مطرقة!

مطرقة!

بعد حفلة طلاقي من (علي) قبل ما يزيد على ثلاث سنوات, وما صاحبها من تدخلات ونقاشات وعراك, وتهديد علي وصراخه:

(أنا الرجل.. الأمر بيدي, ولن أطلّق).

كرهت عالم الرجال. منيت نفسي بالعيش حرة, حدّثت روحي:

(لن أسمح لرجل بالركوب فوق رأسي ثانية, يملي عليّ أوامره, يتحكم بيومي وحياتي!).

طوال الشهرين الماضيين, ما عاد لأبي وأمي من موضوع سوى الخطيب الجديد سالم!

قال أبي مدافعاً ومادحاً الرجل:

(سالم مختلف, غير الزفت (علي)... رجل متزن وهادئ, توفيت عنه زوجته, ما أكملت سنة معه. ليس له عيال, ثم إن ماله كثير!).

تدخلت أمي بهيئة المعترضة موجهة كلامها لأبي:

(أهلاً وسهلاً بالرجل. لكن...).

ندّت منها نظرة سريعة نحوي, أكملت بعدها:

(لابدّ لبنتنا من أن ترى الرجل...).

حاولت أن ألزم هدوئي. تركتهما يتناقشان. أبي بسيجارته وبحة صوته التي أحب, وأمي بالتفاتاتها المكشوفة, بقيت بتصفحي لصفحات مجلة الأزياء, وكأني لست صاحبة الشأن. قال أبي:

(لقد أعطيت الرجل وعداً!).

كان يريد لي أن أسمع, توقفت عن القراءة, وضعت المجلة على الطاولة أمامي, وحين رفعت عينيّ له, خاطبني:

(إلى متى وأنت هكذا? لابدّ لك من الزواج!).

جعلتُ أفكر لبرهة, قلت له بعدها:

(سأقابله, وإذا أعجبني نتفاهم).

ظهر السرور على وجهيهما. نهضت واقفة. تركتهما قاصدة غرفتي.

*******

حين زارنا سالم, رفضتُ أن أحمل الصينية, أحني قامتي, أقدم الشاي له, قلت لأمي موضحة:

(لا أريده أن يتعرف عليّ في أول لقاء, كما لو أنني خادمة!).

جلست في غرفتي. تجاهلت رجاءات أمي المتكررة:

(انزلي اجلسي مع الرجل قليلا!).

ظلت تحثني متوسلة, تخبرني أن الرجل ملّ الانتظار, وأنه يوشك على المغادرة, وأن أبي محرج لا يدري ماذا يقول, وتلطف صوتها:

(أرجوك يا ابنتي).

تعمدت لبس بنطلوني الجينز الضيق, والقميص الأبيض بكميه القصيرين. وضعت لمسة مكياج خفيفة, وتركت شعري منفلتاً بجنونه:

(بسرعة يا ابنتي).

(حسناً, سأنتهي حالاً).

نزلت بكعب حذائي العالي, وهدوء خطواتي, دخلت إلى صالة الجلوس رافعة رأسي, رميت بسلامي خطفاً, دون أن أنظر صوبه, وجلست بعيدة, واضعة ساقاً فوق ساق... نظرة واحدة كانت كافية لأتأكد أنه هو. اطمأن قلبي... في منتصف أربعينياته. ليس بوسامة وحضور علي. لكن, يبدو هادئاً, وحسن الهندام!

كنت تلقطت أخباره من إحدى صديقاتي, عرفت منها سمعته في عمله ووضعه الأسري, راقبته عن بعد...

*******

(حادثة قديمة...).

قال, وأضاف والتأثر يغشى صوته:

(كنت طفلاً حين قُطع إصبعي!).

كان لقاؤنا الأول, مساء خرجنا معاً: سالم وأنا, وكان يقصّ عليّ قصته:

(كنت أزور مصنع أبي للنجارة, خطف المنشار الأكبر إصبعي, ولم ينتبه أحد إلا على صراخي وارتفاع نافورة الدم!).

شعرت أن الألم يملأ عينيه وحسّه, وكأنه يستحضر تلك اللحظة الصاعقة. قلت مهونة الأمر:

(ما حدث قد حدث وانتهى).

ظل شاخصاً ببصره وكأنه ينتظر مني مواساته بمصابه, أكملت وبعض الحب بصوتي:

(همتك ونشاطك بألف إصبع ويد!).

اكتفى ينظر إليَّ, هازّاً رأسه.

*******

في صباحنا الأول, استيقظت باكراً على عادتي. كان متدثّراً بهدأة النوم إلى جانبي, جعلت أتأمله بأنفاسه المنتظمة وغيابه, خفق قلبي لحظة لمحت كف يده اليمنى بـأربـعـة أصـابـع, خـالـيـة مـن الإبـهـام, جعلت أعاود تأملها!

انسللت من مكاني وخيط جزع خفي يلعب بصدري, خطوت على رءوس أناملي وفزعي, استدرت حول السرير, قرّبت وجهي من الكف, جعلت أتأكد من شكلها, ارتجافة باردة رشت ظهري بمائها, تخيّلت يده بأصابعه الأربعة تنزلق فوق ظهري, فاقشعر جسدي. (عليّ أن أنساها, إصبع واحدة لا تصنع رجلاً!).

رددت مع نفسي.

*******

أثناء غدائنا الأول, تناول سالم كأس الماء بيده اليسرى, خاطبني:

(ربما كان للماء طعم آخر... شربة ماء بيدي اليمنى).

اعتقدته يلمّح كي أسقيه بيدي, فتجاهلته وتلميحه. قلت بعد برهة:

(لا تكن حسّاساً, الماء ماء, باليمنى أو اليسرى!).

أكملنا الأكل وقد اندسّ الصمتُ بيننا.

*******

كنت أسرّح شعري, حين وقف خلفي, شعرت به يلامسني, جعل يطالعني في المرآة. ابتسمت له, لكن عينيه باحت فيما يشبه حسرة, أفلت:

(أتمنى لو أمشّط شعري بيدي اليمنى!).

(لا فرق كبيرا).

علّقت على جملته. شعرت بالضيق يحضر بي. أردت أن أصرخ به:

(كفى تشكّياً!).

رميت بالمشط تركت شعري...

*******

كان يقود السيارة, وكنت طربة أردد لحن الأغنية مع موسيقى شريط الكاسيت الجديد:

(عانيت الكثير قبل حصولي على إجازة القيادة).

قال وشكواه... التفتُ إليه, فأكمل:

(اليد اليمنى هي الأساس في التحكم بمقود السيارة, وناقل الحركة).

(سالم!).

قاطعته بحدّة. التفت إليّ مستغرباً, فقلت منهية النقاش:

(قيادتك جيدة, ثم إن قيادة أصحاب اليد اليمنى...).

شعرت بالضيق, حاولت أن أعود ثانية أسلم سمعي للموسيقى, لكن شيئاً انطفأ بها وبروحي.

*******

حين وصل دوره لدفع فاتورة الشراء, استل قلمه المذهب, وقّع على قسيمة الشراء. كنت أقف بجانبه, ولحظة خطونا مبتعدين, وصلني صوته:

(تعلمت الكتابة باليد اليسرى مجبراً, جميع أخوتي يكتبون باليد اليمنى).

اصطكت أسناني. تعمّدت أن أنظر إليه مظهرة حنقي. حدّثت نفسي:

(لن ننتهي من هذه القصة الزفت! لابدّ أن يحشر يده اليمنى في كل مناسبة!).

أكملت طريقي إلى السيارة صامتة, ما نطقت بكلمة.

*******

لا أعرف كيف نزل الخبر عليّ:

(أنت حامل يا مدام).

شعرت وكأنني أذوب في الهواء, أسرعت بفرحي, أحمل الخبر لسالم:

(قل مبروك).

قفز من جلسته:

(حامل?).

سألني, وأسرع يضمّني لصدره, قبل أن يستدرك:

(عليك أن ترتاحي تماماً, لا حركة ولا تعب بعد اليوم).

خطا للوراء, جعل ينظر إليّ وكأنه يراني للمرة الأولى. قرأت ودّاً صافياً أطلّ في عينيه. ما أحببت سالم كما اللحظة... انطلق صوته:

(أخيراً سيأتي ابني.... أكاد لا أصدق).

ابتعد بنظرته, ومن بعيد جاءني حسّه:

(سأحافظ عليه كما عيوني).

رفع يده يتأملها, وقبل أن ينطق...

هاضت معدتي, تقيّأت فرحتي, همّ يقول شيئاً, لكن صوتي سبقه:

(أرجوك! كفّ عن ذكر إصبعك المقطوعة).

دفعت بوجهه, تركته في جلسته, أدرت ظهري مبتعدة. جاءت إليّ كلمات أبي:

(توفيت عنه زوجته, ما أكملت سنة معه).

رنّ برأسي السؤال:

(ما الذي قتل زوجته?).

 

طالب الرفاعي