أثر السياحة في اللغة العربية

أثر السياحة في اللغة العربية

السياحة تعني, خروج المرء من وطنه الأصليّ إلى مكانٍ مَا ابتغاءً لقضاء حاجةٍ خاصةٍ معيّنةٍ, وهذا الخروج عرضةً لكلِّ الاحتمالات والانعكاسات على حدٍّ سواء.

كانت أولى هذه الانعكاسات ظاهرةً في طبيعة المجتمع الذي انعكست عليه آثار التعارف الشعوبي, بتبادل الآراء والثقافات واللغات, ومعرفة الحاجات, وأنواع الإنتاج المحلّي, وإقامة المحطات على الطُّرُق, والمُدُن, وهذا ما أوجبته طبيعة السياحة الدينية التي بدأت منذ زمن موغلٍ في قلب التاريخ, يوم كانوا فيما قبل الجاهلية, وفي أثنائها يحجّون إلى البيت العتيق, مكّة المكّرمة, من كلّ القبائل, ومن كلّ حدبٍ وصوبٍ.

والسياحة الدينية هذه, هي التي كانت أدعى الأسباب لإقامة الأسواق التجارية التي عَرَفها العالم القديم, في الحجاز ونجد والخليج العربي, والعراق والشام, فأدّت هذه الأسواق إلى وجوب إقامة المحطات التي يستريح فيها التجّار وقوافلهم, ومن ثمَّ صارت عمائر ومدناً ومنها ما تحوّل إلى ممالك قائمة بذاتها, لها حدودها وسيادتها مثل: مَعين وسبأ, وحِميَر, والبتراء وتدمر, وبُصرى, وغيرها. وهذا العمران كان مقروناً بطرق مواصلات يرتاح إلى عبورها التجار والمستبضعون أو الحجّاج, ويأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم.

ومن البدهيِّ, أيضاً, أن تلعب اللغاتُ, بتعدُّدها, دوراً بارزاً في تنشيط الحركة السياحية في بلدٍ مّا, وقد وعى العرب أهميّة هذا الدَّور منذ بداية العمل السياحي, وهم مشهورون في هذا المَيدان منذ أمَدٍ بعيدٍ, إذ يحملون في ميراثهم الثقافيِّ, حضّاً على اكتساب اللغات والتعارف على الأمم والشعوب ولغاتهم, فجاء في القرآن الكريم قوله تعالى: يا أيّها الناسُ إنّا خَلَقناكم من ذكرٍ وأنثى, وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا .

وجاء في قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: مَن تعلَّمَ لغة قومِ أَمِنَ شرَّهم .

هذا, في العصور الإسلاميّة, أمّا فيما قبلُ, فقد عاشت اللغة العربية ردحاً طويلاً من الزمن, في بيئات منغلقةٍ جغرافياً, بحكم قيام أهلها في مواقع موغلةٍ, في قلب الصحراء, فكانت تصدُر عنهم جافّةً, قاسيةً, صلبةً مفخّمة الألفاظ والنَّبرات; فيها الكثير من ملامح تلك الحياة الصَّحراوية القاسية, المنعزلة. فمثَّلت بذلك كلَّ ما يختلج في صدر الإنسان الذي يعاني من حياته ما يعاني, ويغالِبَ دهرَه ما استطاع إلى مغالبته سبيلاً, فجاءَت لغتُه تعبيراً, حياً, صادقاً عنه; وقديماً قيل: (الإنسان ابن بيئته). ونتيجةً لظروف تلك الحياة, كانت القوّة ميزةً واضحةً في كلِّ التصرُّفاتِ والأعمال والألفاظ, لأنّ ذلك الإنسان- وتبعاً لتلك الظروف - كان سريع الاحتكام إلى السيف, ليترجم بيمينه ما ينطوي عليه صدرُه, فكان قويّاً, عنيداً في حياته, ومواقفه, وسَعيه, وحبِّه, وغَزَلِهِ, وفَخرِه, وحزنه, شامخاً شعاعاً من أشعة الشمس الواقفة بالّلهب فوق رمال الصحراء; تراه ضامراً نحيلاً, يباري الريح إذا ما عدا, ويسابق غزلان القفار, يعلو جوادَه للفخار ودرءِ العُدوان, ويصول ويجول, ولغته فيها من زمجَرَةِ السِّباع ما يُرعب, ولكنّه يحمل بين حناياه قلباً مليئاً بالودِّ, والحبِّ, والغَيرة, والنَّخوة والمروءةِ, والإخلاص, والتفاني. إنّه شجاعٌ حتّى الموت, وعذريٌّ حتّى الشُّهرة, وكريم حتّى الجوع. ينفرد بخصالٍ لا يعرفها إلاّ قرينُه في العروبة, لأنّه عربيٌّ, صَبورٌ كناقته, غشيم إذا حمي الوطيس.

ولغتُه, هي هي, في مواقفه الظاهرة, أو فيما يُكنّه الوجدان.

ذلك الكائن الاجتماعي, بما عليه من كبرياء وأنفة, ومغالبةٍ, وروحٍ طموحٍ للاستكشاف; وحب بالبقاء والمعرفة, والكسب, وجَدَ نفسه مدفوعاً إلى الخروج من عزلته البيئية إلى العالم المجاور, والأصقاع الأخرى, والأُفق المفتوح, والأرض الواسعة; فانطلق عابراً الصحراءَ, بكل ِّ ما يعتريه, تصحبُه لغته, لا تفارقُه أبداً, تتأثّر بما يتأثّر به, لأنها ترجمان حاله, فعاينَ عالماً آخر, وشاهدَ مشاهدَ أُخرى, فعاد إلى قومه كما عاد حمامُ نوح, يحمل إليهم مفتاح الحياة للانطلاق والاستكشاف, (ولا يكذبُ رائدٌ أهلَهُ), فأخبرهم بما حولهم من بشر وشئون وأوضاع, فتبعوه قوافل, وكان ما كان, وكانت الرحلات التجارية والدينية, والعلمية.

خصوصية اللغة

واللغة هي الوسيلة الأهم في كلّ التحرّكات, والمنطلقات, والغايات, والأهداف.

فواجهوا, أوّل أمرهم, أن لغتهم خاصّة بهم, لا تعبّر إلاّ عن واقعهم, وأنّ للآخرين لغةً خاصةً أيضاً, وهذا كان حالهم ودأبهم في مواجهة البيئات الأخرى والأقوام الآخرين. فتحسسوا مشكلتهم, وكبُرَ عليهم حجمُ معاناتهم, ولكن!

كيف السبيل إلى لغةٍ يعرفُ مصطلحاتها الجميع, ويلتقون عليها من دون الغضِّ بعين النقيضة من لغة أحد?! فتواضعوا على أسواقٍ عامةٍ, يحملون إليها تجاراتهم وآدابهم وسِيَرَهم القَبَليّة والذاتية, فعرفوا أسواقاً في جاهلّيتهم وأسواقاً في إسلامهم, ومن أشهر أسواقهم في الجاهلية وأهمّها أثراً في اللغة, سوق عكاظ, حيث تَرَقّى العربُ جميعاً, بلغاتهم ولهجاتهم, إلى لغة معبرّة, جامعةٍ, واحدةٍ; يلتقي حولها الجميع, ومن أيِّ القبائل العربية أتوا, يفهمون ويتفاهمون, (وأفادت قريش من سوق عكاظ فوائد أخرى غير الفوائد الاقتصادية والاجتماعية, فلقد كان لهذه السوق العظيمة, تأثير كبيرٌ في تهذيب اللغة العربية في قريش, فكانت ( قريش) لقرب هذه السوق منها أسبقَ القبائل لالتقاط كلّ معنى حسن, ولفظ جزلٍ, وعبارة بليغة, فنُسِبَ إليها التهذيب الأخير للغة, حتّى استأهَلَت الشَّرَفَ العظيم بنزول القرآن الكريم بلغتها, واعتُبِرَت لهجتُها أخلص لهجات العرب من التعقيد والتنافر.

ولقد تجاوزت تلك الأسواق حدودَ التجارة, إذ كانت ميداناً رحباً لكلِّ الأغراض والشئون الاجتماعية, فسوق عكاظ مثلاً: (كانت مسرحاً عاماً, يخطب فيها كلُّ خطيبٍ مُصقع, ومنهم كان قسُ بن ساعدة الإيادي... وكان كلُّ شريف, إنما يحضُر سوق بلده إلاّ سوق عكاظ, فإنهم كانوا يتوافدون إليها من كلِّ جهةٍ, فكانت تأتيها قريش, وهوازن, وبنو سليم, والأحابيش, وعقيل, والمصطلق, وطوائف من العرب, ومن كان له أسير يسعى في فِدائه, ومن كانت له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة).

أيام عكاظ

وقضايا عكاظ وأيامها, مشحونة بأخبار الحروب والتفاخر والشعر, ونحن لا نستطيع أن نغفل ما أفادته مكة من هذه السوق التي كان سكانها, المكّيون, من أكثر الناس ارتياداً للأسواق المشهورة, حتّى صارت مكة, سنين طويلة, معرضاً لأنفس البضائع وأغلاها, وهذا من أهمّ العوامل التي زادت من قيمة مكة, وزادت من ثرائها, وخصوصاً في أيّام قريش, التي كانت ترحل بتجارتها إلى بلاد فارس والشام واليمن, فيأتون من اليمن بالبُرد والمنسوجات اليمنية الفاخرة, ومن الشام بالأطعمة, ومن فارس بالشمع والسَّتر وغير ذلك, وكانوا يحملون معهم إلى تلك الأمصار لغتهم, وينقلون عن أهل تلك البقاع لغةً لم يعرفها العرب من قبل. إذن, فقد كان أولئك التجّار يعودون إلى أوطانهم ببضائع استبضعوها, ومشاهدات دفعتهم إلى محاكاتها في أثناء رحلاتهم, وألفاظٍ لغويةٍ ومصطلحاتٍ وأساليب, طبعَت العربية بطابع المرونة والحياة, فجاء على ألسنتهم ما ترقَّى من الألفاظ, وتأهّل لأن يدخل إلى حضرة اللغة الرسمية, فجاء القرآن الكريم على كثير من تلك الألفاظ الدّالة على الاكتساب اللغوي, والتعريب الناشط الذي مارسه أولئك التجّار والرحّالة, عفواً, ترويجاً لبضاعةٍ أو تعريفاً بأمر جديد.

وممّا جاء من تلك الألفاظ في الخطاب الإلهي من الألفاظ الفارسيّة: أباريق, وسجّيل, وإستبرق, ومن الروميّة: قسطاس, وصراط, وشيطان, وإبليس, ومن الحبشيّة: أرائك, وجِبت, ودرِّيِّ, وكِفلين. ومن السريانية:سرادق, ويّم, وطور, وربانيّون, ومن الزنجية: حَصَب, وسَريّ. ومن العبرانية: فوم, ومن التركية القديمة: غسّاق. ومن الهندية: مشكاة (الكوة التي لا تنفذ) ومن القبطيّة: هَيتَ لك. وليس هذا كلُّ ما ورد في القرآن الكريم من الكلام الأعجمي, وإنما فيه منه كثير, وقد تتبعه الإمام جلال الدين السيوطي فبلغَت مائة كلمة ونيفًا, ولا مجال هنا لذكرها. ولكن المهم في القول هنا, أن القرآن الكريم بمفاهيمه وقيَمه, أغنى فيما أغنى اللغة العربية, لأنه اشتمل على أهمِّ المميّزات اللغوية المشهورة بها قبائل عربية كبيرة وأساسيّة, تلك القبائل التي شاركت في قيام الأسواق والتطّور العربي, والنمّو الاقتصادي والاجتماعي, وهي كما أجمع الرواة: (قيس, وتميم, وأسد, والعجُز من هوازن, الذين يُقال لهم عليا هوازن, وهم خمس قبائل أو أربع, فيها: سعد ابن بكر, وجُشَمُ بن بكر, ونصر بن معاوية, وثقيف: وأبو عبيدة ( أحد العلماء الرواة) يحسب أفصحها: سعد بن بكر, وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش, وأنّي نشأت في بني سعد بن بكر - وكان مسترضعاً فيهم- وهم أيضاً الذين يقول فيهم أبو عمرو بن العلاء ( عالم راوٍ): أفصَحُ العرب: عليا هوازن, وسُفلى تميم). وما دامت قريش هي المثال لنا, فلقد كان وراء تحضّرها أسبابٌ جوهريّة, ترفعها إلى مستوى الصدارة في الحضارة, وفي اللغة, وهذه الأسباب تفرضها القبائل العربية التي كانت - في الجاهلية- تَفِدُ إلى مكّة, قاصدةَ الحجَّ والأسواق والمجامع الأخرى. ممّا حَمَلَ القرشيين على الاختلاط بهذه القبائل واقتباس أجزل الألفاظ وأفصح التعابير. وعلى مرور الزّمن تأصّلت الفصاحة المكتسبة من كلّ اللهجات, فَنَمَت فيهم مع نموّ المجتمع القرشي, فصارت بذلك, جامعةً لكلَ اللهجات, وقريبةً, في آنٍ واحدٍ, من أيِّ لهجةٍ منها, لأن بعض عناصر هذه اللهجة موجودة فيها, وبما أن اللغة تؤخذ اعتياداً كالصّبيّ العربيّ ( وغيره) يسمع أبويه وغيرهما, فهو يأخذ اللغة عنهم على مرِّ الأوقات, وتؤخذ تلقُّناً من ملقِّن, وتؤخذ سماعاً من الرواة).

لغة قريش

وبهذا اصطنع القرشيون لغتهم, واصطنع (العربُ لغةَ قريش, للتفنُّن في القول, والإبانة في التعبير, فدلَّ استصفاؤهم على أنها اختارت من كلام العرب أبيَنَه, وراعت أرشَقَه, واعتمدت أصفاه, فكان حقّاً ما ذهب إليه الباحثون, أنّ أهمَّ مَزيةٍ للعربية, حفَظَت لها شخصيَّتها بين أخواتها السّاميات, إنّما هي عزلتها عن الشعوب الأعجميّة, واكتفاؤها بقدرتها الذاتية على التعبير, وعلى التمثّل والتوليد, وعلى التخيُّر والانتقاء, في موطنها عينه, وفي بيئتها نفسها, وبين شقيقاتها اللهجات الفصحى. ولقد كانت لتلك العزلة نتائج حسنة). هذا إذا ما كانت هناك عزلةٌ حقيقيةٌ - كما يرى الدكتور صبحي الصالح - ولكنها كانت - كما نراها - أنموذجاً صالحاً للاقتباس في حالتي الإقامة والتجوال, وإغناء العربية بما يحتاج إليه أبناؤها من مفردات لوازمهم, وحاجاتهم المعيشية والتطوّريّة, كما كانت أنموذجاً مميّزاً من سائر اللغات العالمية والسّامية, بتكاملها مع إنسانها وتلازمها مع دقائق حياته وخصائص العربيّ.

تطوّر المفاهيم العربية

لقد بات من البديهيّ القول إنّ اللغة العربية هي واحدة من اللغات التي اتّسعت ونمت- وما زالت قادرة على الاتّساع والنموّ ومحاكاة الأمور - وأقامت لنا من تاريخها شاهداً حياً على طواعّيتها وصدقيّتها, في التعبير عن شئون العرب وشجونهم في إقامتهم وترحالهم, وعزلتهم واختلاطهم, وفي تسَوُّقهم وأسواقهم, وقد بدا هذا التعبير, بوضوح كبير, بعد الانقلاب العظيم الذي أصاب اللغة عَقِبَ ظهور الإسلام). فقد انقلبت إلى لغة عالمية تتكلّم بها شعوب كثيرة جداً, فقد نزح عرب الحضر والبادية من أطراف الجزيرة تحت قيادة أبطال المسلمين إلى جميع نواحي المعمورة, وفتحوا الممالك والأمصار باسم الدين الحنيف, في زمن وجيز, وكانت لغتهم, تسايرهم خطوةً خطوةً, في جميع البلاد التي انتشروا فيها, وبسطوا سلطانهم عليها). ونتيجة لهذا الانتشار, أدركوا أنّهم لا يحملون سوى عقيدة وسلاح, وهم في خضمِّ حضارات وإنجازات علمّية, عالميّة: فأيقنوا أنّهم بمسيس الحاجة إلى هذه المعطيات التي تساعدهم على السلطان وتطوير العمران والصناعات, وقضاء الحاجات الاجتماعية المستجدّة, فلقد اكتسبوا اللغة من بيئتهم, وطوّروها بنتاج عصرهم, لا كما كانت تُنطق في عصور سبقت, ولا كما ينبغي أن تكون, وفق نموذج مثاليّ, لعصرٍ ذهبيٍّ ما. فكانت العربُ في (جاهليتها على إرثٍ من إرثِ آبائهم, وفي لغاتهم وآدابهم ونسائهم, وفرائضهم, فلّما جاء الله, جلّ ثناؤه- بالإسلام, حالت أحوالٌ, ونُسخت دياناتٌ, وأُبطِلَت أمور, ونُقِلَت من العربية ألفاظ من موضعٍ إلى موضعٍ آخر, بزيادات زيدت, وشرائع شُرِّعت, وشرائط شُرِطَت, فعفَّى الآخرُ الأوّلَ.

وكان ممّا عفّاه الإسلام, وقد جاء فيه: ذكر المؤمن والمسلم, والكافر, والمنافق, وأنّ العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان, والإيمان هو التصديق. ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافاً بها سُميّ المؤمن بالإطلاق مؤمناً, وكذلك الإسلام والمسلم, وإنّما عَرَفَت منه إسلام الشيء. ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء. وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلاّ الغطاء والستر.) ناهيك بالمنافق والفِسق والركوع والسجود وغيرها. وبهذه الأمثلة القليلة, نجد أنّ التطوّر عندما يطرأ, لا يكون جزئياً في شيءٍ من دون الآخر, فهو يعمّ الإنسان أولاً, ومن ثمَّ, يحكم كلَّ تصرُّفاته بما في ذلك الأخلاق والمواصفات. كذلك, تراه يزحف إلى اللغة زحفاً, لأنّ التطوّر في اللغة يعود إلى طبيعتها الاجتماعية, إذ هو سمة من سمات الظواهر الاجتماعية المختلفة, فهي في اندفاعٍ مستمرٍّ لا يَدَ لأحد على إيقافه, ووضع القيود والمعايير في طريقه, كما أنّه لا قدرة لأحد على مخالفته أو الخروج على مقتضى التوافق عليه, وبخاصّةٍ بعد ما بات العربيُّ على احتكاكٍ مؤثرٍ مع محيطهِ, وكذلك مع البيئات البعيدة عنه, نتيجة الرّحلات, ومن ثمَّ الفتوحات الإسلامية والاختلاط الشعوبي الوثيق. واللغة, في كلِّ ذلك, تتأثّر أيُّما تأثّرٍ بحضارة الأمّة, ونُظمِها وتقاليدها, وعقائدها واتجاهاتها العقلية, ودرجة ثقافتها, ونظرتها إلى الحياة, وأحوال بيئتها الجغرافية, وشئونها الاجتماعية العامّة, وما إلى ذلك, وكلَّ تطوّرٍ يحدثُ في ناحيةٍ من هذه النواحي, يتردّدُ صداه في أداة التعبير. ولذلك تُعتبرُ اللغات أصدق سجلٍّ لتاريخ الشعوب, وإلى مثل هذا أشار ابن رشيق القيرواني حين قال: (قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد, فيحسُن في وقتٍ ما لا يحسُنُ في آخر, ويُستحسن في بلدٍ ما لا يستحسنُ عند أهل غيره. ونجد الشعراءَ الحذّاق تقابل كلّ زمانٍ, بما استجدَّ فيه وكثُر استعماله عند أهله, بعد الاّ تخرج من حسن الاستواء وحدّ الاعتدال وجودة الصّنعةِ). والقيراونيُّ عندما يذكر الشعراء, إنّما يعني النخبة الواعية التي تجمع بين اللغة والأدب في آنٍ واحدٍ, أَضف إلى هذا أن الشاعر عندما يلتفت بشعره إلى جديد, مستحدث, يكون هذا الجديد, حتماً قد بلغ غايته من التعميم في المجتمع. فبالوقوف إذن, على المراحل التي اجتازتها لغةٌ ما, وعلى ضوءِ خصائصِها في كلِّ مرحلةٍ منها, يمكن استخلاص الأدوار التي مرّ بها أهلُها في مختلف مظاهر حياتهم, فكلّما اتّسعت حضارة الأمّة, وكثُرَت حاجاتها ومرافق حياتها, ورقي تفكيرها, وتهذّبت اتجاهاتها النفسيّة, ونهضت بلغتها, وسَمَت أساليبها, وتعدَّدَت فيها فنون القول, ودقَّت معاني مفرداتها القديمة, ودَخَلَت فيها مفردات أخرى عن طريق الوضع والاشتقاق والاقتباس والنّحت والقلب, والإبدال, والتعرّيب والدخيل والمولَّد, للتعبير عن المسميّات والأفكار الجديدة, تكون قد تكاملت لديها وسائل النموِّ والمدنية والتطوّر. واللغة انعكاسٌ طبيعيٌ لما هي عليه حال القوم, لأنّها أداة الحاضر, وصورة التاريخ, ومنها تقتبَسُ الألوان الحضارية والاجتماعية الدّالة على مجاري الأمور ومصائر الأقوام. والعربية ليست بدعاً من اللغات, وإنّما هي أصدقها شاهداً على هذا الانعكاس والتأثُّر. (فقد كان لانتقال العرب من همجية الجاهلية إلى حضارة الإسلام ومن النِّطاق العربيُّ الضيّقُ الذي امتازت به مدنيّتهم في عصر بني أميّة إلى الأُفق العالمي الواسع الذي تحوّلوا إليه في عصر بني العبّاس, أجلُّ أثرٍ في نهضة لغتهم ورقيِّ أساليبها واتّساعها لمختلف فنون الآداب وشتّى مسائل العلوم, وانتقال الأمّة من البداوة إلى الحضارة, يهذّبُ لغتها, ويسمو بأساليبها, ويوسِّعُ نطاقها, ويزيل ما عسى أن يكون بها من خشونةٍ, ويكسِبُها مرونةً في التعبير والدلالة).

 

محمد فريد 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات