التاريخ وماوراء التاريخ

التاريخ وماوراء التاريخ

يقولون في المثل الشعبي (حب واحكي واكره واحكي), في إشارة إلى أثر هوى النفس ومزاجها في طريقة نقل خبر ما, أو حادثة معينة, فهل ينسحب هذا القول على المرويات التاريخية منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا?

عندما استخدم المؤرخ اليوناني المعروف هيرودوت (484-425ق.م), كلمة (هستوري) لأول مرة, وجعلها عنوانًا لكتابه, أحدث هذا العنوان ثورة في مجال الكتابة والتأليف التاريخي, ذلك أن هذه الكلمة, مأخوذة من الأصل اليوناني (هستوريا), ومعناها (البحث والمشاهدة والتقصي). ويبدو أن هيرودوت استخدم هذا المصطلح, كرد فعل على من سبقه من المؤرخين الذين كانت كتاباتهم تقتصر على القصص, التي تسعى لمتعة الأذن على حساب الدقة والأمانة, ودعا إلى الكشف عن الحقيقة من بين تلك القصص, وما يتبع ذلك من معان ودروس. لذلك عد هيرودوت, منذ ذلك الوقت, إمامًا للتأريخ أو (أبا التأريخ), كما يوصف أحيانًا, فالاهتمام بأحداث الماضي, وبمخلفات الإنسان وآثاره, نزعة إنسانية عرفتها الحضارات القديمة,

منهج التاريخ

يمكننا القول إن المنهج التاريخي بدأ على يد اليونان, ولو بصورته البسيطة, ولكنها كانت بدايات موفقة, ساهمت في تحرير العقل الإنساني من الخرافة, وصاروا يعللون الظواهر بأسباب منطقية معقولة, واعتقدوا أن التاريخ غير خاضع لأوامر تفوق الطبيعة, ويمكن للإنسان بذلك أن يتفحّص أحداثه, ويناقش سر حدوثها دون اللجوء إلى الغيبيات, فعندما تنبأ طاليس الملطي بكسوف الشمس سنة 585 ق.م, حفز اليونانيين نحو البحث والتفكير العلمي عندما بانت صحة هذا التنبؤ, وهاجم هكتيوس الملطي الأساطير اليونانية وعدها بمنزلة الخرافة, وذلك في حوالي منتصف القرن السادس قبل الميلاد, وقد مهّدت هذه المقدمات وغيرها الطريق أمام هيرودوت, سواء من حيث المنهج أو من حيث سعة الاهتمام.

عرف عن هيرودوت خبرته الواسعة بطبائع الشعوب, نتيجة أسفاره الكثيرة, وكان يتمتع بروح علمية وحسّ فني, ساعده على عرض معلوماته بطريقة شائقة, وأسلوب أدبي سلس, وقد اهتم كثيرًا بالتأكيد على دور الأشخاص في صنع التاريخ, متأثرًا بالشاعر اليوناني (هوميروس), الذي كان يمجّد البطولة في شعره, فيقول هيرودوت إنه يدوّن التاريخ (لكي لا تطمس أعمال الرجال, وتبقى المآثر الكبرى والانجازات الباهرة بلا تمجيد ولا إعجاب سواء تلك التي كانت لليونانيين أو للبرابرة).

ومن مؤرخي اليونان البارزين ثوسيديدس (456-396ق.م) صاحب النظرية المشهورة عن دورة التاريخ, أي (أن التاريخ يعيد نفسه), وكان ثوسيديدس أكثر دقة وموضوعية وعلمية من هيرودوت, فقد فصل في تاريخه الأساطير والملاحم والقوى الميتافيزيقية عن التاريخ, وقدم للتاريخ فائدة كبيرة عندما أكّد على روح النقد للروايات, ولكنه لم يستعمل كلمة History. ويحتل المؤرخ اليوناني بوليبوس (198-117ق.م) مكانة مهمة في المنهجية اليونانية, فقد كان يؤمن بأن التاريخ هو خير وسيلة لتعليم الفلسفة, من خلال دراسة العبر والتجارب, فالإنسان يتعلم من أخطاء غيره, وأعتقد أن تزويق الكلام وتنسيقه واعتماد الأساطير لا يخدم الهدف, الذي يدرس التاريخ من أجله, وطالب أن يكون التاريخ سليم النتائج, خاليًا من الغش لكي يؤدي غرضه.

التاريخ عند العرب

لم يتفق على تحديد أصل لفظة تاريخ في اللغة العربية, وقيل في ذلك آراء واجتهادات متباينة. من جانب آخر, فإن كلمة تاريخ لها في اللغة العربية معان عدة, فهي تعني تحديد زمن الحادثة باليوم والشهر والسنة, كتاريخ الميلاد, وتاريخ الاستقلال, كما تعني سير الزمن والأحداث أي التطور التاريخي, كقولنا تاريخ الكويت وتاريخ فرنسا, ولها معنى ثالث, فهي تطلق على عملية التدوين التاريخي أو التأريخ, وتطلق كذلك على علم التاريخ والمعرفة به, وكتب التاريخ وما فيها, وأخيرًا, فهي تعني تاريخ الرجال أو سير الرجال. إلا أن أكثر المعاني إشكالاً هو صعوبة الفصل بين التاريخ, بمعنى الزمن الماضي, والتاريخ, بمعنى تدوين أحداث الماضي, فاقترح البعض حلاً لهذا الإشكال, بأن كلمة تاريخ (دون همزة), هو الزمن الماضي, والتأريخ (بالهمزة) هو تدوين أو توريخ أحداث الماضي.

والعرب قبل الإسلام, كان لهم نتاجهم التاريخي أيضًا, وكل جماعة منهم كان لها - على طريقتها وبمقدار مستواها الحضاري - تاريخها الخاص, بعضه مدوّن وبعضه منقوش وبعضه شفهي, وهو تراث واسع من الأخبار والأحداث العديدة والمتفاوتة في الأهمية, وكذلك متفاوتة في درجة الصحة والصدق.

فعرب اليمن في الجنوب, كان لهم على مخلفاتهم الأثرية من معابد وقلاع وسدود, نقوشهم بالخط المسند, وكان لدى عرب الحيرة في العراق كتب تحوي أخبارهم وأنسابهم, أشار إليها الطبري وابن هشام, كما كانت لهم نقوش, حاول بعض المؤرخين قراءتها, أمثال ابن الكلبي لاستخلاص مادة تاريخية, منها, ولدى العرب في الشام, سواء في تدمر أو البتراء نقوشهم التسجيلية المعروفة. وفيما عدا ذلك, لم يعرف عن العرب الغساسنة أي نشاط في مجال التسجيل أو التدوين التاريخي.

أما عرب الحجاز فلهم خصوصيتهم في هذا الميدان, فقد كان لهم تراثهم الثقافي والتاريخي ولكنه لم يكن مدونًا, بل كانت تتناقله الأجيال مشافهة, وقد تمثل في صورتين هما: الأنساب, وأيام العرب.

فالأنساب هي سلاسل أسماء دعت إليها الحاجة الاجتماعية للتعارف أو للتمايز, وحول هذه السلاسل النَسبَيّة كانت تنسج القصص التاريخية من بطولات ومواقف في الكرم أو الشجاعة أو الإباء. لقد مثلت الأنساب جوهر الفكرة التاريخية عند العرب, باعتبارها شكلاً من أشكال التعبير التاريخي, إلا أن تلك المعلومات النَسَبيّة قبل الإسلام بقيت شفهية لمدة طويلة حتى بعد ظهور الإسلام, لذلك أثير الكثير من الشكوك حول دقتها وصدق تسجيلها. أما الصورة الثانية فقد جسدتها قصص أيام العرب, وهي روايات جماعية, بدوية المنشأ, تحكي قصص النزاعات والحروب القبلية, وتضم ذكريات التاريخ البدوي بطريقة مسلية ومثيرة, ولكنها مقطوعة الصلة بالزمن. وعلى الرغم من أن هذه القصص ذات جذور تاريخية, فإن صلتها بالتأريخ بمعناه الحقيقي صلة بعيدة.

من دون شك فإن قصص أيام العرب تحمل الكثير من الحقائق التاريخية, ولكنه في الوقت نفسه جرى الكثير من التحوير والزيادة على أشكالها وصيغها الأولى - كما هو حال الأنساب - وذلك بسبب تناقلها شفاهة وتأخر تسجيلها بعد ظهور الإسلام لأكثر من قرن ونصف القرن من الزمان.

لقد أصاب هذه القصص, نتيجة لذلك, اضطراب تاريخي, فاختلطت الأحداث والأسماء بعضها مع بعض, حتى في أكثر الأحداث شهرة كيوم ذي قار - على سبيل المثال - فقد ذكرت أغلب المصادر أن النعمان بن المنذر (ملك الحيرة), قبل أن يغدر به الملك الفارسي ويسجنه ثم يقتله, عندما دعاه لزيارته, كان قد استودع سلاحه وأولاده عند هاني بن مسعود الشيباني (زعيم بني شيبان) آنذاك, بينما يرى آخرون أن هاني بن مسعود هذا لم يدرك هذه المرحلة التاريخية, وإنما حفيده (هاني بن قبيصة بن هاني بن مسعود) هو الذي كان زعيمًا لبني شيبان في هذه الحقبة. من جانب آخر تعرضت هذه القصص إلى انزلاق زمني, أي انتقال الحدث من زمن لآخر, فلا يوجد تاريخ محدد أو نهائي متفق عليه لأغلب أحداث تلك الحقبة, فضلاً عما انتهت إليه تلك القصص من تضخيم ومبالغة, فمع تباعد الزمن, وانتقالها شفاهًا من جيل إلى جيل, كبرت مع الأيام صورها وأحداثها, فصار البطل فيها خارقًا في بطولته وقدراته التي فاقت قدرات أقرانه من الناس العاديين, وأصبح العاشق هائمًا على وجهه في البوادي والقفار, والحبيبة الجميلة غدت خارقة في جمالها, كأنها هبطت من كوكب آخر, وعن تأصل روح الكرم عند العربي آنذاك راح يذبح أبناءه لضيوفه بدلاً من ناقته... وهكذا. كل ذلك من أجل أن تبدو هذه القصص أكثر إثارة ومتعة وأكثر شدًا للسامعين.

الإسلام والتاريخ

على الرغم من أن كلمة تاريخ لم ترد لفظًا في القرآن الكريم, فإن الإسلام بطبيعته دين تاريخي الروح, يحمل في ذاته فكرة تاريخية عميقة, والعقيدة الإسلامية لا تعد نفسها جديدة, ولكنها عريقة الجذور في التاريخ, فهي عودة إلى الدين الأصل, إنها {...ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل} (الحج 78), وما الحنيفية واليهودية والمسيحية والإسلام إلا دين واحد متصل الحلقات. وقد قدم القرآن الكريم مادة تاريخية مهمة, وإن كانت مجملة أو عامة وتكتفي بالإشارة أو التلميح, تسمى أحسن القصص, وكان الهدف منها الموعظة والعبرة, إلا أن الرغبة لمعرفة تفاصيل ما أجمله القرآن من تلك القصص فتحت بابًا من أبواب المعرفة الدينية دخل منها التأريخ كوسيلة شرعية لعمليات التفسير القرآني, وبذلك منح القرآن الكريم نظرة جديدة إلى الماضي عدت كأساس فكري للعقيدة الإسلامية. لذلك ليس بمستغرب أن تكون الأمة العربية بعد الإسلام من أكثر الأمم إنتاجًا للأدب التاريخي.

التدوين التاريخي

لقد أفاد التدوين التاريخي عند العرب المسلمين (في القرن الثاني للهجرة) من علوم الحديث, لذلك كانت منهجية بعض المؤرخين الرواد لا تختلف عن منهجية رجال الحديث, فهذا محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) أشهر مؤرخي العرب اعتمد الأسانيد في رواياته لتوثيقها, كما توثق الأحاديث النبوية الشريفة. واعتمد هذا المنهج - بطريقة أو بأخرى - عدد غير قليل من المؤرخين الأوائل.

وفضلاً عن الأثر الواضح لكل من القرآن والسنة في تطور الكتابة التاريخية عند العرب المسلمين, دخل عنصر ثالث وسّعَ من دائرة الاهتمام بالتاريخ عندهم ومنحه أبعادًا جديدة, ذلك هو ظهور الأحزاب السياسية والفرق والمدارس الفكرية, فقد درجت كل فرقة على توظيف التاريخ لمصلحة قناعتها ومنهجها الفكري, وسعت - بقدر ما تستطيع - إلى إعادة صياغة أحداثه من جديد, حتى صرنا إزاء أكثر من قراءة للتاريخ, خاصة فيما يتعلق بتاريخ العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام, وإذا ما علمنا أن التدوين التاريخي عند المسلمين لم يبدأ إلا بعد منتصف القرن الثاني للهجرة, وأن أحداث تلك الحقبة (قبل الإسلام وصدر الإسلام) قد جرى تناقلها شفاهًا على ألسن الناس والرواة عبر الأجيال لأكثر من قرن ونصف القرن من الزمان, حتى صار من الصعب إسنادها إلى مصدر فردي أو جماعي بعينه, فضلا عن غلبة الطابع الذوقي على صياغتها مما يضفي على أسلوب سردها موقفًا وجدانيًا عادة ما يكون منحازًا, لذلك وقع الكثير من التأويل والحذف أو الإضافة في مجريات وتفاصيل بعض أحداثها, فتباينت الروايات تبعًا لتباين أهواء الرواة والمؤرخين وانتماءاتهم الحزبية والمذهبية, ومع تقادم الأيام والسنين وشيوع تلك المادة التاريخية المدونة وانتشارها في البلدان الإسلامية, اقتنعت كل فئة بما تحت يدها من نصوص ووقائع وأحداث, معتقدة بأنها هي وحدها التي تمسك بناصية التاريخ الصحيح والنهائي, ومتهمة سواها بالتمسك بتاريخ محرف أو مزور.

أوهام المؤرخين

لقد تنبه فلاسفة التاريخ منذ زمن بعيد, وفي مقدمتهم ابن خلدون في العالم الإسلامي, وفيكو في الغرب, إلى تلك الظواهر في تدوين التاريخ, فسماها ابن خلدون (مغالط المؤرخين) بينما أطلق عليها فيكو اسم (أوهام المؤرخين).

فيشير ابن خلدون إلى تحيز بعض المؤرخين في كتاباتهم التاريخية, إلى فئة دون أخرى لأسباب ذاتية أو حزبية ضيقة, قائلا: (إن النفس إذا كانت على حال الاعتدال أو الحياد في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر, حتى تتبين صدقه من كذبه. وإذا خامرها تشيع لرأي قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة, دون تمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله). وفضلاً عن هذا الوهم الذي سماه (التشيع للآراء والمذاهب), شخّص ابن خلدون أوهامًا أخرى وقع فيها المؤرخون بقصد أو دون قصد, كالثقة المطلقة بالناقلين (الرواة), والذهول عن المقاصد, ووهم المبالغة, وإخفاء الحقيقة, خوفًا أو تقربًا لذوي الجاه والسلطان وغير ذلك العديد من الأوهام.

إن إشكالية الصدق, (الذي هو صنو الحقيقة) والكذب (الذي هو رديف التخيل) في التاريخ, قضية قديمة, قدم الوعي بصناعة التاريخ, وقد قدم لها العرب قديمًا حلولاً أرضت - إلى حد ما - مؤسسة التاريخ عندهم آنذاك, وقد يطول الحديث كثيرًا لو طرقنا هذا الباب بالأمثلة والشواهد, فهناك الآلاف من الروايات الموضوعة, والأحداث المفبركة لخدمة أغراض قد تكون قريبة, أو أهداف مرسومة على مدى بعيد, وقد تنطلي تلك الأحداث المصطنعة, أو الأوهام المدسوسة بين جملة من الحقائق, بيسر وسهولة على القارئ العادي غير المختص, فيصدّق بها, وربما يتحمس لها ويدافع عنها دون وعي بحقيقتها. ومن اللافت حقًا, أن نجد أن الأحداث المصطنعة والمفبركة, تكون أشد تأثيرًا, وأقوى أثرًا, في مشاعر الناس وعواطفهم, من حقائق التاريخ ومجريات أحداثه الفعلية.

 

عبدالحكيم الكعبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات