ماذا يقول الشاعر لنا؟

ماذا يقول الشاعر لنا؟

أوراق أدبية

(كل ما أحاوله في هذا الديوان كبير. كالشعر, كالفن, كالحياة. ولكنه حين خرج إلى الوجود لم يكن إلا قصائد تنبئ عن مجهول, لشاعر عربي في الثلاثين من عمره, كتبها وهو يلهث خوفا من أن يسفر وجه النهار عن نثر أيامه البغيضة)

صلاح عبدالصبور - أقول لكم.

صدر ديوان (أقول لكم) عن (المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر) في بيروت, في مارس 1961, بعد شهرين فحسب من انقلاب موبوتو في زائير بدعم من الولايات المتحدة ومصرع لومومبا الذي اهتزت له دول عدم الانحياز, وبعد عامين تقريبا من بداية حملات اعتقال الشيوعيين المصريين ــ الذين لم يصدر عفو عام عنهم إلا في مايو 1964 ــ وقبل أشهر معدودة من انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في سبتمبر سنة 1961ــ ولذلك لم يحتف بالديوان كتّاب من أمثال محمود أمين العالم الذي كان مع رفاقه في المعتقلات الناصرية وقت صدور الديوان, ولم يكن خرج من هذه المعتقلات سوى لويس عوض الذي أفرج عنه في الثالث والعشرين من يوليو سنة 1960, وعاد إلى موقعه في جريدة (الجمهورية) قبل أن يغادرها نهائيا, إلى جريدة (الأهرام).

وكان اختلاف دار النشر مقترناً بتغير قطع ديوان (أقول لكم) الذي صار صغيراً بالقياس إلى قطع ديوان (الناس في بلادي) الذي أخرجته (دار الآداب) سنة 1957, كما كان اختلاف القطع مقترنا باختلاف الإخراج الفني, حيث قام برسم الغلاف الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط, وتولى الرسوم الداخلية الفنان بهجت عثمان الذي كان يعمل مع صلاح عبدالصبور وأحمد حجازي ورجاء النقاش الذين كانوا يشتركون في حجرة واحدة من مبنى (دار روزاليوسف) بشارع قصر العيني بالقاهرة. ولذلك, كان الإخراج الفني لديوان (أقول لكم) أفضل من إخراج (الناس في بلادي) الذي خلا من الرسوم الداخلية, ومن الألوان ربما للدلالة على هويته النضالية.

ولم يتول أحد الأصدقاء كتابة شيء على الغلاف الأخير للديوان, فقد اكتفى صلاح عبدالصبور باقتباس مقطعين: أولهما من النشيد الثالث من (تشايلد هارولد) للشاعر الرومانسي الإنجليزي لورد بايرون, وثانيهما من (زهرة العمر) لتوفيق الحكيم. وكلا المقطعين ذو طابع اعتذاري يتصل بالعجز عن تجسيد الأفكار بدقة, أو التعبير عنها كما أراد لها كاتبها. وهو طابع يؤكده صلاح بمقطع ثالث من كلماته التي نشرنا بعضاً منها في مقدمة المقال.

شيء ما قد تغير

وتوحي هذه الكلمات إلى قارئ الديوان, قبل أن يشرع في القراءة, أن شيئاً ما تغير في شعر صلاح عبدالصبور. وبالفعل, كانت علامات التغير لافتة. أولاها: تباعد الشاعر عن دائرة الوجدان الجمعي التي تحدث عنها محمد مندور وحاول تأصيلها بوصفها سمة من سمات الواقعية الإيجابية, مقابل صفة الوجدان الفردي التي جعلها مرادفة للرومانسية, وقد خلا ديوان (أقول لكم) من القصائد التي تتحدث عن المجموع, الناس في بلادي, وعن نموذج البطل الشعبي, من طراز زهران, ومن استلهام الميراث الشعبي, فضلاً عن النزعة الشعبية التي أعجبت نقاد اليسار في ديوان (الناس في بلادي). واقتربت قصائد (أقول لكم), من الرمزية بالتباساتها الخاصة, واستبدلت بغنائية الوجدان الفردي أو الجمعي تأملات الفكر الفردي الذي يعاني معضلة الوجود, ويصوغها بالقدر الذي يريد أن يوصل ناتج تجربته أو حكمته إلى جمهور القراء.

وترتبط ثانية العلامات بعنوان الديوان نفسه من حيث دلالته على تحول لافت, فالانتقال من دال (الناس في بلادي) إلى دال (أقول لكم) كان يعني الانتقال من الجمع إلى الإفراد, ومن الحديث عن (الناس) الذين ينطق الشاعر باسمهم بوصفه واحداً منهم لا ينفصل عنهم, إلى الشاعر الذي يتحدث عن نفسه إلى الآخرين الذين ينفصل عنهم ويجافيهم ليعرفهم, متوجها بخطابه إليهم فيما يشبه الإبلاغ النبوي الذي يكسب دلالته من العنوان المأخوذ من لغة المسيح.

وثالثة العلامات هي (الحزن) الذي تغلغل في قصائد (أقول لكم). وانتقل من كونه موضوعاً لقصيدة واحدة (هي قصيدة (الحزن) المنشورة في مجلة (الآداب) البيروتية, أكتوبر 1953, قبل نشرها في ديوان (الناس في بلادي)) إلى أن أصبح حالا مهيمناً على أغلب قصائد (أقول لكم) ابتداء من القصيدة الأولى (الشيء الحزين) مروراً بقصيدة (كلمات لا تعرف السعادة) وانتهاء بقصيدة (قلق) آخر قصائد الديوان. وهو حال متعدد الأوجه, يبدأ بالوجه الاجتماعي الذي يرتبط بحكّام طغاة, وينتهي بالوجه الميتافيزيقي لمعضلة الوجود الذي يبدو كما لو كان نفضة رعناء من ريح سموم, لا تخلف سوى حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم. ويرتبط بتجليات هذه العلامة شعور متزايد بخيبة المسعى, ودرجة عالمية من الإحباط الذي ينطقه صوت شاعر عاد من بحار الفكر مثقل الوعي, ومن معاناة محنة الوجود بالكآبة, ومن قمع السياسة بالإحباط, فلم يتردد في أن يقول عن نفسه:

أنا مصلوب, والحب صليبي
وحملت عن الناس الأحزان
في حب إله مكذوب
لم يسلم لي من سعي الخاسر إلا الشعر
كلمات الشعر
عاشت لتهدهدني
لأفر إليها من صخب الأيام المضني

مرآة للذات

وسواء كان (الإله المكذوب) يشير إلى عالم السياسة, أو إلى العراك الاجتماعي سعياً وراء هدف ما, أو إلى تمرد ميتافيزيقي, أو حتى إلى حب فاشل, فإن دلالة (السعي الخاسر) كدلالة (صخب الأيام المضني) في تحديد معنى الخلاص بالشعر, وكونه القيمة الوحيدة التي سلمت لمن يحمل صليب الحب على كتفيه, ويفتدي الناس بحمل أحزانهم التي تغدو ظله وصليبه.

ويقود ذلك إلى العلامة الرابعة, وهي تأكيد قيمة الشعر بوصفه ذاتاً وموضوعاً, ذاتاً تتحدث عن الأشياء وتتجه إلى المخاطَبين:

لتصنع نقمة في القلب أو فرحاً
تكون مجن من جُرِحا
وسهما في حشا القلب الذي جَرحَا

وموضوعاً للتأمل, قابلاً لأن يغدو مرآة للذات التي تجتلي حضورها بانقسامها على نفسها, وتحولها إلى ذات ناظرة في الموضوع الذي هو إياها, وموضوع منظور إليه من الذات التي هي إياه. وكان الشعر - الموضوع موجوداً في (الناس في بلادي) على المستوى الرمزي غير المباشر, وذلك من خلال قصائد مثل (الرحلة) التي هي (رحلة المعنى) على خلد الشاعر المؤرق بالسعي وراءه, ومثل قصيدة (أغنية ولاء) التي هي استحضار للقصيدة بوصفها بعض عطايا المحبوب - الشعر الذي نعرفه من خلال شعائر استقباله. وأخيراً, مثل مقطع (الميلاد الثاني) من قصيدة (رحلة في الليل). وهي قصيدة لا تفارقها دلالة الرحلة في مدلول السعي وراء الإبداع, خصوصاً في فضائه الليلي الأثير, حيث التوحد الذي يغدو معه المبدع (الشاعر) وحيداً في حضرة الواحد - الشعر, فتولد نفسه من جديد مع كل رحلة إبداع ليلي, كما لو كان هو الوجه الآخر من (السندباد) في تجاوب دلالات الرحلة التي ظلّت كالسندباد من الرموز المتكررة الملازمة لمعاني البحث عن المعنى الشعري في أعمال صلاح عبدالصبور اللاحقة.

الشاعر والأقنعة

ويختلف الأمر في قصائد (أقول لكم), فالشعر - الموضوع يظهر على نحو مباشر, ويتحول إلى موضوع يلحّ عليه التأمل في أكثر من قصيدة, وذلك بالقدر الذي يبرز حضور (الشاعر) من حيث هو (شاعر). (القديس) أقرب الأقنعة شبها به, خصوصاً عندما تكتسب لغته نبرة نبوية علامتها: أقول لكم. وأولى شارات (الشاعر) - مع هذا الحال الجديد الوعي بالوضع في تراث, من منظور التعاقب الخالص, والنظر إلى الحضور الذاتي في الوجود بوصفه لبنة في بناء لا يتوقف عن الصعود أو الامتداد. والشارة الثانية قرينة الوعي بالانتساب إلى قبيلة الشعراء, من منظور التزامن الآني. وهي قبيلة تفرض بحضورها الخلاق معنى (جلّ جلالها الكلمة), لا من حيث هي نقمة في القلب أو فرح فحسب, وإنما من حيث هي الوسيلة والمرفأ والغاية, منذ أن كانت الكلمة هي المبدأ والمعاد, أو منذ أن قيل: في البدء كانت الكلمة. والشارة الثالثة من شارات (الشاعر) هي الوعي بالجمهور الذي يتوجه إليه الوعي الذي قد يتضمن معنى الافتداء بحمل الأحزان أو حتى التضحية بالدم, وقد يتضمن معنى البشارة والهداية أو الكشف الذي ينقله العارف إلى غير العارفين, أو القطب إلى المريدين.

وتشترك تلك العلامات مع غيرها الذي سيرد ذكره في الدلالة على الأفق المختلف الذي اقتحمته قصائد (أقول لكم) في تمحورها حول الذات التي تقول, والذات المقول لها, والموضوع الذي هو الذات في علاقتها بنفسها في أحوال إبداعها, وعلاقتها بمعضلات الوجود الذي تعانيه فكراً وتأملاً وإبداعاً في آن.

فكر شعري جديد

ولذلك, كان واضحاً من القراءة الأولى لديوان (أقول لكم) خلوه من غنائية (الناس في بلادي) وطريقته الحميمة في التعبير عن الأهل والأشباه, واستبدال ذلك بمحاولة صياغة فكر شعري من نوع جديد, لم يكن له نظير في الشعر المصري الحديث إلى وقت صدور الديوان.

وكان ذلك يعني الانتقال من دائرة التقمص أو التعاطف الوجداني في الحديث عن كائنات متعينة مشخصة, لهم أسماء محددة, وتربطهم بالصوت المتحدث في القصيدة روابط عائلية, أو حميمة, إلى دائرة الوصف المحايد للأنماط التي تغدو موضوعاً للتأمل, وتحويل الكائنات من نماذج حية إلى تمثيلات تجريدية, لا يراد منها إلا التدليل على فكرة ذهنية تبدو سابقة على عملية النظم نفسها. الحال الأول للغنائية الوجدانية هو حال (الناس في بلادي) الذي كنا نقرأ فيه:

بالأمس زرت قريتي.. قد مات عمي مصطفى
ووسدوه في التراب
لم يبتن القلاع (كان كوخه من اللبن)
وسار خلف نعشه القديم
من يملكون مثله جلباب كتان قديم
لم يذكروا الإله أو عزريل أو حروف (كان)
فالعام عام جوع

والحال الثاني لتأملات (أقول لكم) هو حال المتفلسف الحكيم الذي يتحدث عن كائنات مجردة, بلا أسماء أو ملامح جسدية متعينة, أو صلة قرابة أو ملامح حميمة, كائنات هي موضوع لتأمل خال من التعاطف أو التقمص, وتقدّم في مشهد من مثل (موت فلاح) الذي يقابل بين نوعين من وعي الموت - في (أقول لكم) - على النحو التالي:

لم يك مثلنا يستعجل الموتا
لأنه كل صباح, كان يصنع الحياة في التراب
ولم يكن كدأبنا, يلغط بالفلسفة الميتة
لأنه لا يجد الوقت
.........................
لكنه, والموت مقدور
قضى, ظهيرة النهار, والتراب في يده
والماء يجري بين أقدامه
وعندما جاء ملاك الموت يدعوه
لوّن بالدهشة عيناً وفما
ومدّ للأمام ساعداً, وجرّ في عياء قدما
واستغفر الله
ثم ارتمى
والفأس والدرّة في جانبه تكوّما
وجاء أهله وأسبلوا جفونه
وكفنوا جثمانه وقبّلوا جبينه
وغيبوه في التراب في منخفض الرمال
وحدقوا إلى الحقول في سكينه

والفارق بين مشهدي الموت دال في الحالين, خصوصا في تعين الأول وتجريد الثاني, إضافة إلى ظهور المقارنة بين (المثقفين) و(غير المثقفين) في المشهد الثاني, فالميت الفلاح (لم يك مثلنا) و(لم يكن... يلغـط بالفلسفـــــة الميتـــة) كدأبنا, ويعـــمل بلا تأمل, بينما نحن لا نعمل كثيراً, أو نتكلم أكثر مما نعمل ولا نكف عن التفلسف, وهو لا يستعجل الموت أو يذكره كأنه يعيش أبدا, بينما نحن (المثقفين) نضع الموت نصب أعيننا, ولا نعمل شيئاً إيجابيا للحياة في كل مواقفنا. وعندما يموت الفلاح, يتقبل أهله موته بوصفه حدثاً طبيعياً مثل غروب الشمس أو شروقها, على النقيض من المشهد الأول الذي يموج بالغضب والاحتجاج على الموت والفقر, فلا يُغيب المشهد العمّ مصطفى في التراب إلا ليبرز حفيده بزنده المفتول الذي يمده للسماء, كأنه مجلى مواز آخر للفتى زهران, خصوصا عندما يبرز المشهد ما يموج في عيني الفتى الجديد, دلالة الإصرار والعزم والتحدي والتمرد في آن وهي نظرة تتناقض ونظرة الرضا بالقضاء التي تبين في تحديق رجال المشهد الثاني إلى الحقول (في سكينه), ومضيّهم لرحلة الحياة من أول الدهر إلى نهايته.

غلبة الشاعر المفكر

هذا النوع من التجريد قرين التأمل العقلي الذي غلب على قصائد (أقول لكم) فأبرز الشاعر المفكّر على حساب الشاعر الغنائي, وأثار مشكلة الفكر في الشعر, أو الفكر الشعري, وإلى أي مدى يمكن أن يغدو الفكر موضوعاً للشعر? وما الحدود التي يمكن تقبلها من الشاعر عندما يحاول صياغة فكر شعري متميز? هل يكون ذلــك بخلق معادل موضوعي تجريدي, كما في (موت فلاح), أم بخلق نموذج بشري حي مثل ذلك الموجود في قصيدة (شنق زهران) بوصفها معادلاً مقابلاً? وكانت هذه الأسئلة جديدة في إلحاحها على مجموعات قرائية لم تكن تميل, تقليدياً أو تراثياً, إلى إثقال القصيدة بالفكر, ولا تزال تذهب إلى ما ذهب إليه القدماء من أن أبا تمام والمتنبي حكيمان بينما الشاعر البحتري, وتنفر من أمثال أبي العلاء حكيم معرة النعمان.

وأتصور أن صلاح عبدالصبور كان يحاول الوصول إلى أفق الفكر الشعري في قصائد (أقول لكم) البارزة, ومجاوزة الغنائية البسيطة ولو كانت تجذب إليها القراء, ومنافسة الشعراء, الكبار المعروفين بتأملاتهم الشعرية, وكان في ذهنه نموذج أبي العلاء المعري الذي فتن به من شعراء العربية, ونموذج ت. إس. إليوت الذي فتن به من شعراء الشعر الأوربي, ومن ثم التحول من أحوال التقمص أو التعاطف التــي تنبنــــي عليــــها القصيـــــدة الغنائية, سواء استخدمت ضمير المتكلم المباشر أو غـــــير المباشــــر أو أي ضميــــر غيرهما, وتركــــيزها على لحظة شعورية بعينها أو موقــــــف نفســـــي تزيده اللغة المكتنزة كثافة, إلى مواقف التأمل التي تباعد بين الأنا الشاعرة وموضوعها وتنأى بالموضوع عن أن يكون سبيلاً إلى الدفق الشعوري المباشر. فيغدو موضوعاً للمساءلة العقلية الباردة, أو التحليل المحايد الذي لا يتردد في تشيــــيئ الموضوع في سبيل الكشف عن دلالاته من حيث هو موجود في الوجود. مدت الأنا المتأملة ناظريها لكي ترى كل شيء في حقيقته الوجودية, وبحثت عن دلالة الموجودات لتكشف عن أصلها الفيزيقي والميتافيزيقي, فازدادت القصائد قرباً من الوجودية في جانب, وجرأة على التأملات الميتافيزيقية في جانب ثان.

هكذا, افتتح صلاح عبدالصبور (أقول لكم) بقصيدة (الشيء الحزين) التي تمضي إلى أبعد مما أطلق عليه محمد مندور (شعر الهمس) في الأربعينيات, حين جعل صفة الهمس علامة القيمة الموجبة في الشعر, وكان ما بعد الهمس في القصيدة يقترن بهذا (الشيء) اللامتعين الذي يوضع موضع التأمل على النحو التالي:

هناك شيء في نفوسنا حزين
قد يختفي ولا يبين
لكنه مكنون
شيء غريب, غامض, حنون.

واكتشاف حال وجود هذا الشيء بالتأمل هو هدف القصيدة التي لا تكف عن طرح الأسئلة عن هذا (الشيء) وحوله. لعل أصله تذكر يوم تافه بلا قرار, أو ليلة غابت في قرارة النسيان لكن آثارها تظل باقية, أو ندم لا تنمحي رواسبه, أو أسى يتصاعد مع تزايد الشعور بالتوحد في العالم. ولعل الأصل هو كل ذلك وأكثر منه, فاللافت في العقل الذي يتأمله عدم ميله إلى الجزم أو تقديم إجابة نهائية حاســـــمة, فهـــو عقل يعرف أن الحقيـــقة لها وجوه كثيرة, وأنه لا شيء يقينيا إذا تعلّق الأمر بالحضور في الوجود أو وجود الحضور. ولذلك, يدخلنا التأمل الشعري لهذا (الشيء الحزين) إلى عالم التوحد الليلي, أو ليليات التوحد, حيث يندى الليل بما يمور في الأطراف والأعضاء, ويملك النفوس مفتتحا موجات الحزن التي تثقل قصائد (أقول لكم) فتختفي الأضواء التي أشعتها من قبل قصائد (الناس في بلادي).

ويمضي تأمل (الأشياء), من (الشيء الحزين) إلى (الكلمات التي لا تعرف السعادة) و(الألفاظ), و(الشعر) و(الحب) و(الحرية والموت) و(السوق والسوقة) و(موت الإنسان) وأخيرا: (الظل والصليب). وتبدو القصائد كما لو كانت تبحث - من هذا المنظور - عن دلالة الأشياء لا الأشخاص, وعن عناصر مقول القول لا القائل. والقائل نفسه يتشبه بالمسيح حين يستخدم عبارته (أقول لكم) عنوان قصائد تبحث عن الحقيقة في الحق, أو عن معنى الوجود الذي يثقل العقل والقلب بالأسئلة التي لا جواب لها, والتي لا تخلف سوى الكآبة والشعور القاهر بالعدم أو العبث. ولا فارق كبيراً بين أن أجعل (التقرير) لازمة من لوازم (التجريد) أو أن أجعلهما معا لازمة من لوازم التشبه بالمسيح الذي يعظ أتباعه, فيغدو الشاعر صانع مواعظ تشبه (موعظة الجبل) في نبرة الحكمة, أو الخطاب الحكيم الذي تنطقه (كلمات لا تعرف السعادة), ذلك الخطاب يقول لنا:

ما يولد في الظلمات يفاجئه النور
فيعرّيه
لا يحيا حب غوّار في بطن الشك أو التمويه
لا يقتات الإنسان فم الجرح الصديان.. ويلتذ
لا توضع كف في نار, لا تهتز.

والمسافة جدّ قصيرة بين جمل هذا المقطع والحكم المأثورة, فكل جملة مصوغة كما لو كانت حكمة, يريد لها صائغها أن تبقى في الأذهان علامة خبرة ودليل سلوك, ولذلك تتكون الأسطر الخمسة من جمل أربع: السطران الأولان جملة واحدة حكمية: (ما يولد في الظلمات يفاجئه النور فيعريه). والأسطر الباقية مصوغة لا بما يوقف الذهن على مصاحبات مجازاتها الدلالية, وإنما بما يعبر العينين - ومن ثم الذهن - على المجازات بلا انتباه إلى مجازيتها, كما لو كانت العينان تتطلعان إلى ما وراء زجاج شفاف لا تشغلها زجاجيته, فالمهم ما وراء الزجاج الشفاف, أو ما وراء المجازات الشفافة التي تتقلص مجازيتها في قوالب الحكمة.

 

جابر عـصفور