خليل حاوي.. تعددت الأسباب والانتحار واحد (شاعر العدد)

خرج خليل حاوي ظهيرة يوم السادس من يونيو لعام 1982 بسلاحه الناري الشخصي إلى شرفة منزله في العاصمة اللبنانية وأطل على الشارع ليتأكد من وجود دبابات إسرائيلية تسير في شوارع بيروت بصلفها الصهيوني المنتصر. تأكد فعلا من الخبر الذي سمعه من الإذاعات قبل قليل، أخرج سلاحه في تلك اللحظة ووجه الفوهة إلى رأسه تماما وضغط على الزناد... ومات.

 لماذا انتحر حاوي بهذه الطريقة المأساوية؟ صحيح أنه ككثيرين لم يتحمل رؤية ذلك المشهد المهين لعروبته وقوميته وكل المبادئ التي آمن بها وتربى عليها وعاش من أجلها، لكن هذا كله وحده لم يكن ليدفعه إلى الانتحار في تلك اللحظة، وإلا للجأ لذلك الحل الدموي معظم اللبنانيين وربما العرب في ذلك الوقت. فقد عاشوا كلهم تفاصيل ذلك الاجتياح الإسرائيلي المتحالف مع الخيانات المحلية في لبنان، لتقع بيروت في قبضة ذلك التحالف المحتل. حاوي وحده، ربما، من اختار أن ينهي حياته بعد أن أغمض عينيه على ذلك المشهد القاسي، ويبدو هناك إذن أسباب أخرى جعلت من حياة هذا الشاعر رخيصة الغريب، كمعظم الشعراء القانتين في محاريب الغربة النفسية، إلى حد أن ينهيها بطلقة واحدة، وهي أسباب تكاثر الحديث عنها بعد رحيله من قبل المقربين منه وغيرهم أيضا.

لقد ذكرت لي خطيبته السابقة القاصة العراقية ديزي الأميري - على سبيل المثال - بعض المعلومات عن مرضه بالصرع، كما أشار بعض أقربائه

إلى ورم غريب سكن دماغه واستعصى على محاولات الجراحين لإزالته، وأن ذلك المرض يتسبب في نوبات نفسية تقترب منه إلى الاكتئاب وتدخله في عوالم نفسية لم يكن يستطيع السيطرة على تداعياتها بشكل دقيق، على الرغم من حرصه الكبير على ذلك، وخاصة أنه بعيد عنها لم يكن ليسمح لأحد بالحديث عن مثل هذه الأمور التي يرى أنها لا تعني سواه.

كان خليل حاوي قد اقترب من الموت قبل تحققه الأخير مرتين في محاولتين انتحاريتين أيضا، ولكنهما كانتا تفشلان في اللحظات الأخيرة من دون أن تموت رغبته الأكيدة كما يبدو في إنهاء حياته بنفسه.. وهو ما تحقق له في ذلك اليوم البيروتي الحزين، إذ رحل الشاعر وانتهكت المدينة وخفت صوت الشعر مقابل صوت السلاح المنتشر، وذهب ماء القصيدة هدرا في محيط الدموع العربية اليائسة.

كان حاوي قد اقترب من نهاياته الشعرية في أيام حياته الأخيرة كما يبدو، فقد استعصى عليه الشعر أكثر من مرة، وتأبت القصيدة على معظم محاولات استدراجه لها، وانفض من حوله المريدون من الشباب ممن لم يعودوا شبابا فقد كبروا عليه وتجاوزوه وصار الكثير منهم ينظر إلى أسلوبه في الشعر على أنه أسلوب في طريقه للنهاية، بعد أن عجز عن تجديد ذاته، وخاصة أنه أثقل نفسه بالإيقاع إلى الدرجة التي لم تعد أجيال القصيدة العربية الجديدة تستسيغه.

هل انتحر خليل حاوي احتجاجا على اجتياح إسرائيل لبيروت؟ أم انتحر في لحظة يأس من حياته البائسة بعد فشل قصة حبه الشهيرة لديزي الأمير وفشله في تكوين أسرة؟ هو الكائن الصامت في عالم الصخب، أم أنه أراد اللحاق بقصيدته الهاربة منه بعد أن تركته يتخبط في محاولاته الشعرية التي لم تعد تستجلب إعجابا كما اعتقد؟ يبدو أن هذا كله تكالب عليه فاستجاب لنوبة من نوبات الصرع وانتصر في النهاية ذلك الورم الساكن في الدماغ ليهيمن على عوالم الشاعر كلها.. فكانت تلك النهاية القاسية.

ولد خليل حاوي في منطقة الشوير اللبنانية في العام 1919م, ودرس في مدارس المنطقة حتى سن الثانية عشرة حيث ترك الدراسة بعد أن مرض والده وعمل في مهنة البناء ورصف الطرق. لكنه كان شغوفا بالقراءة والدرس، فأقبل عليهما يعلم نفسه بنفسه حتى أحس بجذوة الشعر تلتهب بين جوانحه فظهرت قصائده الأولى بكل الأشكال التي أجاد التعامل معها كالقصيدة العمودية والتفعيلة بالفصحى وبالدارجة اللبنانية.

لم يكتف حاوي بذلك التعليم الذاتي، فما إن سنحت له الفرصة حتى عاد للدراسة المنتظمة بالإضافة إلى عمله، واستمر في ذلك إلى أن تخرج في الجامعة الأمريكية في بيروت بتفوق مكَّنه من الحصول على منحة للالتحاق بجامعة كامبريدج البريطانية; فنال منها شهادة الدكتوراه. وعاد إلى لبنان ليعمل أستاذًا في الجامعة التي تخرج فيها، وهكذا بقي يعمل فيها أستاذا للأدب العربي إلى أن رحل.

وفي كل ما أنتج خليل حاوي من شعر بقي مخلصا لمبادئه القومية التي تكونت على هامش انضمامه عضوا في الحزب القومي الاجتماعي السوري، وكانت قصائده تعبر عن توجهاته الفكرية والإنسانية بوضوح شديد يقترب منها أحيانا إلى المباشرة ويوقعها في شرك الافتعال. لكن ثقافته العالية وسعيه في البحث عن عوالم ساكنة في تضاريس الفلسفة ساعداه على تكوين شعرية تجنح إلى إعلاء الروح على حساب المادة، وإلى الاقتراب من رسم العوالم الشفافة من دون أن يتحقق له ذلك بشكل واضح كما يبدو، في كل ما ترك وراءه من كتب شعرية ونثرية وبحثية ومن أهمها: نهر الرماد، الناي والريح، بيادر الجوع، الرعد الجريح، ومن جحيم الكوميديا.