العدل والحرية... علاقة تضامن

العدل والحرية... علاقة تضامن

إلى كل المطالبين بالإصلاح والتغيير في العالم العربي. تجربة (تضامن) البولندية, التي غيّرت وجه الشيوعية في أوربا تعطينا الدرس.

حينما توفي بابا الكاثوليك يوحنا بولس الثاني في مارس من عام 2005م, كان أبرز ما ذكر من مآثره وإنجازاته, أنه قد أسهم إسهامًا ظاهرًا, في إسقاط النظام الشيوعي في شرق أوربا, والذي انتهى بحل ما كان يعرف باسم الاتحاد السوفييتي, زعيم ذلك النظام, وذلك من خلال احتضان البابا الراحل لنقابة (تضامن) العمالية, التي كان يقودها عامل الكهرباء (ليخ فاونسا). ولقد كانت أساليب نضال تلك النقابة, يغلب عليها السلم والرقة, بل الأناقة أيضًا! فقد كانت تعتمد على المسيرات, التي تحمل الأزهار والشموع, وشعار النقابة المكتوب بصيغة محددة, وهي نقطة (تضامن) باللغة البولندية, وذلك في أحجام متفاوتة ما بين (الدبوس), الذي يعلق على صدر عضو النقابة, أو (المتضامن) معها, إلى اللافتات الضخمة, التي تعلق على الأبنية أو في الشوارع. وقد تكتب أحيانًا بحروف كبيرة على الأرض. ولقد تعرفت أثناء رحلة لي إلى العاصمة البريطانية في عام 1981, بعدد من الشباب البولنديين, كانوا يعملون ويقيمون في الفندق ذاته, الذي كنت أنزل به, كانوا ذكورًا وإناثًا, يقدمون طعام الإفطار في الصباح لسائر نزلاء الفندق, ثم يتولون غسل الأواني, وتنظيف غرف النزلاء, وترتيبها, وردهات الفندق وقاعاته, ويتقاضون لقاء ذلك أجورًا بسيطة, ولكنها تكفيهم لدفع نفقات إقامتهم, ويبقى لهم فائض محدود, ولكنه يكفي لتكوين مدخرات معقولة يعودون بها إلى بلادهم, أو يقتنون بها بعض المشتريات. وينفقون بعضها في رحلاتهم داخل بريطانيا, وقد أهدى بعضهم إليّ شعار نقابة تضامن منقوشًا على (دبوس) مما ذكرت آنفًا, وأعطوني بعض منشوراتها باللغة الإنجليزية, وكان معظمهم متعاطفين مع تلك الحركة, ويتطلعون إلى مستقبل أفضل على يدها. وقد دعاني بعضهم لزيارة بولندا للاطلاع على مزيد من نشاط تلك الحركة, وقد لبيت - بالفعل - هذه الدعوة في العام التالي (1982), وهناك التقيت ببعض النشطين في تلك الحركة, أبرزهم كان مهندسًا جاوز الخمسين من العمر, كان عضوًا سابقًا في الحزب الشيوعي الحاكم, ولكنه انضم إلى تلك النقابة, التي تناوئ حكمه, بل طغيانه, وتعارض سياسته, ولقد بادرني حينما بدأت الحديث معه بقوله: اسمع! إننا لن نعيد الأراضي إلى الإقطاعيين, ولا المصانع إلى الرأسماليين, ولكننا نريد التخلص من اشتراكية الدول المتخلفة, التي نعيش في ظلها, ونطبق اشتراكية الدول المتقدمة كما هو الحال في الدول الإسكندنافية المجاورة, والتي تجمع بين العدالة الاجتماعية والحريات الديمقراطية!

صراع الطبقة وطغاتها

كانت أبرز سمة في الحركة التي قادتها نقابة (تضامن) في بولندا, أنها كانت تقوم على أكتاف الطبقة العمالية أو (البروليتاريا) ذاتها, التي كان الحزب الشيوعي يحكم باسمها, ويدّعي أنه يفرض ديكتاتورية البروليتاريا طبقًا للمصطلح الماركسي المعروف, وليس طبقة أخرى خلافها مثل (البرجوازية الصغيرة), مثلاً كما كان الحال في حركات التمرّد, التي شهدها الاتحاد السوفييتي من قبل على أيدي المزارعين, حينما بدأ إجبار الفلاحين على التخلي عن ملكياتهم الخاصة من الأرض, التي وزعتها الثورة عليهم في بدايتها, وذلك لإنشاء المزارع الجماعية. نعم لقد شهد الاتحاد السوفييتي أيضًا في عهد ستالين تمرّدًا عماليًا, ولكن تم قمعه بقسوة بالغة, حيث سحقت الدبابات مظاهرات العمال, كما حدث بعد ذلك في الصين, حينما سحقت مظاهرات الطلبة المطالبة بالديمقراطية في ميدان تيان إن مين, في عهد دنج هسياوينج في أعقاب زيارة جورباتشوف للصين.

ولكن السلطات البولدنية لم تجرؤ على سحق حركة تضامن بالوسيلة ذاتها, أولاً للطابع السلمي الرقيق للحركة كما سبق القول, وثانيًا لسابقة سحق تمرّد سابق بالاستعانة بالقوات السوفييتية في عهد نيكيتا خروشوف, وكان لها مردود سيئ على كل من المجتمع البولندي, والمعسكر الاشتراكي بعامة.

في غمار اهتمامي بموضوع حركة تضامن هذه, قرأت بالإنجليزية كتابًا عليه عنوان طريف هو (الصراع الطبقي في مجتمع غير طبقي), يتحدث فيه الكاتب عن بعض المظاهرات الشعبية, التي حدثت في بولندا, ويصف كيف أن الجماهير الغاضبة, ومعظمهم كانوا من النساء, قد أقدمت على اقتحام بيوت بعض المسئولين الحكوميين, والقياديين في الحزب الشيوعي, ودون أن تمتد أيديهم بسلب أو تخريب, كانوا يتلفتون حولهم, يشاهدون مظاهر البذخ, التي يعيش فيها هؤلاء الحكام, كما يتجول المشاهد في أحد المعارض. دلالة ذلك أن السلطة المطلقة للحكام قد أتاحت لهم أن يتحوّلوا إلى طبقة جديدة تستأثر لنفسها بالحياة المترفة على حساب الطبقات الشعبية, التي يحكمون باسمها, ويزعمون أنهم قد ألغوا الطبقات المالكة القديمة, وأنشأوا مجتمعًا غير طبقي!

وبالطبع, كان مقتل النظام الشيوعي في كل من المجتمع السوفييتي, والنظم الشبيهة به في شرق أوربا, هو في انكشاف تلك الحقيقة, التي سجلها في كتاب بعنوان (الطبقة الجديدة) ميلوفان دجيلاس, الذي كان نائبًا للرئيس اليوغوسلافي الأشهر (جوزيف بروز تيتو), وعوقب دجيلاس على نقده للنظام, الذي كان هو أحد مسئوليه بالسجن, الذي أمضى فيه سنوات عدة!

وفي أثناء تجوالي في شوارع وارسو مع بعض مَن استضافوني هناك, تطلعت إلى الواجهات الزجاجية لبعض المكتبات, فوجدتها مكتظة بصور وتماثيل الزعيم الشيوعي الأكبر قائد الثورة البلشفية في روسيا, (فلاديمير إليتش لينين), فقلت لمن معي: ما هذا? هل يريد الشيوعيون من البولنديين أن يستبدلوا عبادة لينين بعقيدتهم الكاثوليكية, التي يرمز لها هي وسائر المذاهب بالمسيحية بصور وتماثيل تصور المسيح أو العائلة المقدسة في صورة طفل تحمله أمه رمزًا للعذراء?!

ولم أكن أدري وقتها أنني أضرب على وتر حسّاس, فقد كان بالفعل من منطلقات الثورة الهادئة في بولندا, وربما في سائر المجتمعات, التي قامت فيها الشيوعية, ثم سقطت, ازدراء الدين, وكان البولنديون وقتها شديدي الاعتزاز بأن كاردينال بولندا قد اختير بابا للكاثوليك في العالم كله باسم يوحنا بوليس الثاني, الذي رحل عن دنيانا أخيرًا, ولم يكن قد تبين لي بعد علاقته الوثيقة مع نقابة تضامن, وخاصة زعيمها المتدين ليخ فاونسا!

الوجه الآخر

بعد سقوط الشيوعية في بولندا, ثم سائر المعسكر الاشتراكي, انتهاء بالاتحاد السوفييتي ذاته, كتب لي بعض الشباب الذين ذكرت أنني تعرفت إليهم في إنجلترا, يصفون الأوضاع, التي آلت إليها بلادهم بعد عودة الرأسمالية إليها, وكيف أن السلع التي كانوا يشكون ندرتها في العهد الشيوعي, قد أصبحت متوافرة جدًا في الأسواق, بفضل ما تدفق عليها من واردات أجنبية من أوربا الغربية وأمريكا, ولكن أسعارها باهظة جدًا بالنسبة لمستوى الدخول في بلادهم, ويشكون كذلك من أن بعض تلك الواردات قد حكمت بالكساد على منتجات بولندية مماثلة زراعية وصناعية, ربما لفارق محدود في الجودة أو لمجرد الولع (بالمستورد)! مع فارق في الأسعار كبير, يزيد العبء على كاهل المستهلك البولندي, ويقضي بالحرمان الأشد وتدني الحال عما كان عليه في الماضي الشيوعي, وذلك بالنسبة للكثرة الغالبة, التي لم يكن هؤلاء الذين كتبوا لي عن ذلك منهم, حيث إنهم يعتبرون أنفسهم من المحظوظين, لأنهم يجيدون الإنجليزية قراءة وكتابة وبعضهم يعمل بتدريسها, حيث تضاعفت دخولهم للإقبال الشديد على تعلمها طمعا في فرص أكبر للعمل أو التعامل مع الشركات الأجنبية التي اقتحمت سوق بلادهم, البكر بالنسبة لها, بضراوة هائلة والتفت حولها قلة من المنتفعين على حساب الاقتصاد القومي ومستوى معيشة الجماهير الكادحة! لذلك لم أستغرب حينما علمت أن البابا الراحل قد انتقد تلك الأوضاع الجديدة, ولم يتردد في وصف الرأسمالية المنتصرة بأنها متوحشة!

لذلك, أيضًا فقد ذكر في تأبين البابا الراحل أنه كان يدعو إلى نظام عالمي جيد تقوده الأمم المتحدة, يقوم على الجمع بين العدالة الاجتماعية والديمقراطية, سواء على المستوى المحلي أو الدولي, مما يسمح بتحقيق السلام الذي تصبو إليه الشعوب, والذي من أجل الحرص عليه كان يرفض العنف والحروب, وكان في طليعة من عارضوا شن الحرب على العراق منذ أعوام قليلة.

إن مستقبل البشرية يكمن في إدراك أن العلاقة وثيقة ما بين العدل الاجتماعي والديمقراطية, أو الحرية السياسية, بل هي في واقع الأمر علاقة تضامنية, حيث إن العدل يصبح مزيفًا في ظل الاستبداد الذي كان يسود المجتمعات الشيوعية باسمه, ولن يتوانى المستبد عن نهب ثروة رعاياه على نحو فاضح, على نحو ما اشتهر عن شاوشيسكو ديكتاتور رومانيا السابق, الذي أعدم هو وزوجته بعد سقوط نظامه, أقول اشتهر بولعه بالقصور الباذخة, أو أوبرخت زعيم ألمانيا الشرقية, الذي كان يحتكر كثيرًا من الغابات والمروج يمارس فيها هواية الصيد على غرار الأرستقراطية البريطانية, أو تيتو زعيم يوغوسلافيا الذي كان يملك هو وزوجته الحسناء جزيرة بريوني البديعة, أو بريجنيف الرئيس السوفييتي الذي كان يملك أسطولاً ضخمًا من السيارات الفارهة, حتى قيلت بصدده فكاهة مؤداها أن أمه قد سألته يومًا بعدما رأت ما أحاط به نفسه من مظاهر البذخ: وماذا تفعل يا بني لو وصل الشيوعيون إلى الحكم?!

على العكس من ذلك فإن دعاوى الحرية والديمقراطية التي يتشدق بها الغرب الرأسمالي تفقد مصداقيتها إن لم يصاحبها قدر من العدل الاجتماعي, كما حدث في شرق أوربا وفي روسيا بالذات, حيث فقد الأمن فيها على أيدي عصابات المافيا التي نهبت البلاد وهربت إلى خارجها ثروات طائلة من الأموال والمواد الخام, لتستمتع دون جماهير شعبها بالسيارات الفارهة والمطاعم والمراقص الباذخة, في الوقت الذي كان فيه المعدمون من أبناء الشعب من أرباب المعاشات الضئيلة, أو الذين ألقي بهم إلى هوة البطالة يتضورون جوعًا, بعضهم يتناولون فضلات الطعام من القمامة في الشوارع وأبناؤهم يموتون جوعًا حتى تناقص عدد السكان, وامتهن العلماء مهنًا حقيرة واستغلت المافيا حاجة النساء للدفع بالألوف منهن إلى سوق الدعارة داخل البلاد أو خارجها. ورويت حادثة عن فتاة روسية صادقت شابًا ثم استدرجته إلى منزلها, حيث قامت هي وأمها بذبحه وباعا لحمه باعتباره لحم خنزير! ولاتزال الدوائر الحاكمة في العالم سواء في روسيا وخارجها تتخوف من أن يلجأ بعض العلماء الروس إلى الاتجار في المواد الخطرة مثل مواد التفاعل النووي أو أسرارها, بحيث يمكن أن تسقط في أيدي من تسميهم تلك الدوائر بالدول المارقة أو الجماعات الإرهابية. كيف لا وقد بلغ اليأس بأحد هؤلاء العلماء حد أن وضع نفسه في قفص القرود في حديقة الحيوان إعلانًا بأن هذه قد أصبحت تضمن مستوى من العيش لا يضمنه هو!

أما عن ظلم شعوبنا العربية والإسلامية على يد الصهيونية فحدث عنها ولا حرج, ومن هذا الظلم إلصاق تهمة الإرهاب بمن يضحي بنفسه قبل غيره, وهو يقاوم طائرات أو بقنبلة يدوية لقوى تفتك به وبقومه بطائرات ودبابات وسجون ومعتقلات على أحسن تقدير. وكل من يتصدى بصدق لمقاومة الإرهاب يعلم علم اليقين أن الأرض السبخة التي تنبته قوامها الحرمان والقهر والإذلال, ولم يكذب من قال قديمًا إن الظلم مرتعه وخيم!.

 

عبدالرحمن شاكر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات