العقرب يبوح بسره النووي!! خالص جلبي

العقرب يبوح بسره النووي!!

13 فبراير: السكون يخيم في الصحراء الجزائرية ولا يعكر هذا الهدوء سوى الريح التي تصفر فوق الرمال الممتدة عبر الأفق، وفجأة يمزق هذا الهدوء إعصار مدمر ورعد مجلجل، ويرتفع عمود هائل من النار عبر السماء، وترتسم في الأفق كرة نارية هائلة، لا يلبث أن يتلو ذلك ارتفاع غمامة من الدخان تأخذ شكل رأس الفطر. إنها فرنسا تجرب السلاح النووي الأول لها، ليس فوق التراب الفرنسي، بل على الأرض الجزائرية، فالجزائر بلد التجارب من كل الأنواع، فهو المستودع الخلفي لنفايات فرنسا؟!! كما هو الحال اليوم في سلسلة التجارب الفرنسية في جزر المحيط الهادي (مورورو) بعد خمس وثلاثين سنة من التجربة الأولى، بالرغم من غضب أهل الأرض وحنقهم جميعا!!

كل المنطقة المحيطة بالانفجار تحولت إلى موت كامل ودمار مطبق، فالرمال الناعمة نفخت في الاتجاهات الأربعة، وتقعر باطن الأرض بشكل قبيح، وبرزت فوهة ندبة واسعة، شوهت معالم وجه الطبيعة الجميل. تفحمت النباتات جميعا، واحترقت الحيوانات بنار تتلظى، وما كان في مركز الانفجار أو قريبا منه تبخر إلى السماء بفعل درجة الحرارة التي ارتفعت إلى ما يزيد على عشرة ملايين درجة! وما كان بعيدا عن مكان الظاهرة الكونية الجديدة قضى نحبه من هول الإشعاعات، فهذا السلاح يقضي على الحياة باللهب الحارق، أو الضغط الماحق الساحق، أو الأشعة المهولة المدمرة، فهي طاقة لم يحلم بها حتى أبالسة الجحيم!!

لقاء غير متوقع مع عقرب الصحراء!!

غير أن العسكريين الواقعين تحت سكرة القوة، ونشوة الجبروت، وزهوة الاختيال، فغروا أفواههم من الدهشة حينما وقعت أعينهم على عقرب صحراوي في مكان الانفجار، يتحرك بكل اطمئنان، غير عابئ بكل ما يحدث حوله، قد رفع زعنفته بنهايتها السمية المدببة، ملوحا بها يتحدى الجنرالات الفرنسيين!

ولكن كيف نجا هذا الشقي من العاصفة النارية والأشعة الخارقة التي التمعت فوق جحره ولم تؤثر في قوته بحال؟! فهو يمشي ولا تظهر عليه أية مظاهر للتعب أو الترنح أو الإعياء!! وبعد مرور كل هذه السنوات لم يصل العلماء إلى الجواب الذي يروي الغليل عن سر قوة العقرب الصحراوي الجزائري الذي صمد في وجه الإعصار النووي؟! غير أن المعلومات التي أمكن جمعها حول هذا الحيوان المدرع ذو الزعنفة السامة، منذ تجربة الإعصار النووي قبل خمس وثلاثين سنة، قادت إلى معرفة مدهشة بخصائص هذا الحيوان الذي عكف على دراسته العالم الفرنسي (فاشون Vachon ) لأكثر من ربع قرن، فهذه المقاومة الخارقة للحرارة والأشعة الناجمة عن تفجير السلاح الحراري النووي، قد تكون المفتاح لتطوير مادة دفاعية في جسم الإنسان تقيه من الكوارث النووية المقبلة، خاصة الجيل الثالث من السلاح النووي، ومن أجل فهم هذا السر الخفي في جسم هذا الحيوان المرتبط بالذاكرة الإنسانية بالخبث والغدر واللدغ، فقد تبين من دراسة طراز حياته وعاداته اليومية، التي تمت في متحف باريس قسم التاريخ الطبيعي، أنه يمتاز بصفات لا يكاد يصدقها الإنسان، فالعقرب (اللداغ) منحنا الكثير من الدروس الملهمة والحكم القيمة.

دروس وحكم من العقرب (الضار والمؤذي)!

أولا: فهذا العقرب الذي يصل طوله إلى حوالي عشرين سنتيمترا، لا يجاريه في صومه وزهده ولا فقراء الهنود المستلقون على المسامير الحادة لفترة طويلة، كما لا يصل إلى تحمله في الحرمان من الطعام والشراب أشد النساك، ولا أكثر من يمارس الصيام، فهو يستطيع أن يتابع صومه لمدة ثلاث سنوات كاملة دون طعام أو شراب.

ثانيا: كما أنه يستطيع كتم أنفاسه تحت الماء متربصا هادئا دون أي أكسجين لمدة يومين بالكامل؟!

ثالثا: وإذا غطس في الثلاجة في درجة الحرارة تحت الصفر أو نقل بعدها إلى درجة حرارة الصحراء ذات الستين درجة، فإنه يتكيف بشكل مدهش مع كل التبدلات المريعة في درجة الحرارة.

رابعا: وإذا وضع في حمام من الجراثيم ذات الذيافين الفظيعة التي تنهك الإنسان وتورثه المرض فإنه يمر بها، كما لو كان يأخذ حماما لطيفا، دون أي مرض أو عطب، ولا يتأثر بدنه البتة.

خامسا: وأما تحمله لجرعة الإشعاع النووي فهي تصل إلى ثلاثمائة ضعف (300) الكمية السمية القاتلة من الإشعاع، تلك التي يقضي الإنسان بها نحبه، ويصبح بعدها رميما.

ويعود الفضل في مقاومته للأشعة النووية، إلى أن ما يدور في أحشائه ليس دما أحمر كالذي نملكه نحن بنو الإنسان، بل إن ما يجري في عروقه هو عصير (مصل) أصفر يقوم بدور أساسي في ترميم الخلايا المدمرة من الإشعاع النووي، ويبدو أن هذه الخاصية الدفاعية قد تشكلت عنده منذ فترة طويلة، فهو كائن يعيش على الأرض منذ حوالي خمسمائة مليون سنة (نصف مليار سنة)، ويبدو أن هذه الفترة السحيقة التي عاشها وهو يواجه كل أنواع الإشعاعات الكونية طورت فيه جهازا دفاعيا متميزا. وتمت التجربة على الجرذان بحقنها بـ (سيروم) العقرب المخفف والمعدل، ثم عرضت للأشعة النووية فارتفعت عندها المقاومة بشكل هائل وبسرعة. ويتفق الباحثون المتخصصون في (العقارب) اليوم على أن كل السر مختبئ في التركيب الجيني له، ولذا فإن فك هذا السر في مدى السنوات العشر القادمة سوف يقفز باتجاه حل هذا اللغز، خاصة بعد تجاوز الحرب الباردة وكثرة استخدام الطاقة في الأغراض السلمية، فيمكن تطوير لقاح خاص، لا يقدر بثمن لحماية العاملين في المؤسسات النووية.

فلسفة الضار والنافع!

ليس ما نحبه أو نكرهه هو المقياس للصحة والخطأ وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثير فمشاعرنا خداعة، وأبصارنا زائغة، وقلوبنا متقلبة، وليس شعورنا بالبرد أو الحر هو مقياس الكون، فدرجة حرارة 37 التي يعوم فيها جسمنا ويسبح، هي درجة من سلم حراري يتأرجح على شكل طيف من 273.15 تحت الصفر وهي درجة الصفر المطلق لكالفن، إلى درجة حرارة باطن الشمس التي تصل إلى 15 مليون درجة!! ونحن نخطئ كثيرا حينما نقيم الكون على صورة ثنائية وليس على صورة الطيف، وقصة العقرب التي أوردناها تبرز المعنى الفلسفي لوجود العقرب في الطبيعة، فلم يعد ذلك الكائن الضار والخبيث والغدار، بل أصبح ملهم الحكمة، ومصدر المصول الطبية الواقية، وأحد أسلحتنا الدفاعية في ترسانة الحرب، ضد الأخطار المحيقة بنا، فتحول بهذا المنظور إلى صديق حميم بعد أن كان العدو اللدود، ولا يعني هذا أن ينام الإنسان معه في فراش واحد!! بل أن يحافظ عليه ضمن إطاره في الطبيعة. كما أننا نرى الطبيعة في صورته بلون مختلف، فالطبيعة كلها ذات كيان متكامل ومترابط، ومتفاهم ومتوازن، ويجب أن نفهمها كذلك، فالبعوض بجانب الضفادع، والعناكب بجانب الحشرات، والذباب بجانب النمل، والأشجار بجانب الحيوانات تنفحنا الأكسجين بعطاء مستمر، دون من ولا أذى بشكل متوازن، فهناك حلقة كونية جبارة محكمة التماسك، متوازنة الأطراف، تعدل بعضها بعضا في لحظات الخلل، لم نفهم سرها الخالد حتى اليوم، وهكذا أميط اللثام الآن عن بعض أسرار العقرب المسكين (الذي صبت عليه كل قصائد الذم والهجاء. حب الأذية من طباع العقرب.. إلخ) كما لا نفهم حتى اليوم تدخلنا وكسرنا لحلقة الطبيعة، واعتداءاتنا المتواصلة عليها، إلا بين الحين والآخر وبشكل درامي، كما حصل مع تخريب الغابات وانفلات فيروس (الايبولا الدموي) الرهيب، يعلن الدفاع عن البيئة ويحصد من لا يحترم هذا القانون، فحتى الغابة لها قانونها، وإذا كان هذا العقرب الحكيم، هو الذي يقاوم الأشعة الكونية المؤذية، ويرمم فيه العصير الأصفر الذي يتدفق في مفاصله كل تخربات الخلايا، التي تدمرها أشعة جاما المنطلقة مع الانفجارات النووية، فإ نه على ما يبدو يعمل بحكمة أكبر من الإنسان في التهيؤ للتربع على جمهورية المستقبل: (جمهورية الصراصير والأعشاب والعقارب؟!) عندما يرتكب الإنسان حماقته النووية فيقضي على نوعه.

وإذا كانت الديناصورات قد اختفت من ساحة الأرض قبل خمسة وستين مليون سنة، فلا يستبعد أن ينتهي الجنس البشري في حماقة كبرى من هذا النوع، وإن كانت كل المؤشرات تدل على أن الخطر النووي في طريقه للتقلص الآن.

كتب الدكتور (فرنون. م. ستيرن Vernon .M. Stern ) وهو عالم اختصاصي بالحشرات في جامعة كاليفورنيا (ريفر سايد) في كتابه "الزراعة وتربية المواشي" عن قدرة الحشرات مثل الصراصير على الصمود في العاصفة النووية، بحيث إنها تتكاثر بشكل جيد بعد ذلك، في الوقت الذي يسرع الجنس البشري للهلاك: "وستكون الأعشاب آخر ما يهلك.. ويبدو أن الولايات المتحدة لن تكون أكثر من جمهورية من الأعشاب والحشرات" وحسب الدراسات الفرنسية الأخيرة فسوف تسود العقارب على ما يبدو ظهر البسيطة بقدرتها غير العادية على مقاومة الأشعة النووية الفتاكة. والحديث عن الأشعة النووية المهلكة لم يكن في حساب آباء القنبلة النووية عندما انفجرت للمرة الأولى فوق رءوس اليابانيين. وعندما انتهى الحريق النووي فوق هيروشيما وناجازاكي، فإن أثر القنبلة لم ينته حتى يومنا الحالي، فتشوهت الأجنة في أرحام من لم يقتل من النساء، وأسرعت أمراض السرطانات تفتك في البقية الباقية من الذين لم يطوهم الحريق الكبير!! وكان الدكتور الياباني "ميشيهيكو هاشيا Mishihiko Hashiya" أول من انتبه إلى هذه الظاهرة فأطلق عليها بحق "مرض الأشعة" عندما لاحظ على مرضاه الإسهال المدمي ونقص الكريات البيض وتحطم جهاز المناعة وانهيار الإنسان والموت بعد ذلك. وعندما تم تطوير ما عرف بالجيل الثاني من السلاح النووي، الذي عرف بالسلاح النووي الحراري، والذي يقوم على مبدأ الالتحام الهيدروجيني، اشتدت وطأة هذه الظاهرة، أي أثر الأشعة والغبار النووي المتساقط، فبدأ التفكير في تطوير الجيل الثالث من السلاح النووي أي ما عرف بالقنبلة النظيفة، ولم تكن نظيفة بحال؟!

حلقة الدمار المريعة لقنبلة النيوترون

ولأخذ فكرة عن تأثير الإشعاع النووي، فبإمكاننا تصور سقوط سلاح نووي نتروني في ساحة الحرب؟! إذا سقطت قنبلة نيوترونية فوق بقعة من الأرض وعلى ارتفاع مائة وخمسين مترا، تجلت آثارها على الشكل التالي: في قطر (120) مترا تعمل (آلية الضغط) أولا فتتفتت المدرعات ويتبخر الناس؟! وأما في مدى أربعمائة متر فتتفجر البنايات المسلحة وتتطاير إلى بقايا من أحجار وتراب وشظايات من الزجاج في الهواء!! وأما في حدود سبعمائة متر فسوف يصاب الجنود داخل مدرعاتهم بالشلل الكامل، فتتعطل ملكات القتال، ليموتوا في مدى أربع وعشرين ساعة بشكل عذاب مرعب لا يطاق، وأما في مدى 900 متر فسيجتاحهم الشلل ليتلوه الموت خلال يومين إلى ستة أيام، وأما في حدود 1200 متر فسيكون مصيرهم الموت الجماعي بالانسمام الشعاعي، وفي الكيلومترين الباقيين سيموت الناس غير المحميين في حفلة مروعة من الموت الجماعي بالسم الشعاعي، الذي لا يرونه ولا يحسون به، فيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون؟! أما العقرب في الأتون الذري فإنه سيبقى متفرجا على حماقة الإنسان لا أكثر ولا أقل؟!

 

خالص جلبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات