الديبلوماسية مع الدول
والإمارات المختلفة مستفيدة من إيجابيات نظامها المالي وانشائها النظام المصرفي
آنذاك, فلم تترك ثغرًا من ثغور البحر المتوسط. فضلاً عن المدن الواقعة على الشاطئ
الأدرياتيكي حيث أرسلت لهم القناصل والبعثات بهدف تعزيز أواصر التعاون المشترك
والصداقة.
فشملت هذه الشبكة الديبلوماسية العديد من دول عالمنا المعاصر كمصر
والجزائر وقبرص والقسطنطينية وبلاد فارس والهند والصين. كما ضمت أيضاً بعض الدول
الأوربية كبريطانيا عندما أقامت علاقات مميزة مع الملك أدوارد الثالث حيث أقرضته
أنذاك 600 مليون ليرة (ما يعادل مليارات الدولارات) لمواجهة آثار الحرب, التي
فرضتها فرنسا عليه في تلك السنوات الغابرة.
ولم تقع فلورنسا في المحظور, الذي وقعت فيه كل الإمبراطوريات السابقة
واللاحقة على حد السواء, فهي كانت بعيدة عن الأحلام والأطماع التوسعية وحب السيطرة
على بقية الممالك والبلدان الضعيفة, بل انتهجت مبدأ التعامل المتسامح والسعي الدءوب
إلى التقارب والتعاون بدلاً من الصراع والاختصام.
ويشير المؤرخون الفلورنسيون في مخطوطاتهم إلى أن أول اتصال رفيع
المستوى بين فلورنسا والعالم العربي كان في عام 1478 حين أرسل السلطان المملوكي
قايتباي الخواجة محمد بن محفوظ المغربي ليقابل ملك فلورنسا لورنزو العظيم حاملاً
إليه الهدايا الثمينة من أجل فتح صفحة جديدة من العلاقات بعد انحسار تداعيات موجة
الحروب الصليبية.
هذه العلاقات الثنائية لم تتوقف, بل إن سلطنة المماليك قد أرسلت
العديد من البعثات والوفود إلى مدينة فلورنسا لتسوية جملة من القضايا المهمة في
طليعتها مسألة الإفراج عن أسرى المسلمين والصراع مع البرتغاليين وحل بعض القضايا
التجارية.
إن الشواهد التاريخية وتتبع مسيرة العلاقات الفلورنسية مع العالم
والعالم العربي بصورة خاصة تؤكد تميز هذه العلاقات الثنائية وتأهلها لتكون نموذجا
يحتذى به لأنه قام على أسس متينة هي التسامح والحوار والتعاون.
والمتتبع لدور مدينة فلورنسا التاريخي بعد انضمامها إلى الجمهورية
الإيطالية في عام 1859 لا يجد اختلافًا لهذا الدور قبل وبعد الانضمام بل تعمقًا
وتجذرًا بسبب النقلة النوعية, التي صاحبت التطور التكنولوجي ووسائل الاتصال وتبادل
المعلومات, فهي لم تفقد سلامها مع نفسها أو مع الآخرين على مدى سبعة قرون
زمنية.
وتطلق فلورنسا سلسلة من المبادرات الإنسانية من وقت إلى آخر, فهي
تتضامن مع الدول, التي تصيبها الكوارث الطبيعية كالزلازل المدمرة والفيضانات
الجامحة وغيرها مقدمة لها المساعدات الإنسانية اللازمة والطبية العاجلة لتصبح
مركزًا عالميا للتضامن مع الأخرين مهما كان شكل ولون وثقافة ودين هذا الآخر.
وسوف أعرض لفقرات من تجارب لثلاث شخصيات فلورنسية غنية تعمل في وقتنا
الحاضر على استمرار الدور الريادي لمدينة فلورنسا هم رئيس الجامعة الأوربية, الذي
يجسد مفهوم التسامح, وعمدة مدينة فلورنسا السابق للتعبير عن مفهوم الحوار, وأخيراً
النائبة في البرلمان الإيطالي, التي تشكل القوة الشابة الرامية إلى التعاون وفتح
آفاق أرحب مع العالم.
الجامعة الأوربية
وبين استذكار صور الماضي واستدعاء صور الحاضر وفي محاولة لفهم أعمق
اتجهت إلى قضاء (فيزولي) الضارب جذوره بالقدم باعتباره واحدا من أهم المناطق
الأثرية في إقليم التوسكانا حيث يضم المعبد الأتروسكي الشهير وأسواره بهدف لقاء
رئيس الجامعة الأوربية البرفيسور جانفرانكو فارفيزي Gianfranco varvesi بمكتبه
الواقع في قصر سان ماركو, الذي شيد في القرن الرابع عشر كمستشفى يحمل اسم سان ماتيو
ثم تحول فيما بعد الى دير للراهبات ليكون في نهاية المطاف مقراً للجامعة الأوربية
بعد تأسيسها في عام 1976.
ويرفض البرفيسور فارفيزي بصورة قاطعة فكرة مفهوم صراع الحضارات, الذي
يتم الترويج لها منذ نهاية القرن الماضي كمحور فلسفي لتفسير العلاقات الدولية في
عالمنا اليوم. ويصف هذا المفهوم بأنه (فكرة غبية بعيدة عن الواقع) ولا يمكن التعويل
عليها في الفترة الزمنية المقبلة.
وأضاف في حديثه لمجلة (العربي) إنه عندما توجد الحضارة يفترض أن ينتهي
الصراع وليس العكس, لذا علينا العمل بجد وإخلاص لدعم وخلق الأجواء الإيجابية
والمناسبة لتأسيس قنوات الحوار والتعاون بين الأمم المختلفة بعيداً عن استخدام
القوة العسكرية واتباع أسلوب التفاهم وتبادل الآراء).
فالعالم يتطلع أيضاً إلى خلق حالة من التوازن العالمي المنشود حيث
يجسد الإيجابية والتعاون وليس الصراع والتنافس على مناطق النفوذ والحدود المتاخمة,
فالعالم يرفض العودة من جديد إلى الوراء, حيث كان التوازن السلبي, الذي هو السائد
الحرب الباردة التسعينيات, وقد استمرت تداعياته حتى مطلع عقد من القرن الماضي.
فقيام هذا التوازن الدولي من شأنه ترسيخ مبادئ السلام والأمن ويعزز
العمل المشترك خصوصاً وأن القارة الأوربية الموحدة مؤهلة في المرحلة الراهنة للوصول
لهذا التوازن بشكل متساوٍ مع كل من الصين واليابان ودول أخرى.
إن فلورنسا لاتزال تلعب دورها الريادي في تدعيم سبل الحوار والتعاون
لتكون بمنزلة جسر يربط بين الغرب والشرق. مؤكداً أهمية استمرار الحوار الأوربي
العربي ليعود بالفائدة على الجميع, خاصة وأن أوربا الحديثة استفادت من الإرث العلمي
والثقافي العربي المورث من حضارة الأندلس.
وحول دور ورسالة الجامعة الأوربية يستطرد البرفيسور جانفرانكو فارفيزي
قائلاً: (إن الفكرة الأساسية من الجامعة هي تخريج نخبة أكاديمية أوربية من حملة
شهادة الدكتواره في مجالات العلوم الإنسانية تشمل أربعة مجالات رئيسية هي القانون
والتاريخ والعلوم السياسية فضلاً عن الاقتصاد).
فالدول الأوربية, التي وقعت ميثاق الاتحاد الأوربي في عام 1956 سعت
لانشاء هذه الجامعة, التي تمول من قبل المفوضية الأوربية ببروكسل من أجل تشكيل أطر
ورؤية أوربية شاملة عبر تخريج نخبة من طلابها, أنيط بهم نقل نتائج وأبعاد هذه
التجربة إلى بلدانهم مما يزيد من فرص التقارب والتعاون حتى في حالة زيادة دول
الاتحاد الى أكثر من 25 دولة.
وتشترط الجامعة على الطلاب الراغبين الدراسة فيها الحصول على درجة
الامتياز, فهي تختار 150 طالبًا سنويًا من إجمالي 1500 طالب يتقدمون للانضمام
إليها, حيث تدرس مقراراتها العلمية باللغة الإنجليزية باعتبارها اللغة العالمية
للاتصال وتبادل المعلومات في جميع أنحاء المعمورة.
وعلل هذا التشدد في قبول الطلبة إلى رغبة الهيئة المشرفة على أعمال
الجامعة إلى اختيار النخبة من الطلاب لكي يكونوا قادرين في مرحلة ما بعد تخرجهم على
دعم المشروع الأوربي المشترك وتذليل العقبات, التي تعترض مسيرة هذا التعاون كلاً
حسب موقعه.
وثمن رئيس الجامعة الأوربية البرفيسور فارفيزى, الذي عمل كديبلوماسي
في عدد من البلدان العربية قبل أربعة عقود زمنية مبادرة الحكومة الايطالية, التي
قررت منذ عشرة أعوام تخصيص 20 منحة دراسية لطلاب الدول العربية المطلة على حوض
البحر الأبيض المتوسط بهدف توثيق التعاون المشترك مع العالم العربي.
وقال إن مبادرة الحكومة الإيطالية تتضمن أيضاً إعطاء راتب شهري للطالب
العربي يقدر بـ1000 يورو شهرياً وأن تتحمل كل تكاليفه الدراسية حتى التخرج. منوهاً
بأن هناك عددًا من الطلاب في برنامج الدراسات العليا يمثلون كلاً من مصر والمغرب
والجزائر وتونس والأردن مع وجود فكرة لتوسعة هذا البرنامج مستقبلا ليشمل دول الخليج
العربي.
ودور الجامعة الأوربية لا يتوقف عند هذا الحد بل يتضمن إقامة وتنظيم
مؤتمر سنوي على مستوى عالٍ في المجالات السياسية والاقتصادية والتاريخية
والقانونية, حيث يتناقش المشاركون, الذين يصل عددهم 200 مشارك تتحمل الجامعة كل
مصاريفهم خلف أبواب مغلقة وعلى شكل مائدة مستديرة مناقشة أهم القضايا, التي تحظى
باهتمام عالمي وإصدار سلسلة من التوصيات لمعالجتها في المرحلة المقبلة ولتقريب
وجهات النظر في القضايا ذات الطابع الخلافي.
وفكرة الدستور الأوربي نفسه قد ولدت في المؤتمر السنوي, الذي نظمته
الجامعة في عام 1998 حيث ساهم المشاركون في أوراق أعمالهم المقدمة آنذاك بوضع 94
بنداً دستورياً كانت النواة الأولى لوضع هذا الدستور وتم بعد ذلك عرضها في أعمال
قمة نيس الفرنسية.
وجه البروفيسور جانفرانكو فارفيزي في ختام حديثه نداء إلى العالم
العربي بقوله (لنعمل معا من أجل التنمية والحرية والعمل الاجتماعي دائما ومعا حتى
النهاية) حتى نجسد هذه القيم السامية مستقبلاً.
التآخي مع الكويت
وتولي فلورنسا أهمية كبرى لعملية التآخي مع المدن الأخرى.
وفي مقدمة هذه التجارب إعلان ميثاق التآخي بين مدينة فلورنسا من جانب
واحد مع مدينة الكويت أثناء احتلالها من القوات العراقية في أغسطس عام 1990, وهي
قصة تستحق العرض بعيداً عن الدعاية السياسية.
ويشدد عمدة مدينة فلورنسا التاريخية السابق جورجو مورالس Giorgio
Marales صاحب مبادرة التآخي مع مدينة الكويت على أن (هذه التجربة فريدة من نوعها
ولم تتكرر منذ تأسيس مدينة فلورنسا قبل أكثر من 2000 عام). واصفا في الوقت نفسه هذا
الميثاق بأنه (علامة مضيئة في تاريخنا الفلورنسي ودلالة على التضامن مع الشعوب,
التي تتعرض للقهر بسبب استخدام القوة العسكرية لحل القضايا السياسية).
فقد قام بنفسه بإعلان هذا التآخي, بعد أيام قليلة من احتلال الكويت
وبإجماع أعضاء المجلس البلدي للمدينة بهدف توجيه رسالة واضحة للمجتمع الدولي تؤكد
على أن (الكويت ستعود حرة من جديد). والعالم أجمع يشعر حتى اليوم بالفخر والاعتزاز
لهذا التآخي بالرغم من أوجه التباين في تاريخ المدينتين الصديقتين.
وأضاف أن هذه البادرة الفلورنسية الإنسانية لم تكن تشكل هدفاً سياسياً
في يوم ما أو ما شابه ذلك خصوصاً وأن العالم لم يكن بعد قد تعرف على رد فعل المجتمع
الدولي الممثل بهيئة الأمم المتحدة إزاء ما جرى, وما الخطوات, التي سيتبعها لانهاء
هذا الاحتلال.
لقد كانت عملية التآخي مع مدينة الكويت (محاولة للتعبير) عن التضامن
الإنساني مع شعب أعزل تعرض لكل صنوف التنكيل والتعذيب وانتهكت أبسط حقوقه, التي نص
عليها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في مقدمتها العيش بسلام.
وأعرب أنه لا يزال يشعر بالفخر والاعتزاز لتبنيه هذه البادرة
الإنسانية بالرغم من مضي أعوام طويلة على تركه منصبه كعمدة لمدينة فلورنسا. معتبراً
ذلك (من أهم الأعمال, التي قام بإنجازها طيلة أكثر من عقدين من الزمن أمضاها في
خدمة المدينة).
واستطرد عمدة مدينة فلورنسا السابق جورجو مورالس, الذي يعمل حالياً
مستشاراً للدفاع عن الحقوق المدنية لعدة مؤسسات قائلاً: إنه (لاقى كل التقدير
والعرفان من الكويت شعباً وقيادة). وإنه استقبل بحفاوة بالغة من قبل أمير الكويت
الشيخ جابر الأحمد الصباح خلال زيارته للكويت في عام 1992. متمنياً أن يستمر هذا
التعاون عبر تفعيل بنود ميثاق التآخي بين المدينتين الصديقتين لخدمة الشعبين والعمل
على صيانة مبادئ السلام والأمن الدوليين.
ويذكر أن مدينة فلورنسا أبرمت 20 اتفاقاً للتآخي مع مدن العالم بالرغم
من تاريخها الممتد منذ أكثر من 2000 عام. مشيراً إلى أن مدينة فاس المغربية كانت
أول مدينة عربية تتآخى معها في بداية عقد الستينيات وذلك لأهمية دورها البارز في
المجالين الثقافي والتاريخي.
وهناك عدد من المدن الأخرى التي تآخت مع فلورنسا مثل فيلاديلفيا
بالولايات المتحدة الأمريكية ومدينة راسل الفرنسية وكاسل الالمانية وتروكو
الفنلندية ونبيكو في الصين. فضلاً عن مدينة كيوتو اليابانية وسيدني الاسترالية
وسلفادور بائيا البرازيلية, التي جاءت بمبادرة تهدف إلى وقف الانتهاكات, التي ترتكب
بحق الطفولة ولدعم حملة اليونيسف العالمية بهذا المجال.
وأضاف أن مدينة فلورنسا لاتزال تلعب دوراً حيوياً على المستوى الدولي
لتعزيز أواصر الحوار السلمي وتقريب وجهات النظر المتباعدة.
وهو ينظر للقضايا الدولية المثيرة للجدل, والتي تحظى بالاهتمام
المشترك للجميع (بنظرة شمولية ذات بعد إنساني بعيداً عن دهاليز السياسة ومناوراتها
وتحالفاتها لأن لديه الإرث الفلورنسي راسخ الجذور) معربا عن أمله أن يسود السلام
والاستقرار أرجاء العالم ومن ضمنها منطقة الشرق الأوسط.
وأكد السيد مورالس بعد ان خاض غمار هذه التجربة الطويلة كعمدة لمدينة
فلورنسا في ختام حديثه على أنه بات يؤمن بشكل مطلق وأكثر من أي وقت مضى بالمقولة,
التي تقول (إن الرجال يمضون وتبقى فلورنسا هي فلورنسا شاهدة على التاريخ) بتجاربها
الثرية.
أهمية الحوار
وأنتقل إلى الحديث مع النائب في البرلمان الايطالي مونيكا Monica
Baldi ابنة هذه المدينة التاريخية لتقول انه (مهما تعددت الآراء والتحليلات حيال ما
يجري من أحداث مصيرية الا انه لا يلغي حقيقة عيشنا في عالم أشبه ما يكون بقرية
صغيرة تتأثر وتؤثر فيما يجري من حولها من أحداث).
وأضافت النائبة الإيطالية, التي ترأس اللجنة البرلمانية للصداقة
الايطالية التركية بالإضافة إلى شغلها أيضا عضوية لجنة الشئون الخارجية أن الحوار
والتعاون المشترك مهم مهما كان نوعه وتوجهه, وأن يقوم بتقوية جوانب الاتفاق وتقريب
وجهات النظر مع العمل على فهم خلفيات جوانب الاختلاف بصورة علمية وموضوعية.
وأكدت أنه من دون هذه الأسس المشار إليها لا يمكن اعتبار الحوار
والتعاون فاعلين, لذا فإن علينا مسئولية جسيمة ملقاة على عاتقنا جميعاً في حالة
فشلنا في تحقيق هذه الأهداف المنشودة.
ودعت إلى ضرورة التركيز على الجانب الثقافي كمدخل في بداية هذا الحوار
ثم الانتقال إلى الجوانب الأخرى مع احترام خصوصية السياسات الداخلية للجانبين
والعمل بروحية تستند إلى احترام حقوق الإنسان وتحسين الوضع المعيشي والثقافي
والتعليمي للفرد في القرن الواحد والعشرين ليواجه تحدياته (بصورة فعل وليس رد
فعل).
وذكرت أن إيطاليا وفلورنسا لهما علاقات وثيقة مع الدول العربية في
مقدمتها الدول المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط, كما أن (لديها دوراً فعالاً
حيث كانت تعتبر بوابة الشرق نحو أوربا, والتي تجسدت فيما بعد في مقررات أصدرتها قمة
برشلونة قبل عشرة أعوام), كما انها لم تغفل أهمية دور تركيا الاستراتيجي وموقعها
التاريخي المميز في الحضارة الإنسانية.
ونوهت بأن جل (هذه الاستراتيجية يكمن بجعل البحر الأبيض المتوسط بحراً
للتواصل والتعاون, وليس بحراً للانقطاع والاختلاف) ليعود على شعوبه بالتقدم
والازدهار. وقدرت في الوقت ذاته المكانة, التي حظيت بها الكويت وما وصلت إليه في
بناء مؤسسات الدولة الحديثة وقيام المجتمع المدني لتعتبر نموذجا يحتذى به للدول
الصغرى.
وجهت النائبة بالدي, التي تترأس أيضا اللجنة البرلمانية الايطالية
لمساعدة المرأة في أفغانستان الدعوة إلى الجميع لنبذ التطرف بكل أشكاله وأنواعه
والابتعاد عن المصالح الداخلية الضيقة للمضي قدماً نحو آفاق أرحب وأشمل لخدمة
الإنسانية جمعاء.
فلورنسا والنهضة
توصف مدينة فلورنسا, دائما بالمتحف المفتوح دلالة على غنى تاريخها,
لعبت هذا الدور الريادي ذا الطابع التنويري النهضوي بصورة استثنائية, والخروج من
حقبة العصور الوسطى المظلمة إلى فضاء النور الواسع.
فالظلام, الذي ساد هذه الحقبة الزمنية حيث حكم الجهل وتفشت الأمراض
وتعددت الحروب الطاحنة مخلفة وراءها الآلاف من الضحايا الأبرياء في ظل خضوعها لسلطة
رجال الدين الطامحين والمتخاصمين في الوقت ذاته على المصالح والتوجهات, دفع فلورنسا
للقيام بالخطوة الأولى على مسيرة التغيير.
من هنا أهمية الدور القيادي لمدينة فلورنسا, التي أسسها قيصر روما قبل
أكثر من 2000عام في إطار التطور الطبيعي لعدة أسباب مهمة في طليعتها ازدهار تجارتها
وتنوعها مما ساهم بتراكم المال فخلق طبقة من التجار المتنورين, الذين كان لهم مصلحة
في التغيير عبر الانفتاح على العالم الخارجي والاطلاع على الثقافات الأخرى.
إن سعي طبقة التجار المتنورين, التي حملت فيما بعد اسم (الطبقة
الفلورنسية) في القرن الثالث عشر للحفاظ على ازدهار تجارتها والنهوض بها مهد وخلق
الأجواء المناسبة والإيجابية لأسرة ميدتشي لتسلم مقاليد الحكم في إمارة فلورنسا
آنذاك متيحا لها الاستفادة من التراكم المعرفي والثقافي, الذي خلفه العرب في
الأندلس عبر تشجيعها حركة الترجمة.
ووضعت أسرة ميدتشي أيضا الإطار الشامل لأول اندماج ومزاوجة يشهدها
التاريخ الإنساني يجمع بين النخبة السياسية الحاكمة أسرة (ميدتشي) من جهة ونخبة
المفكرين والمثقفين والفنانين من جهة أخرى فكانت الانطلاقة الحقيقية لعصر النهضة,
الذي يعيش العالم تداعياته ونتائجه حتى هذه الساعة.
إن عقد هذا الحلف الوثيق بين السياسة كأداة للحكم والثقافة كوسيلة
رئيسية تنفيذية لهذه السياسة أثرى الحياة الفلورنسية بصورة ميزها عن المدن الأخرى
لتكون بؤرة النور, الذي بدد الظلمات السائدة في أوربا, كدائرة أولى ومنها إلى
الدوائر الأرحب.
وفي هذه الفترة قام ميكافللي بإصدار كتابه الشهير (الأمير) والمثير
للجدل ليضع الأطر والخطوط الرئيسية لأسس الحكم في النظم السياسية بالرغم من تباينها
الظاهري واتفاقها في المضمون والمتمثل في (الغاية تبرر الوسيلة).
ويمكننا القول ونحن في بداية الألفية الثالثة أن هذه المقولة, التي
لاتزال ماثلة في العلاقات الدولية بالرغم مما شهده هذا العالم من قفزات هائلة على
مراحل التاريخ المختلفة . بل ساهمت بخلق قواعد جديدة بالنظام الدولي المعاصر تتمثل
في أنه (لا توجد صداقات دائمة ولا عدوات دائمة . وانما مصالح مشتركة).
واستكملت أسرة ميدتشي, التي ارتبطت بعلاقات وثيقة مع الأسرة الحاكمة
في فرنسا أطر الحكم حيث شيدت قصر (بلاسوفيكيو) كأول قصر للحكم ثم وضعت أول دستور
مكتوب في التاريخ ينظم الواجبات والمسئوليات, التي تقع على كاهل الحاكم والمواطن
على حد سواء ليتطور بعد ذلك ليأخذ أشكالاً متنوعة.
ولقد توالت الأحداث تتابعاً واتسعت دائرة النور ليتحول إلى (شعاع)
يبدد الظلام الحالك يقوده نخبة من المثقفين العمالقة من أمثال دانتي الشاعر العظيم,
الذي وضع قواعد اللغة الايطالية واستنبط مفرداتها من اللغة اللاتينية القديمة
لتواكب مرحلة التغيير ولتعبر عنه بصورة حقيقية.
كما ظهر أيضا ليوناردو دافينشي متعدد المواهب والمحيط بمناهج العلم
المختلفة, ومايكل أنجلو الذي وضع أطر الفن الحديث وفن العمارة في عصر النهضة ومراحل
متعاقبة لاحقة وليفتح الباب على مصراعيه أمام أجيال من الفنانين ليكون مثلهم الأول,
وليزاوج بين الفن والسياسة وليفتح آفاقًا رحبة للفكر ذي الطابع الكوني مستنداً إلى
أهمية حرية التعبير واحترام ذات الإنسان وصيانة مبادئ العدالة والمساواة.
لقد وصف مؤرخو القرن العشرين الدور الذي لعبه مايكل انجلو في عصر
النهضة وبعد عدة قرون من وفاته بأنه يشبه (رجل استيقظ ذات ليلة مبكراً جداً حين كان
الجميع يغطون في نوم عميق).
إن هذا الاستيقاظ المبكر ترك أثراً كبيراً وغنياً في مجالات حيوية
كعلم الفلسفة, والرسم, والنحت, والموسيقى . كما برع في علوم الرياضيات, والهندسة
البصرية, والفلك, وعلم الحيوان والتشريح.
إن رعاية آل ميدتشي للفن والثقافة والسياسة معاً دفعتا عجلة التغيير
خطوات ثابتة وواثقة إلى الامام وليتوج ذلك بانتخاب أحد أعضائها (بولس الثاني) بابا
وزعيما دينيا للفاتيكان وراعيا روحيا للكنيسة الكاثوليكية في العالم والعمل على
تحقيق حلمه, الذي يراود حياته والمتمثل في استعادة روما مكانتها كمركز للاشعاع
الديني في العالم, وهو الذي كلف مايكل أنجلو بالقيام برسم وتزيين سقف معبد (سيستين)
بالرغم من عدم رغبته بذلك, بل إن إصرار البابا الشديد وحزمه, الذي لا حدود له دفعا
انجلو إلى أن يستلقي على ظهره على السقالة المنصوبة لانجاز هذه المهمة ومن مسافة
قريبة من السقف لا تتيح له فرصة النظر للعمل وقد وصفته موسوعة جينيس الشهيرة بأنه
(الإنسان الأكثر استلقاء على ظهره في تاريخ البشرية وعمله لساعات طويلة في اليوم
ولأعوام متتالية دون توقف أو كلل لإنجاز هذه التحفة الفنية).
وقد اختيرت مدينة فلورنسا, في نهاية القرن الماضي كعاصمة تاريخية
للقارة الأوربية وبسبب استمرار دورها الذي يكمن في الجمع بين السير والتوغل في
أعماق حقول العلم والمعرفة من جهة والتواضع الشديد أمام ما تم التوصل اليه من جهة
أخرى.
وقد جسد مايكل أنجلو, الذي توفي في عام 1564 هذا المفهوم وهو يحتضر
بقوله (أشعر بالأسى لأنني أموت قبل أن أقدم كل ما بنفسي مما يحقق سلامها الدائم.
إنني أشعر أيضا بالأسى لموتي عندما تعلمت فقط تهجئة حروف الفن) . الأمر, الذي
يجعلنا نتوقف بإجلال أمام هذا النموذج من التواضع الجم, الذي لا يتكرر دائما.
إن الحديث عن عصر النهضة بكامله لا يمكن توفيته حقه بأي حال من
الأحوال بهذه العجالة فهو حديث يأخذ عدة أشكال غنية منها مع الذات والواقع
والمستقبل فضلا عن العلم والخيال . إلا أنني سوف أركز فيما يلي على مدرستين راسختين
جسدا هذا العصر هما مايكل أنجلو وليوناردو دافينشي الذي سبب انقسام المدينة آنذاك
تحت حكم آل ميدتشي إلى معسكرين متحمسين لأكبر عبقريتين في عصر النهضة.
لقد خرجت رسوم أنجلو مفعمة بعمق التعبير, الذي كان شغله الشاغل,
وبتجريد معنى الأحداث والمعارك بناء عصر النهضة وتحويلها إلى رموز خالدة مستنداً في
ذلك إلى تعاليم معلمه الأول دومينكو جيرلاندايو أكبر أساتذة الرسم في فلورنسا ثم
التحاقه بمدرسة (لورنزو دي ميدتشي), التي تتخذ من حدائق سان ماركو مقراً لها فتبناه
المعلم (يرتولدو) أحد مريدي أستاذه دوناتللو في فن النحت فارتبط بالأسلوب القديم
وجعله يواكب متغيرات العصر.
أما أسلوب ليوناردو دافينشي فكان يستند بالدرجة الأولى إلى القدرة
التحليلية مسجلا دقائق الأحداث التي استوحى منها فيما بعد أبناء عصر النهضة أعمالهم
الفنية وفي طليعتهم رافائيل وبارتولوميو وأندريا لسارتو فأكمل كل منهم عمل الآخر
باتصال وانسجام, وأثمرت هذه المدرسة الفنية لوحة (الموناليزا), التي أهداها إلى ملك
فرنسا فرنسواز الأول وبهرت العالم فيما بعد, وأثارت حيرته فأصبحت المرأة, التي
يصورها العمل الفني مثار جدل وإعجاب. كما أثارت ابتسامتها سراً غامضا يسعى العلماء
إلى تفسيره لتكون رمزاً للمرأة في كل العصور والأزمنة.
وفي هذا الإطار التحليلي يؤكد رئيس جامعة الدولة بمدينة فلورنسا
التاريخية البروفيسور أوجستو مارينللي Augusto MaRinelli أن (فلورنسا كمدينة لاتزال
متواصلة دائما وأبداً بالموروث الثقافي لعصر النهضة) فهي تجسد دون كلل أو ملل القيم
السامية لهذا العصر, حيث تعمل على ترسيخ مبادئ السلام والعدالة والحرية في عالمنا
المعاصر.
وقال الدكتور الفلورنسي في حديث خاص أدلى به لمجلة (العربي) أن هذه
المبادئ بالرغم من مضي عدة قرون زمنية على إعلانها, لاتزال بمنزلة البصمة الوراثية
لمدينة فلورنسا (D.N.A) فهي لم تكن معزولة عن العالم بالرغم من جسامة هذه التطورات
والاحداث.
وبين أن العالم تغير بشكل جذري بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001 بالرغم
من الأبعاد السلبية, التي أفرزتها تلك الأحداث, الا أن هناك أبعادًا إيجابية لا
يمكن تجاهلها تتمثل بوجود رغبة دولية جادة تسعى لإيجاد حلول جذرية لجملة من القضايا
المعاصرة المعلقة منذ عقود زمنية طويلة.
وأشار إلى أن هذه الأحداث أتاحت للقارة الأوربية أن تتحمل وتقوم
بالمهام الملقاة على عاتقها في التوسط وتكون جسراً رئيسيا للحوار بين هذه الحركات
المتطرفة, التي خرجت بسبب هذه الأحداث المؤسفة, منوها بأنه من الطبيعي أن تكون
فلورنسا أحد أهم هذه المراكز المهمة لهذا الحوار.
وأعاد الدكتور مارينللي إلى الأذهان ما قامت به المدينة في أواخر عقد
الستينيات من القرن الماضي عندما استضافت الزعيم الفيتنامي الراحل هوشي منه آنذاك
بالرغم من العزلة الدولية المفروضة عليه, الأمر الذي مهد إلى مسيرة المفاوضات
السلمية, التي أسفرت عن إبرام اتفاقية عام 1975.
وقال إن جامعة فلورنسا, التي يبلغ عدد طلابها 60 ألف طالب أطلقت
مبادرة سلام في شهر نوفمبر عام 2001, تتمثل بانشاء معبد لإقامة الصلاة والعبادة
للأديان السماوية الثلاثة عبر تخصيص مساحة أرض تقع ضمن حدود الحرم الجامعي ويحمل
المعبد شعار (حب نفسك أولاً ثم حب الآخرين).
وقام طلاب بقسم العمارة بتصميم وإنشاء ساحة يجتمع فيها الجميع للقاء
والحوار, ثم يتوجهون بعد ذلك لأداء شعائرهم الدينية في قاعات صممت بالطابق السفلي
للساحة, منوها بأن هذا المشروع سيرى النور قريبا بعد إنجاز كل التصاميم الهندسية
وأنه بحاجة فقط إلى توفير ورصد الميزانية المالية اللازمة لتحقيقه على أرض
الواقع.
كما أن جامعة الدولة فلورنسا أبرمت أكثر من 300 اتفاقية للتعاون
الأكاديمي والعلمي مع جامعات العالم في إطار سعيها الحثيث إلى تحقيق هذه المثل
السامية . فضلا عن أنها بصدد إبرام اتفاقيتين مع جامعة الأزهر الشريف - بالقاهرة -
وجامعة محمد الخامس - بالرباط - لتوثيق التعاون مع العالم العربي.
وأوضح أن الاتفاقيتين المشار إليهما ستنظم سبل تقديم المنح الدراسية
للطلاب العرب والايطاليين ليكون هناك اتصال مباشر مستقبلا.
كما أنه سوف ينشئ قسما للدراسات الإسلامية بعد إتمام الترتيبات
الأكاديمية اللازمة لذلك بالجامعة الفلورنسية حيث إنها ستمنح طلاب هذا القسم شهادة
ماجستير في الدراسات الإسلامية بعد أربعة أعوام من انضمامهم إلى الدراسة.
وجدد رئيس جامعة فلورنسا التأكيد أن المستقبل سيكون للسلام والوسطية
وأن المدينة الخالدة لم تعمل على تصدير ثقافتها إلى الخارج, كما فعلت وتفعل
الامبراطوريات السابقة والمعاصرة لانها لم تكن تحمل نوايا توسيعة واستعمار المدن
والدول الأخرى, بل انتهجت منذ عصر النهضة وحتى اليوم أسلوب الاقناع والحوار
والتعاون من أجل تفاعل الآخرين بموروثها الثقافي والحضاري معا.
وعلل سبب بروز حركات متطرفة في انحاء متفرقة من عالمنا اليوم إلى وجود
تباين صارخ بين الدول الغنية والفقيرة, واصفا إياها بأنها (حالات طارئة) لن تدوم
طويلا وان الحوار والتعاون هما الوسيلتان المهمتان في معالجة هذه الظاهرة بدليل
التعاطف الكبير والتضامن, الذي أبداه العالم الإسلامي بعد وفاة البابا يوحنا بولس
الثاني في وقت سابق من العام الجاري.
ووعد الدكتور أوجستو في ختام حديثه أن مدينة فلورنسا ستبقى وفية لعهد
النهضة التنويرية وأنها ستلعب دورها المميز في المرحلة الزمنية المقبلة, كما لعبته
سابقا وأن كل حي من أحياء المدينة لديه اتصال مع العالم الخارجي كل حسب الامكانات
المتاحة له للتعاون والتضامن لتحقيق مبادئ السلام والحوار والتعاون واحترام حقوق
الإنسان.
إن المعطيات وتلاحق الأحداث التاريخية وتسلسلها في السرد السابق, الذي
صاحب بروز مدينة فلورنسا في العالمين القديم والحديث معاً واحتضانها عصر النهضة
التنويرية له مدلولات عميقة.
وتحتاج إلى عقود زمنية مقبلة لدراستها بعمق واستخلاص العبر والدروس
المستفادة منها باعتبار أنها غيرت وجهة وتوجهات الحياة الإنسانية في دأبها نحو
إقامة المجتمع المدني وريادة مؤسساته على النحو الماثل اليوم.
أما الحقيقة الثانية والمستوحاة من هذه التجربة الغنية, والتي لا يمكن
تجاهلها فهي أن مدينة فلورنسا الخالدة وضعت أسس اندماج الثقافة والسياسة وتوحدهما
معا كمفاهيم جديدة لم يكن معمولاً بها من قبل, مفاهيم تقوم على الحوار واحترام
تباين الآراء والتوجهات وعدم إلغاء الآخرين المتنافسين والساعين إلى تحقيق هذه
الأهداف المنشودة نفسها, التي في مقدمتها رفاهية وتقدم الإنسان العنصر الأول لأي
عصر نهضة مقبل مهما طال الزمن أو قرب.
شخصية ثقافية
خلق حكام فلورنسا أجواء ثقافية نادرة الوجود تدفع الجميع للانغماس في
أنشطتها الفنية كلا حسب إمكاناته ومستواه الإدراكي, لتكون فيما بعد المعيار الأول
لنظام الحراك الاجتماعي, والرقي على سلم العمل السياسي. فضلا عن أنها فتحت الباب
على مصراعيه للساعين إلى التجديد وتحريك المياه بالبرك الآسنة بصورة غير
مسبوقة.
فتفاعلت مع كل ما هو جديد ويعبر عن مضمون الإبداع الفكري والثقافي
الحقيقي فرفعت شعارات التجديد والإصلاح الأمر الذي شكل في نهاية المطاف فهمها
الثقافي وشخصيتها المستقلة الوسطية, والتي تفرضها بقوة الإقناع والحجة والبرهان على
الجميع.
ولذلك قامت بتحديث مفردات اللغة اللاتينية القديمة إيمانا منها بأهمية
موقع اللغة وتوسطها بين البناء القومي لأي مجتمع والبناء التحتي عبر تشجيعها لأعمال
الشاعر (دانتي الليجيري) مؤلف الكوميديا الإلهية وتشجيعه على التجديد ليضع قواعد
وأصول اللغة الإيطالية المعاصرة لتكون لغة العلم والمعرفة والحوار فيما بعد بدلا من
اللاتينية القديمة.
ويدين العالم اللاتيني لمدينة فلورنسا, ولنخبتها الثقافية والسياسية
حتى هذه اللحظة, بأهمية دورها في تشجيعها لهذا الشاعر العظيم دانتي, وتشجيعه لوضع
قواعد هذه اللغة كما تبنت هذه النخبة أيضا كوكبة من العمالقة والمفكرين والمثقفين
والفنانين والعلماء, الذين أثروا الحياة الإنسانية بعد أن وضعوا الأسس الأولى منها,
على سبيل المثال العالم الفلكي جاليليو, الذي أثبت كروية الأرض وعدم انبساطها,
لتكون نبراساً مضيئا لرحلات الاكتشاف نحو أنحاء جديدة من العالم.
ولولا هذا الاكتشاف العلمي, الذي آثار جدلاً وصراعاً حاداً لما جاء
الإلهام للقبطان الجنوي كرستوفر كولومبوس حتى يعد لحملته لاكتشاف العالم الجديد
(القارة الأمريكية). كما أبدع كل من مايكل انجلو ولوناردو دافينشي في مجال الفن
والموسيقى وعلم البصريات والتشريح وغيرها من العلوم الأخرى, لا تزال تدرس وتبحث في
أكبر الجامعات العالمية ذات السمعة الرفيعة.
إن الحديث عما تم إنجازه في تلك الفترة التاريخية من طفرة ثقافية
وعلمية وفكرية يصعب حصرها وتحديدها بهذا الجانب أو ذاك . إلا أنه يمكننا التأكيد
وفقا للشواهد والدلائل على أن فلورنسا والثقافة أصبحا اسمين لا يمكن فصل أحدهما عن
الآخر, حتى بعد بروز عواصم ومدن عالمية معاصرة تتبنى وتدعم الأوجه الثقافية
وانشطتها بكل اتجاهاتها, بل باتت فلورنسا والثقافة هما وجهان لعملة واحدة.
ولاستيعاب أثر ونتائج هذه الظاهرة الفريدة سوف أركز على ثلاثة جوانب
رئيسية هي: تاريخ الثقافة, والمتمثل في أكبر متحف فني بالعالم (الأوفيزي), ثم
الانتقال إلى متحف الأعمال الرخامية والترميم وأهميته في الحفاظ على هذه الكنوز
الأثرية, التي لا تقدر بثمن, وأخيرا الحديث عن مستقبل مدينة فلورنسا الثقافي
وموقعها المرتقب على الخريطة الثقافية العالمية في عصر الإنترنت والعولمة.
متحف الأوفيزي
وفي إطار هذا التسلسل يؤكد رئيس متحف (الأوفيزي) البرفيسور انطونيو
بالوتشي, في حديث خاص أدلى به لمجلة (العربي) (أن فلورنسا والثقافة مرتبطان ويكمل
كل منهما الآخر). وأن القائمين على قطاع الثقافة في إيطاليا يبذلون جهودا جبارة
لتحويل أقليم التوسكانا الشمالي إلى متحف مفتوح في ظل القدرة الاستيعابية المحدودة
لمدينة فلورنسا, وازدياد تدفق موجات السائحين والزائرين, التي تصل إلى الملايين
سنويا.
وأضاف السيد بالوتشي, الذي شغل حقيبة وزارة الثقافة الإيطالية في
منتصف التسعينيات من القرن الماضي أن القدرة الاستيعابية للمتاحف والأماكن الأثرية
الواقعة بمدينة فلورنسا باتت لا تلبي طلبات الزائرين, الذين يضطرون أن يصطفوا
لساعات طويلة حتى يتمكنوا من زيارتها في نهاية المطاف.
وذكر أن هذا المشروع الثقافي سيرى النور قريبا, حتى يقلل من الضغوط,
التي تواجهه مدينة فلورنسا عاصمة إقليم التوسكانا, والتي تعاني أيضاً من عدم قدرتها
على توفير الخدمات السياحية المتكاملة كالفنادق ووسائل المواصلات والنقل, أمام
العدد الهائل من السائحين.
حيث لم يمنح المجلس البلدي إعطاء تراخيص بناء جديدة منذ سنوات طويلة,
من اجل الحفاظ على تراث مركزها التجاري القديم وعلى خصائصه وشخصيته التاريخية
القائمة منذ تشدين عصر النهضة الشاملة.
وأشار بهذا الصدد إلى أن وزارة الثقافة الإيطالية وإدارة المتاحف
الرئيسية في مدينة فلورنسا يعملون جاهدين لإجراء توسعات جديدة لصالات عرضها ليتسنى
عرض كل المقتنيات الأثرية, التي لديها والمكدسة في صناديقها منذ مئات السنين لعدم
توفر المساحة اللازمة.
وأوضح أن متحف (الأوفيزي), الذي يستقبل أكثر من مليون ونصف مليون زائر
سنويا بصدد إجراء توسعة جديدة له تشمل الطابق الثاني في وقت لاحق من هذا العام
الجاري . معربا في الوقت ذاته عن أسفه العميق لعدم قدرة الجميع زيارة المتحف, الذي
يضم نخبة من الأعمال الخالدة لعصر النهضة.
وحول تقييمه للحركة الثقافية الفلورنسية, التي سادت في عصر النهضة
والعصور اللاحقة, ودور فلورنسا الثقافي الحالي قال الدكتور باولوتشي إن مدينة
فلورنسا لا تزال تلعب دوراً مهماً في الحياة الثقافية العالمية, حيث تنظم سنويا
إقامة معارض دولية بعدد من العواصم الكبرى - منها موسكو وبكين وغيرهما - تعرض فيها
المقتنيات الفلورنسية, منوها أن هناك نية لإقامة معارض مشتركة مع العالم العربي
لعرض الفنون العربية والتحف الإسلامية سواء في مدينة فلورنسا أو مدن إيطالية
أخرى.
وأضاف أن الدولة الإيطالية عبر وزارة الثقافة خصصت متحفا خاصا يتناول
حياة, والأعمال الخالدة, للفنان مايكل أنجلو, في مقدمتها أعماله الفنية الأولى في
مرحلة شبابه وهي تعرض لأول مرة منذ القرن الخامس عشر, فضلا عن تمثال ديفيد, الذي
احتفل في شهر سبتمبر عام 2004 بعيد ميلاده الخمسمائة وباعتباره أكثر الأعمال الفنية
تصويراً في العالم.
وبعد الحديث مع رئيس متحف (الأوفيزي), الذي يحتل ركنًا مميزاً في
مدينة فلورنسا التاريخية, حيث يطل على أهم ساحاتها وتسمى (بياتسا سنيوريا) أما جهته
المقابلة الأخرى فهي تطل على نهر أرنو الشهير انتقلت عبر أزقتها المليئة بالسواح
والمكتظة بالباعة المتجولين إلى متحف الأعمال الرخامية وأعمال الترميم الواقع في
شارع فارا باولو ساربي, لاستكمال بقية الحديث عن فلورنسا والثقافة.
وقالت مديرة متحف الأعمال الرخامية وأعمال الترميم كريستينا لوكينات
إن الهدف الرئيس من إنشاء هذا المتحف في عام 1966 هو الحفاظ على الكنوز والمعالم
الأثرية الفلورنسية بعد كارثة فيضان نهر أرنو الكبير في العام ذاته, الذي تعرضت له
المدينة, حيث بلغ ارتفاع منسوب المياه إلى ستة أمتار.
وأضافت أن المتحف, الذي يضم معهداً متخصصاً يدرس فيه الطلاب بتخصصات
أعمال الترميم قام منذ ذلك التاريخ وعلى مدى أربعة عقود زمنية بحملة ترميم شاملة
لكل المعالم الأثرية لمدينة فلورنسا وأنه سيحتفل في بداية العام القادم 2006
بانتهاء هذه الحملة حيث سيعرض في معرض فني دولي يقام بهذه المناسبة أهم القطع
الأثرية والرخامية الفلورنسية, التي تم ترميمها, حيث ستعرض لأول مرة أمام
الجمهور.
وذكرت أن المعهد العالي للترميم أنجز هذه المهمة الموكلة إليه في 11
قطاعًا فنيًا تتوزع على المجالات الرخام والقماش والورق, وأن ترميم هذه الأعمال يتم
باستخدام التكنولوجيا الحديثة, بما فيها التعامل الفيزيائي والكيميائي واستخدام
أشعة الليزر.
وأشارت إلى أن تكنولوجيا الليزر بدأت ودخلت عالم الترميم والاعتماد
عليها منذ فترة زمنية قصيرة لدقتها وارتفاع مستوى جودتها, وأن وزارة الثقافة
الإيطالية هي, التي تمول هذه المشاريع من خلال ميزانيات ضخمة ترصد سنويا لهذا
الغرض.
وحول العلاقات الثقافية, التي تربط كلاً من ايطاليا والعالم العربي
دعت مديرة متحف الأعمال الرخامية والترميم (لوكينات) إلى توثيق هذا التعاون الثقافي
الثنائي (باعتباره لغة عالمية لا تعرف الحدود والحواجز), وباعتباره ضرورة ملحة
لمواكبة المتغيرات, التي شهدها عالمنا في السنوات الأخيرة.
وقالت إن هناك عدة مشاريع للتعاون المشترك مع العالم العربي في
طليعتها مصر وسوريا والأردن وتونس والعراق ودول أخرى عربية في مجال ترميم الأعمال
الرخامية والأثرية وسوف ترى النور قريبا, خصوصا أن هذا المتحف الإيطالي لديه
الإمكانات العالية اللازمة لتلبية المتطلبات واحتياجات العالم العربي بمختلف
المجالات الفنية.
وأضافت أن متحف الأعمال الرخامية قام بمبادرة ذاتية لترميم أحد الكنوز
الأثرية, التي كانت معروضة في متحف بغداد بعد تعرضه لأضرار, أثناء, وبعد الحرب
الأخيرة وهو عبارة عن مزهرية (وارك).. إلا أن الأوضاع الأمنية الراهنة حالت دون
إنجاز هذه المهمة حتى الآن.
وذكرت أن الحروب على مدى التاريخ الإنساني والعصور تأتي بالدمار دائما
وتعرض الكنوز الفنية - التي لا تقدر بثمن - إلى الخراب والسرقة والضياع. إلا أنه
لدينا أمل كبير دوما أن تعود هذه الكنوز إلى مكانها الطبيعي في نهاية المطاف, (كما
أملت أن يساهم المتحف الإيطالي أيضا في إعادة ترميم متحف الكويت الوطني من آثار
دمار الاحتلال العراقي في عام 1990).
وخلصت مديرة متحف الأعمال الرخامية والترميم كريستيانا في ختام حديثها
إلى القول إن المعهد العالي للترميم يتطلع إلى تقديم منح دراسية للطلاب القادمين من
العالم العربي للاستفادة من الخبرات الاإطالية في هذا المجال لتوثيق التعاون
الثقافي المشترك.
وبعد الاستماع إلى أهمية دور الثقافة في الحياة المعاصرة, وتأثير ذلك
على الأنشطة الثقافية الفلورنسية واتصالها بالعالم المتقدم, ومواكبة التغيرات
والتحولات المهمة, التي شهدها عالمنا اليوم يقول رئيس مجلس الثقافة والفنون بعمادة
مدينة فلورنسا جونيو جاني إن مدينة فلورنسا لا تريد في الوقت الحاضر العيش على مجد
تراثها التنويري في عصر النهضة, واجترار الماضي بل تريد أن تكون على مستوى التحدي,
التي شهدتها الساحتان الثقافية والسياسية اليوم.
وأعلن أن مدينة فلورنسا ستقوم بتنفيذ برنامج ثقافي وفني طموح خلال
العامين المقبلين يضعها على رأس قائمة المدن الثقافية في العالم حتى (لا تكون أسيرة
محيطها التنويري على الرغم من أهميته التاريخية).
وأضاف أن هذا البرنامج يهدف بالدرجة الأولى إلى بناء جسر بين فلورنسا
في عصر النهضة وفلورنسا اليوم والمستقبل, وأن هذا البرنامج سيمول من قبل القطاع
الخاص, الممثل بالشركات الإيطالية الكبرى, والقطاع العام الممثل بوزارة الثقافة
ومؤسساتها المتعددة والمتخصصة.
حيث يتم إخلاء عدد من القصور التاريخية والمباني المستغلة من أجهزة
الدولة مثل مبنى المحكمة العليا وقيادة قوات الدرك للأمن الداخلي لاعادة استغلالها
من جديد, وبعد إنشاء مقار جديدة لها خارج أسوار المدينة التاريخية.
وذكر أنه سيتم استغلال هذه المباني والقصور التاريخية بصورة مثلى
لتصبح متاحف جديدة ومقرات لمؤسسات ثقافية تعنى بالمتغيرات الراهنة في مقدمتها الفن
الحديث, وذلك بحلول عام 2007. فضلاً عن عرض الكنوز الفلورنسية الأثرية, التي لم
تعرض حتى الآن أمام الجمهور.
وقال إن ما تم عرضه من هذه الكنوز لا يشكل أكثر من 30 في المائة من
الإجمالي العام وبالتالي يتم معالجة ضيق المساحة بصورة جذرية بعد سنوات طويلة منوها
أن هذا البرنامج الجديد سيجعل المدينة التاريخية مدينة, دون مركبات, لتكون مبانيها
بعيدة عن آثار التلوث والعادم وستكون مدينة السير على الأقدام فقط, مما يضاعف من
مستوى التحدي المرتقب.
وأضاف أن هذا البرنامج سيتم تنفيذه على مراحل زمنية, وسيتضمن أيضاً
إنشاء مجمع حديث, لعقد المؤتمرات الدولية الكبرى, تتوافر فيه كل وسائل التكنولوجيا
الحديثة, وسيقع خارج حدود المدينة التاريخية, وعند أحد أهم المداخل الرئيسية لمدينة
فلورنسا بصورة تخالف الواقع الحالي, الذي يعاني من عدم توفر الفنادق الكافية
للزائرين, وغياب مواقف للمركبات.
وذكر السيد جاني, الذي يعمل في مكتب تم تشييده عام 1859 ضمن مكاتب
القصر القديم (بلاسو فيكيو) أن المدينة التاريخية يزورها 7 ملايين زائر سنويا يمضون
ليلة واحدة على الأقل. بينما يزورها عشرة ملايين زائر سنويا للمرور وقضاء بعض الوقت
للاطلاع على معالمها دون الإقامة فيها لعدم توافر الخدمات الفندقية.
وجدد أن المدينة التاريخية ستلعب دوراً ريادياً في الألفية الثالثة لا
يقل أهمية عن الأدوار, التي لعبتها خلال العصور الزمنية المتعاقبة بما فيها العصر
التنويري وستتبنى سلسلة من المبادرات الرامية إلى رفع شأن الحياة الإنسانية في كل
المجالات وعلى مختلف الأصعدة.
كما أكد السيد جاني في ختام حديثه على أنها ستحافظ على تدعيم وتوثيق
علاقاتها مع مدن العالم, التي في طليعتها المدن المتآخية معها, مشيراً إلى أنها لا
تزال تفتخر بإبرامها اتفاقية التآخي مع مدينة الكويت , التي يتردد اسمها كثيراً في
النشرات الإخبارية العالمية.. مشدداً على (أن مدينة فلورنسا سوف تؤثر وتتأثر بمظاهر
الحياة الثقافية, لأنها عاشت وستعيش لتحقيق هذا الهدف الإنساني).
كل هذا يشير إلى صعوبة إمكان فصل دور فلورنسا كمدينة احتضنت وشيدت عصر
النهضة الشاملة وبين دورها الراهن الرائد في دعم الثقافة وأوجهها المتعددة من أجل
رفع مسيرة رقي الإنسان ومساعدته في تكوين رؤية نقدية حيال ما يجري من حوله من أحداث
وتطورات هائلة.