البلازما تدخل المصانع عزت طه سليم

البلازما تدخل المصانع

التقنية تجعل ممكنا اليوم ما كان مستحيلا بالأمس، والمثير في التقنية هو التزامها بأن ما هو مستحيل اليوم ربما يصبح ممكنا في الغد. فكثير منا يمكنه تذكر وقت أن كان غير متاح بعض التقنيات العادية مثل أجهزة التحكم في التلفزيون عن بعد، الاسطوانات المضغوطة، أفران الميكروويف، أجهزة الأشعة المقطعية (Cat Scan)، الحواسب النقالة، والتليفونات المحمولة. كل هذه نتائج لثورة التقنية التي كانت في تقدم دائم خلال القرن العشرين والتي ستستمر بقوة دفع أكبر في القرن الواحد والعشرين.

ومن المثير للدهشة أن مجال المعالجة الدقيقة بواسطة البلازما، وهو مجال ليس معروفا جيدا، يعزز كثيرا من الشكل الحالي لهذه الثورة. ففي تقرير نشر في عام 1991 للمجلس القومي للبحوث الأمريكي بعنوان "معالجة المواد بالبلازما"، يقول: "إن المعالجة بالبلازما لها أهمية حيوية لعديد من أضخم الصناعات في العالم منها، الإلكترونيات، السيارات، الصلب، معالجة النفايات السامة، والطب الإحيائي". واليوم فإن عددا متناميا من المصانع يطبق تقنيات البلازما الدقيقة في عدد كبير من المنتجات الجديدة المحسنة التي نستعملها في كل يوم.

ولفظ البلازما فيما ينطبق على هذا المقال ليس له علاقة ببلازما الدم. فالبلازما تتكون من أيونات غازية مشحونة كهربائيا. تنشأ البلازما عن طريق إعطاء طاقة لغاز عادي باستعمال تيار كهربي أو مصدر لأشعة الميكروويف إلى أن تفقد ذرة أو جزئ الغاز إلكترونا أو أكثر من مدارها الخارجي. وبالرغم من أن لفظ بلازما ليس شائعا، فإنه غالبا ما يقال إن حوالي 99% من المادة في الكون في حالة بلازما. فالشمس والنجوم الأخرى هي عبارة عن كرات ضخمة من البلازما الساخنة والتي تتكون من إلكترونات مشحونة بشحنة سالبة ونويات مشحونة بشحنة موجبة. أيضا، الشفق القطبي الشمالي هو عبارة عن بلازما تكونت عندما أوقع المجال المغناطيسي الأرضي في شراكه الجسيمات المشحونة المتدفقة نحونا من الشمس على هيئة "ريح شمسية". وكذلك مصابيح الفلورسنت تحتوي على بلازما ضعيفة، يتحرك فيها قليل من الإلكترونات الحرة داخل الأنبوبة مسببة إثارة ذرات الغاز لينبعث منها الضوء.

غالبا ما تسمى البلازما "الحالة الرابعة للمادة"، وتتميز بأنها وسط ذو درجة حرارة عالية جدا. فمثلا عندما نقوم بتسخين مادة صلبة فإنها تنصهر لتصبح سائلا، وبالتسخين إلى مدى أعلى يتحول السائل إلى بخار، أي يصبح غازا. فإذا سخن الغاز إلى درجة أعلى تبدأ الإلكترونات في الهروب من المدارات الخارجية للذرات، مما يؤدي إلى أن يصبح الغاز مشحونا كهربائيا، أي يتكون من إلكترونات وأيونات موجبة كهربائيا. هذا الغاز المؤين هو البلازما. والمحتوى الحراري العالي للبلازما يمكن أن يكون له فوائد مهمة في عمليات المعالجة الصناعية. ولكن بالإضافة إلى ذلك فالطبيعة الكهربائية للجسيمات الذرية للبلازما تمكننا من التحكم بدقة أكبر في تطبيقات معالجة المنتجات الصناعية أكثر من أي طريقة أخرى ممكنة.

منتجات تعيش طويلا

لأكثر من مائة عام أنتجت الصناعة منتجات تبلى بسرعة نسبيا، مستخدمة آلات لها أيضا عمر قصير بسبب تأثيرات الصدأ والبلى بالاحتكاك. ولكن الاقتصاديات التنافسية وكذلك الاهتمامات البيئية تدفع الصناعة للبحث عن منتجات تعيش طويلا. فعندما يغمر مكون من المكونات الصناعية له شكل معقد في غرفة البلازما ويوضع عليه جهد كهربائي سالب، فالأيونات الموجبة تتجه من البلازما إلى سطح المكون. فالقوة الكهربائية توجه الأيونات لترتطم بزاوية قائمة بكل أسطح المكون. فإذا لم ترتطم الأيونات بزاوية قائمة فلن تعالج الأشكال المعقدة للمكون بطريقة متماثلة. وبناء على ذلك فإن هذه الخاصية الفريدة للجسيمات والمجالات الكهربائية ضرورية جدا لهذه العملية.

عن طريق زرع العناصر مثل النيتروجين بعمق في المواد، من الممكن أن يصبح سطح المادة أكثر مقاومة للصدأ، فالمنتجات التي تستفيد من هذه المعالجة تشمل الآلات، والأصباغ، وأسطوانات الآلات، ومواد الجراحات الترقيعية. ومن الممكن أيضا تغطية الأسطح بالمواد الأكثر صلابة والمقاومة للصدأ بطريقة رش طبقة من البلازما على هذه الأسطح. لقد استعملت هذه الطريقة في معالجة المراوح التربينية لمحركات الطائرات. تقوم شركة سيارات أمريكية بتطبيق تقنية غرس البلازما لتطيل من عمر أجزاء السيارة والآلات المصنعة لهذه الأجزاء المعالجة بالبلازما وقد بينت نتائج الاختبارات المعملية أن عمر الاستهلاك للأجزاء المعالجة بالبلازما قد امتد لأكثر من 25 مرة عن الأجزاء غير المعالجة.

وأصبحت المعالجة بالبلازما الآن الحل الأكثر تعقيدا لواحدة من أكبر التحديات لجيلنا، وهي إزالة السموم الضخمة من المخلفات السامة دون إنتاج موارد متجددة من المخلفات. فالطريقة التقليدية لمعالجة المخلفات السامة هي حرقها في مواقد إحراق القمامة مستخدمين الاحتراق العادي. ولكن لسوء الحظ، تنتج هذه الطريقة مصدرا خطرا إضافيا للبيئة.

فمن الممكن استعمال البلازما، بسبب درجة حرارتها الفائقة، في صهر أي مادة وتكسيرها وتحويلها إلى مادة مستقرة تشبه الغاز دون مورد جديد إضافي من المخلفات. هذه الطريقة مفضلة بيئيا بدرجة كبيرة على طريقة الحرق التقليدية أو الطرق الأخرى الكيميائية للتخلص من السموم والمخلفات.

ويقوم الآن دانييل كوهن ، من مركز الاندماج النووي بمعهد ماساشوستس للتقنية (MIT)، بتطوير تقنية مختلفة مستخدما سيالا من الإلكترونات لإنتاج بلازما من أجل الإزالة الانتقائية للسموم العضوية الملوثة للهواء.

حواسب أصغر وأسرع

المعالجة الدقيقة بالبلازما هي التقنية الممكنة للنزعة نحو حواسب أصغر وأسرع. فمنذ ثلاثين عاما كانت الحواسب مبنية على أساس صمامات الراديو المفرغة كبيرة الحجم، ولكن هذه الأيام تقوم الدوائر الكهربائية بعمل آلاف الصمامات عن طريق نقش أسطح رقائق مصنوعة من أشباه الموصلات، حجمها أصغر من ظفر الأصبع. وتعتمد جزئيا ثورة التصغير هذه للمكونات الإلكترونية على تقنية نقش شبكة من الخطوط المعقدة الدقيقة لا يمكن رؤيتها وفق نموذج محدد بدقة على رقائق من السيليكون. فمن الممكن رسم خطوط دقيقة جدا على جزء من الميكرون - الذي يساوي واحدا على الألف من الملليمتر - على سطح ما بطريقة الطباعة الحجرية والتي تشبه التصوير العادي. ولكن المشكلة هي في كيفية الحفاظ على دقة الخطوط عندما نقوم بعملية طباعتها (عندما تحول الخطوط إلى حفر على السطح). الطريقة الأبسط لحفر هذه السمات هي باستعمال حمام كيميائي رطب كالمستعمل في تظهير الصورة السلبية للفيلم الفوتوغرافي. ولكن لسوء الحظ فإن هذه الطريقة الكيميائية لحفر السمات على السطح توسع من عرض الخطوط عند حفرها، فتفقد الخطوط بعضا من دقتها. من الممكن أن تحل عملية المعالجة الدقيقة بالبلازما مشكلة زيادة عرض السمات المحفورة على السطح. فلأن البلازما تتكون من جسيمات متناهية الصغر ومشحونة كهربائيا، فإن سيالا من هذه الجسيمات يمكن فصله من البلازما وتوجيهه عموديا على السطح المطلوب الحفر عليه. ذلك يسمح بإجراء عملية التثقيب للحفر بثقوب صغيرة جدا (في حجم الذرة) وأيضا بإجرائها في الاتجاه المفضل. تقلل هذه العملية، أو تزيل، اتساع الحفر، وزيادة على ذلك تقلل من الفاقد. وقد أنجزت خطوات هائلة في تصغير وتحسين الدوائر الإلكترونية نتيجة للمعالجة الدقيقة بالبلازما، ولكن يلوح أيضا تقدم أكبر في الأفق. فاستخدام التقنيات الجديدة للحصول على البلازما، مثل إنتاج البلازما بالليزر، في عملية الطباعة يتيح الفرصة للحصول على سمات أدق على السطح (خطوط أدق). مثل آخر، هو استخدام أشعة الميكروويف في الحصول على البلازما، والذي تطور نتيجة للبرنامج العالمي للحصول على الطاقة بواسطة الاندماج النووي، فالبلازما التي نحصل عليها بهذه الطريقة تتميز بطاقة أيونات أعلى عند كثافة أعلى للبلازما.

ويتنبأ تقرير صدر في عام 1994 لاتحاد صناعة أشباه الموصلات الأمريكي بأن استعمال البلازما الناتجة بواسطة أشعة الميكروويف سيتيح الحصول على تقليل حجم السمه على السطح من "35," ميكرون في عام 1995 إلى "1," ميكرون في عام 2004 ، وذلك يكافئ زيادة عدد الترانزستورات في السنتيمتر المربع من 4 ملايين حاليا إلى 50 مليونا في عام 2004.

لوحات العرض المسطحة

كما حلت أشباه الموصلات تماما محل الصمامات المفرغة كبيرة الحجم، فإن شاشات العرض المسطحة تحل محل أنابيب أشعة المهبط التلفزيونية الضخمة والأنواع الأخرى مـن أنابيب شاشات العرض فـي مونيتورات (Monitors) الحاسوب وغرفة الطيار في الطائرة، ربما تكون قد سافرت سابقا على إحدى خطوط الطيران التي تستعمل شاشة عرض تلفزيونية مسطحة مطمورة في ظهر المقعد الذي أمامك. وكذلك تنتشر كشاشات عرض للحواسب النقالة. وسريعا ستظهر هذه الشاشات المسطحة على لوحة أجهزة القياس في السيارة، كما هي الآن في الطائرات المقاتلة، حيث تحل لوحة عرض واحدة محل عدد ضخم من الأجهزة التي تستدعي المعلومات ومنها الخرائط المتحركة المتصلة بالأقمار الصناعية.

وكذلك تستعمل طريقة الحفر بالبلازما على السطح في تصنيع الشاشات البللورية السائلة، أكثر التقنيات استعمالا لإنتاج لوحات العرض. ولكن لوحات العرض الضخمة لا تستعمل فيها فقط طريقة الحفر بالبلازما، وإنما تستعمل فيها أيضا ومضات البلازما متناهية الصغر في عملية العرض نفسها.

إن المعالجة الدقيقة بالبلازما، في مثل هذه التقنية، ضرورية لتخفيض الحجم والتكلفة للمنتج وزيادة سرعة خط الإنتاج وفي نفس الوقت تقليل الفاقد في السلع المصنعة على نطاق واسع. وفي هذا الصدد يقول عالم فيزياء البلازما الكبير فرانسيس شين : "إننا في بداية هذه الصناعة، والتي من المتوقع أن تنمو عدة مرات في السنوات العشر القادمة".

الأمثلة السابقة تمثل مجرد البداية لحقبة جديدة في التقنيات المعقدة. موجة جديدة من المنتجات التجارية المحسنة (عديد منها مبني على استعمال تقنيات البلازما) تدخل السوق. وبالإضافة لما ذكر، تشمل تلك المنتجات الترسيب بالبلازما لمساحة كبيرة من غشاء الماس الرقيق في آلات التقطيع ومكونات الدوائر الإلكترونية، وترسيب أغشية متوافقة بيولوجيا في عمليات الجراحة التعويضية وفي التغليف الدوائي، وترسيب أغشية من البوليمرات على أشرطة التسجيل المغناطيسية والأسطوانات المضغوطة.

 

عزت طه سليم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الشمس..تلك الكرة الهائلة من البلازما "صورة فضائية بالكمبيوتر





كمبيوتر اصغر وشاشة عرض أرق بفضل تكنولوجيا البلازما





معالجة مراوح الطائرات بالبلازما يجعلها أقوى وأكثر مقاومة للصدأ