الدور الحضاري للإنترنت جهاد عبدالله

الدور الحضاري للإنترنت

لا نستطيع فهم طبيعة الدور الذي تلعبه شبكة إنترنت حضاريا، إلا إذا تخيلنا الحجم الذي تداخلت به هذه الشبكة العالمية مع الحياة اليومية لإنسان التسعينيات. وهذا ما يتضح إذا لاحظنا أن محتوى إنترنت يتناول الآن مختلف جوانب الحياة، بجميع مناحيها، مكونا من ناحية عملية عالمها الخاص المسمى بالفضاء التخيلي.

فهناك المحتوى الأكاديمي (الجامعي) الذي تتولى تقديمه والإشراف عليه هيئات ومراكز جامعية أو بحثية، وهنالك أيضا المحتوى الإعلامي (أو الإخباري) الذي تقدمه وسائل الإعلام المختلفة، مطبوعة ومرئية ومسموعة، من خلال نسخها الإلكترونية. وثمة محتوى سياسي توفره عادة الحكومات والهيئات السياسية ومراكز البحوث المختصة، أما المحتوى المتعلق بالحضارة والفلسفة والأديان فهو أحد المجالات المطروقة بكثرة ومن كل الاتجاهات، حيث توجد مواقع ومنتديات لكل المذاهب الدينية والفلسفية بما فيها الديانات البدائية كالبوذية والهندوسية.

وفي "إنترنت" مواد غنية ومنوعة لإشباع الهوايات وتوفير المعلومات لهواة السفر والسياحة، حيث يجد المرء ما يريد عن الهوايات التي يمارسها، ويجد المتجول في الشبكة مواقع للكتب واللغات والأشعار والروايات، والرسوم المتحركة، والأدب الساخر، والطرائف، والأفلام التوثيقية والموسيقى بأنواعها والدراسات النقدية، ومجموعات الحوار المتخصصة، وما إلى ذلك من احتياجات ثقافية.

ويستطيع المستخدم أن يجد المحتوى العلمي غير الأكاديمي في كثير من الموضوعات، كعلم الحياة والكيمياء والفيزياء واستكشاف الفضاء وتطبيقات العلم والتقنية، وعلوم الحاسوب. وهنالك الكثير من المواقع التي تقدم للمستخدم معلومات متكاملة عن شبكة "إنترنت" نفسها وارتيادها والتجوال فيها، وأقسامها المختلفة. وسيجد الرياضيون المثقفون الكثير في "إنترنت" ليتابعوه عن ألعابهم المفضلة، سواء من حيث علم الألعاب نفسها، أو أخبارها، أو منتديات الحوار حولها.

لكن أكثف المحتويات في "إنترنت" الآن هو المحتوى التجاري والمرتبط بقطاع الأعمال، حيث يستخدم مثل هذا المحتوى من قبل مختلف الشركات والمؤسسات التجارية، ولجميع الأغراض التسويقية. وهناك الكثير من المجالات المستجدة لمحتويات مبتكرة كالتلفزة عبر الشبكة، والجامعات الإلكترونية، والنقود الإلكترونية.

هذا من حيث المحتوى، أما من حيث الانتشار فيكفي أن نذكر أن عدد المشتركين في الشبكة يزيد الآن على خمسة وأربعين مليون مشترك، وأن هناك ما يقترب من مليوني جهاز مزود للشبكة، بينما تنمو الشبكة بنسبة 183 بالمائة عالميا، وبشكل متزايد. وواقع الحال أن الدور الحضاري لإنترنت، لا يتأثر فقط بمحتواها وانتشارها، وإنما يتعدى ذلك إلى طبيعة الخدمات التي تضمها. وفي هذا السياق، تمثل خدمة البريد الإلكتروني فرصة هائلة للتواصل واختصار المسافات، هي ذات فعالية بالغة، وبخاصة للأنشطة الحياتية كثيفة الاعتماد على التراسل السريع، كالعمليات التجارية والصحافة.

أما منتديات الحوار ومجموعات النقاش الإلكترونية فهي من ناحية واحدة من أوسع وأعمق الفرص التي تتاح الآن للبشرية، ككل، لتبادل الحوار والآراء في مختلف جوانب المعرفة والعلوم والنقاشات. وهي من ناحية أخرى وسيلة فاعلة لترسيخ مفاهيم الحوار وأسلوبياته، وبخاصة مع كونها مفتوحة لجميع الفئات الثقافية والحضارية والفكرية دون حدود.

وفي تنوع ما تقدمه هذه الخدمات -فضلا عن التنوع الموضوعي الهائل في المحتويات- ما يقدم للمستخدم أكثر من مجرد توفير المعلومة، وما يتجاوز الإطلاع إلى التأثر وبخاصة إذا أحسنا الاستفادة منها ليكون هذا التأثر فاعلا في جانبه الإيجابي.

وعلى كل، فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى عامل ذي صلة. ذلك أنه إضافة إلى التنوع، تتميز إنترنت بالحرية، وواضح أن الحرية إذا فقدت مسئوليتها تحولت إلى نقيضها. وهذا ما أدى إلى المفاضلة عمليا بين الدورين الإيجابي والسلبي للحرية عندما يتعلق الأمر بدور الشبكة العالمية في هذا المجال. ففي الجانب المضيء، تبرز الآثار الإيجابية لهذه الحرية في تجذير وتعميق الأسلوب الديمقراطي، وبخاصة في الجوانب المتعلقة منه بحرية التعبير المسئول، وواضح مدى الحاجة إلى تعميق هذا الجانب في حياة الناس وممارساتهم. هذا فضلا عن تنمية التفكير الإبداعي والاستكشافي لدى المستخدمين اليافعين، والذي تعد الحرية جزءا أساسيا من متطلباته.

أما في الجانب المظلم، فتبرز بشكل رئيسي معضلة ما يسمى بالمحتوى المتطرف (أو غير المرغوب فيه)، وهو المحتوى الذي يتوزع على مجالين: أخلاقي اجتماعي، وسياسي. وفي الحالين، وبغض النظر عن الإمكانات التقنية المتوافرة لمنع هذا المحتوى، فلا بد من التأكيد على حقيقة أن الرادع الأفضل هنا هو الرادع التربوي الوقائي، وإن كان لا يغيب عن بالنا أن استخدام وسائل الحماية التقنية، إذا تم اختياره، ينبغي أن ينحصر فقط في منع هذا المحتوى دون أن يتجاوزه إلى محاولة تجيير الأمر لمنع الشبكة نفسها، أو جزء من إيجابياتها.

وثمة جانب ثان مرتبط بالحرية التي تشهدها إنترنت، هو نجاحها في إزالة الحواجز المختلفة، فكما أنك تستطيع محاورة الرئيس بيل كلينتون مباشرة في الفضاء التخيلي، فإنك تستطيع أيضا التحاور مع بيل غيتس بملياراته الأربعة عشر. وربما يسأل البعض هنا: هل نحن أمام نوع جديد من الاشتراكية؟ ونجيب بالنفي، لأن ما يتم هو تجسير معرفي للفجوات أكثر منه إزالة تناقضية للطبقات، وهنالك في التطبيق العملي المتزايد من التلاقي بجوانبه الإيجابية بين الطبقات والثقافات والحضارات، بما لا يمكن أن تتيحه الممارسة السياسية المجردة.

والعمل الثالث المرتبط بحرية الفضاء التخيلي، يرتبط بالبعد التربوي وبخاصة في البيت. والإجابة بكل تأكيد هي في التحصين التربوي أولا، وإن كنا نقترح أن يتم إيجاد نوع من الرقابة الذكية أسريا فيما يتعلق بتعامل اليافعين مع الشبكة.

وهذا ينقلنا إلى الدور التربوي لإنترنت، وهو دور واسع وغني، ولعل أهم العوامل التربوية التي ترسخها إنترنت هنا هو تنمية مهارات الاستطلاع والتعلم الذاتي بشكل كثيف. وفي التطبيق العملي لهذا الدور على الحالة التعليمية، نجد أن إنترنت بدأت في صياغة شكل جديد للتعليم والتعلم الاستكشافي المفتوح، وبشكل يتجاوز من ناحية وظيفية المفاهيم العامة لكل من التعليم الصفي التقليدي والتعليم عن بعد، إلى التعلم الاستقلالي الذاتي المرتبط في الوقت نفسه بجماعية التعليم. وهذا الدور آخذ في البروز مع ظهور العديد من الجامعات الإلكترونية في الفضاء التخيلي، وبشكل يتداخل معرفيا مع سهولة الحصول على المعلومات ذات الناتج التعليمي بشكل أيسر وأسهل وأسرع، أو حتى بردم الهوة التقنية والثقافية بين طرفي المعادلة الحضارية المعاصرة، وتجسيرها، وبخاصة بعد أن ألغت إنترنت عمليا كثيرا من القيود "السياسية" التي كانت تعيق مثل هذا الحوار بأشكاله المختلفة.

الشكل الجديد للحياة

هذا إذا ما تحدثنا عن الحاضر، لكن ماذا في المستقبل؟ الإجابة تبدأ من الحاضر أيضا، فكل الدلائل تشير إلى أن هنالك شكلا جديدا للممارسات الحياتية آخذ في التبلور، ليس فقط في بعد الممارسة الوظائفية (فيما يتعلق بالعمل) وإنما أيضا في ممارسة الحياة اليومية وحتى الخاصة.

فالنمو المطرد في تطبيقات التجارة الإلكترونية، وما يتم الآن من السعي لزيادة الممارسات التجارية عبر الشبكة، وحتى إصدار النقود الإلكترونية، ينبئ بشكل جديد للاقتصاد ربما يتجه إلى عولمته.

والشيء نفسه يقال عن الصحافة الإلكترونية، إذ غدا من النادر الآن أن توجد صحيفة تصدر مطبوعة دون أن يكون لها نسخة إلكترونيا، هذا إضافة إلى الصحف الإلكترونية التي لا تطبع. والصحافة هي أحد أكثر القطاعات استفادة من معرفية إنترنت، وسهولة الحصول على معلوماتها.

أما السياسة فهي أيضا من الممكن أن تتأثر بدور الشبكة العالمية، وليس من الغريب هنا أن نشير إلى أن الحملة الانتخابية الأمريكية تتم الآن عبر الفضاء التخيلي بشكل أكثر ضراوة مما هي في صفحات الجرائد. وغير ذلك، فالأنشطة السياسية، وسهولة وسرعة الحصول على تفاصيل الأحداث السياسية حول العالم ومتابعتها تعطي نمطا جديدا للممارسات السياسية. وثمة جانب مهم سياسيا هنا يكمن في نجاح إنترنت في إزالة الحواجز الرسمية والبروتوكولية بين المسئولين السياسيين (على اختلاف مواقعهم) والمواطنين.

وفيما يتعلق بالتعليم والتثقيف، فإضافة لكل ما ذكرنا، لا بد من التذكير بأهمية النمطية الجديدة للتعليم التي تتجه إنترنت لتشكيلها. ونحن هنا نتحدث عن آثار إيجابية، وعن دور تربوي واستكشافي ربما يجعل من المتعلم الفرد ثنائيا معلما/ متعلما بشكل أكثر فعالية.

ولعل من المهم أن نشير إلى بعض التأثيرات الاجتماعية والحياتية، فقد انتشر في العام الماضي ما يمكننا تسميته الحب الإلكتروني، حيث رأينا حالات عدة للتعارف والاتفاق على الزواج من خلال حوارات إنترنت، وبصورة ربما تضعنا أمام شكل جديد للعلاقات الإنسانية يعتمد على التفاهم والتفكير المشترك، أكثر مما يعتمد على الشكليات الحياتية.

ثم ماذا؟

وفي ظل ذلك كله، نستطيع القول إن الدور الحضاري لإنترنت موجود وفاعل، لكنه مرتبط عمليا بالاستفادة السلمية والإيجابية. وفي الشبكة العالمية، هنالك الكثير من الفرص الإيجابية التي تفتح ذراعيها داعية الناس للاستفادة منها والتعامل معها، وهو ما يطرح قضية عملية أخري هي انتشار إنترنت نفسها. والإجابة لا تكمن فقط في السماح بتقديم خدماتها، بل تتعداها إلى تثقيف الناس بأهميتها، واعتماد التسهيلات العملية اللازمة لتوسيع مدى انتشار الشبكة، بل وتعميم استخدامها ضمن المجالات الإيجابية المتاحة. ونحن باختصار أمام تجربة حضارية آخذة في تغيير العالم، وعلينا أن نختار إما اللحاق الواعي بالركب وتحقيق المصلحة، أو النكوص على أعقابنا.

ثم ماذا بعد هذا كله؟ هو المستقبل والله وحده يعلم كيف سيكون!

 

جهاد عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات