أرقام

أرقام

"المليارديرات" والنمو الرديء للعالم!

ماذا يفيد الثراء إذا لم يكن مصحوبا برفاهية الإنسان وسعادته؟

ولفترة طويلة كان الفكر الاقتصادي الحر يميل إلى القول بأن نقطة البدء في تنمية المجتمعات: رأسمالي تتجمع لديه الأموال، فيتحرك بحافز الربح.. وتتحد مصلحته ومصلحة المجتمع.. ولكن، ها هي ومن داخل المجتمعات الرأسمالية تخرج مفاهيم جديدة تنقض كل ذلك وتقول: "ليس كل ثراء خيرا، وليس كل تركز في الثروة مفضيا إلى استثمار، ثم إلى نمو سليم".

يظهر ذلك الفكر الجديد في رقم وتقرير شدا النظر، بل واستفزا الفكر خلال النصف الثاني من عام 1996 .

الرقم يقول إن هناك (358) مليارديرا في العالم، وإن أصول هؤلاء البليونيرات - أو المليارديرات - تعادل مجموع الدخول السنوية لبلدان تمثل نصف سكان العالم، أو بالتحديد (45%) من هؤلاء السكان.

الرقم يستفز الفكر.. فنحن نقارن ثروة (358) شخصا يمكن جمعهم في قاعة طعام واحدة.. بدخول ما يزيد على (2.5) مليار نسمة من سكان الكرة الأرضية.

وليس المهم، كم تبلغ ثروتهم فذلك نبأ صحفي مثير لا أكثر.. لكن الأكثر أهمية هو مغزى الرقم، والذي لا تذيعه هذه المرة صحيفة اقتصادية أو مركز بحثي.. لكن مصدره إحدى هيئات الأمم المتحدة، وبالتحديد: البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة.

عنوان التقرير: التنمية البشرية لعام 1996.

وكالعادة، كان محظورا نشره قبل الساعة الثانية بتوقيت جرينتش من يوم (17) يوليو (96) .. فلما أذيع أدهش العالم لما فيه من أرقام، وتوقف أمام ما يقدمه من منطق جديد في قضيتي النمو والتنمية.

هذه العناوين

والعناوين - أو الحقائق الأساسية - التي يحملها التقرير على قدر كبير من الإثارة.. فهناك - طبقا لما جاء فيه - (89) بلدا تتدهور اقتصاديا مقارنة بما كانت عليه قبل عشر سنوات وبما يؤدي إلى انشطار العالم إلى فئتين: معدمين وموسرين.. فالفجوة بين الأغنياء والفقراء تزداد اتساعا، سواء بين الأمم أو داخل البلد الواحد. وبما يجعل العالم، طبقا لكلمات التقرير "ينتقل من حالة اللامساواة إلى حالة اللاإنسانية"!

وتأتي بعض التفاصيل لتقول إن إجمالي الناتج القومي العالمي قد ارتفع خلال فترة (75 - 1985) بنسبة (40%).. لكن عدد الفقراء قد زاد خلال الفترة نفسها بنسبة (17%). حققت بلدان آسيوية مثل ماليزيا وكوريا والصين نسب نمو تفوق أي معدلات خلال قرني التصنيع في الغرب، ولكن وفي الوقت نفسه كان عقد الثمانينيات هو العقد الضائع لمئات الملايين من الناس في بلدان أخرى، وأصبح الناس أكثر فقرا مما كانوا عليه منذ ثلاثين عاما.. بل إن الفقر قد اقتحم بلدانا عريقة في الصناعة، وبلغت نسبة البطالة في العالم الصناعي (8.6%) عام 93 .. وهي النسبة التي ترتفع في بعض بلدانها إلى (23%) كما هو الحال في إسبانيا.

لا يتوقف التقرير عند مؤشر نسبة النمو، لكنه يتوقف أكثر عند متوسط الأعمار (التي تعكس الحالة الصحية)، وعند التعليم، خاصة التعليم الأساسي وتعليم الإناث.

من هذا المنطلق يرصد التقرير حقيقة أن النمو لا يقترن بالضرورة بتحسين أحوال البشر، فباكستان قد حققت في الفترة الأخيرة نموا اقتصاديا "تحسد عليه" إلا أن 61% من السكان يفتقرون إلى الخدمات الصحية والتعليم والتغذية.

كذلك فإن الأرجنتين تتمتع بواحد من أعلى الإيرادات في العالم النامي غير أن (20%) من سكان الأرياف فيها يعيشون في فقر، و (29%) منهم يفتقرون إلى المياه الصحية.. والأمثلة بعد ذلك كثيرة، فمتوسط الدخل السنوي للفرد في كل من أكوادور والمغرب يبلغ نحو ألف دولار. إلا أن الأولى تأتي في المرتبة (64) وفقا لدليل التنمية البشرية.. بينما تأتي المغرب في المرتبة (123)!

وتمتد الظاهرة إلى البلدان الأكثر تقدما، فبلدان منظمة التعاون والتنمية التي نعمت بمعدل مرتفع للنمو، ويبلغ متوسط الدخل فيها حوالي عشرين ألف دولار سنويا للفرد.. تضم مائة مليون شخص تحت خط الفقر، و (30) مليون عاطل، و (5) ملايين مواطن بلا سكن.

النمو الرديء

والوثيقة التي نحن بصددها تتناول خمسة أنواع مما نسميه "النمو الرديء"، وأوله ذلك الذي أسفر عن وجود (358) مليارديرا في عالم يزداد معظمة فقرا. إنه - وطبقا لكلمات الوثيقة - "النمو عديم الشفقة" الذي لا يستفيد منه غير الأغنياء، والذي يأتي في إطار شعار "العالمية" والتي تؤدي - طبقا للتقرير ذاته - إلى انقسام العالم إلى موسرين ومعدمين بين البلدان.. وداخل البلدان!.. ففي أمريكا اللاتينية - على سبيل المثال - زاد معدل الفقر من (23) إلى (28) بالمائة خلال خمس سنوات تمتد من (85 - 1990)، وذلك رغم الانتعاش الاقتصادي.. والسبب أن السياسة التعليمية قد فضلت الأثرياء، والإصلاح الزراعي قد تم إهماله. وأما النوع الثاني فيمكن أن يسمى "نمو بلا فرص عمل".. فالدخل يزيد، والبطالة أيضا. نما الناتج المحلي في غانا بنسبة (4.8) بالمائة بين عامي (86 - 1991) لكن العمالة انخفضت بنسبة (13%).

وهناك نوع ثالث من النمو الرديء، وهو "النمو الأخرس"، فالثروة تزيد، والقمع أيضا.. الديمقراطية غائبة، والمشاركة السياسية حلم لا يتحقق.. وذلك رغم أن ثلثي سكان العالم يعيشون - من الناحية الشكلية - في ظل أنظمة ديمقراطية.

أما النوع الرابع، فهو "نمو بلا جذور". نمو تضمحل فيه الهوية الثقافية.. فهناك حوالي عشرة آلاف ثقافة متميزة في العالم لكن الكثير منها معرض للتهميش أو الفناء. أي أن الاقتصاد ينمو، والبناء المادي يرتفع.. لكنه يسحق في طريقه اعترافه بالبشر، وهوياتهم الثقافية، والتي تكون زادا يمكن أن يفيد عملية النمو ذاتها.

و.. يأتي النوع الخامس من النمو الرديء "النمو بلا مستقبل"، إنه ذلك النمو الذي يأكل الأخضر واليابس. يستهلك الثروات الطبيعية. يحرق الغابات ويكسح المناجم.. ولا ينظر للمستقبل، أو لأجيال لم تولد بعد. إنه يبني الحاضر على حساب المستقبل، والاقتراحات بعد ذلك كثيرة حتى يكون النمو صحيحا، وحتى لا يستأثر بثروة العالم بضع مئات يوجهون التنمية وفق مصالحهم الخاصة.. والمفتاح لذلك: تدخل الدولة، تلك التي يمكن أن تزيد التعليم والتدريب وتعمل على خلق فرص العمل، وتلك التي تمثل المجتمع فلا تسمح بنمو منقطع الجذور، أو نمو بلا مستقبل.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات