يوميات الحلم والموت.. صفحات متفرقة من مذكرات (عمرو الصاوي)

يوميات الحلم والموت.. صفحات متفرقة من مذكرات (عمرو الصاوي)

(الأحد)

يبدو أنني تعودت على الحلم الذي يحاصرني منذ فترة لدرجة الإدمان, فتاة جميلة تضحك لي وتلوح من بعيد وسط زحام غامض, لا أرى سواها حين تبتسم فتختصر الأحداث كلها في عينيها وابتسامتها المشرقة, أشعر وكأنها (حبيبتي) وإن كنت لم أرها من قبل سوى في هذا الحلم, لم أستطع أن أميز من ملامحها سوى أنها أجمل من أجمل شيء لم يخلق بعد!

تقول داليا (الوغدة) عندما أتحدث معها عن هذا الحلم: (تغطَّ جيدا)

وبالرغم من كون (داليا) متهورة أحياناً وساخرة دائماً ولسانها طويل, فإنها ليست تافهة كما قد يظنها البعض, فقلبها يكاد يكون أطيب قلب في (وسط البلد) حيث تسكن, أستطيع القول إنها صديقتي الحميمة, لحين إشعار آخر.

تذكرني بشقيقتي الكبرى دائماً, غير أن الأخيرة لا تمتلك مثل هذا اللسان..

لم يحدث شيء جديد في الكلية والشلة تمام.

(الجمعة)

بالأمس لبى الجميع دعوتي لحفل زفاف شقيقتي, كان حفلاً رائعاً لولا أنني بكيت لأول مرة منذ زمن, لمحتني (داليا) وأنا أبكى واتجهت ناحيتي, ولكنني كنت قد اختفيت من أمامها, شقيقتي غادة هي الكبرى وهى الأم الثانية, لا أتحمل أن أراها بين يدي رجل آخر حتى ولو كان زوجها, سيستوطن أحضانها التي كنت أحتكرها حينما أحزن, سيصحو من نومه على ابتسامتها التي كانت دائماً أبداً طريقًا إلى كل يوم جميل.

(الشلة) كلها كانت متألقة, خاصة وهم يربتون على كتفي ويقولون لى (عقبالك).

رقصت مع (داليا) بعد أن طلبت منى والدتها هذا, والدتي ووالدتها على علاقة طيبة منذ زمن. نشأت أنا و(داليا) معاً قبل أن تنتقل هي ووالدتها إلى مسكن آخر بعدما توفى والدها وتزوجت أمها من آخر, لذلك يعرف الجميع كيف أننا إخوة قبل أن نكون أصدقاء, (داليا) كانت رائعة, ولكن شقيقتي كانت أكثر روعة.., قبلتها كثيراً - اختى طبعاً لا داليا - عنداً في زوجها وكأنني أغيظه.., ولكنني أحسست أنه انتصر حين ركبت معه السيارة ورحلت معه, رحل معها جزء من قلبي, تحسست فراشها وحاولت أن أجد شيئاً منها ولو خصلة من شعرها التي كانت تشكو من تساقطه بالأمس القريب, فلم أشعر إلا بالبرد الشديد تدثرت بغطائها ونمت على فراشها.

سأفتقدها بالطبع.., وكذلك تلك القطعة من قلبي.

(الأحد)...

شقيقتي أخبرتني أنها (حامل), بهذه السرعة?

أخبرتني أيضاً أنها ستسميه باسمي لو كان ولداً وستسميها باسم والدتي لو كانت بنتاً.

بالتأكيد سينسف زوجها هذا المشروع, لأن له هو الآخر وجهة نظره المستقلة في هذا الموضوع. ثم إن له هو الآخر أخاً وقد يسمى المولود باسمه, وله أم وأربع أخوات قد يأخذ من كل واحدة منهن حرفاً ويسمي المولودة به.

فرحت جداً.., ولكنني لم أتعود حتى الآن أن تكون شقيقتي الوحيدة بعيدة عني, بالرغم من زياراتي المتكررة لها وزياراتها هي الأخرى.

(الثلاثاء)

أخيراً تكلمت فتاة الحلم, لأول مرة أسمع صوتها.. كان مألوفاً بعض الشي, ولكن لهفتي للحديث معها جعلتني لا أميزه..

لا أعرف لماذا سألتها: متى تأتين?, و كأنني ولدت من جديد حين قالت: قريباً.

أخبرتني أمي عندما استيقظت أنني كنت أبتسم في أثناء نومي.

اتسعت ابتسامتي وأنا أخطو داخل الكلية, أخذت أنظر حولي باحثاً عنها في كل الوجوه والأصوات, ولكنني لم أجدها أبداً, على العكس من ذلك, كانت تجمعات الطلبة توحي أن شيئا ما على وشك الحدوث, رفع زميلنا منصور يده عاليا, كانت في يده صحيفة تتصدرها صورة بشعة لطفل فلسطيني متفحم, كان علي أن أفيق من أحلامي لأواجه الكابوس الذي يحيط بنا, جميعا, (داليا) كانت تسخر منى عندما تشاهد الدموع في عيني, ولكنها اليوم لم تعلق على دموعي , ربما لأنها كانت تبكي هي الأخرى.

صفحات متفرقة من مذكرات (داليا ممدوح)

(السبت)

الذكرى الرابعة لوفاة والدي, لم تتذكره أمي بالطبع, كانت مع زوجها في الأقصر بحجة بعض الأعمال, هل كانت مصادفة أن تتزوج أمي ثانية في الذكرى الثانية لوفاة والدي, وأن تتركني في الوقت نفسه من كل عام لتحتفل بعيد زواجها بينما أموت أنا وحدي هنا, داريت انفعالي خلف قناع المرح الذي يخدع الجميع.

(سحر) أخبرتني بحلمها السخيف عن نار تحرق الجميع, يبدو أن الجميع عندهم إسهاب في أحلامهم هذه الأيام, (عمرو) أيضاً دائم التحدث عن حلم آخر سخيف..آه يا عمرو لو تعرف كم أحبك?

أمي لم تعد من السفر بعد, فرصة لارتداء ما لا أرتديه أثناء وجودها, وضعت قطرات من عطرها الخاص , وارتديت الملابس التي أحضرها لي والدي قبل وفاته, منذ الخطوة الأولى داخل الجامعة أدركت أن شيئاً ما خطأ.

- يا أخت.

قطعت هذه العبارة تفكيري, ولا أعرف لماذا أدركت أنها لي وحدي, التفت فإذا بـ (عصام محروس) الذي هب فيّ قائلاً: ألا تعلمين أنك متبرجة و....

قاطعته: ألا تعلم أنت بأنك قليل الأدب والذوق واللياقة?

تراجع في دهشة من رد فعلي وحاول الدفاع عن نفسه وهو يقول: إن ملابسك تكشف عن تفاصيلك وأنت أخت مسلمة و.....

قاطعته مرة أخرى: ولماذا تنظر إلى تفاصيلي, غض البصر وكن في حالك.

تجمع حولنا العديد من الطلاب الذين لا أعرف معظمهم, وكأن الجو ينبئ عن مشاجرة كبرى, ثم ظهر (عمرو)., وجدته أمامي وهو يقول لعصام بنبرته الهادئة التي أعشقها: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة يا عم عصام.. ثم تذكر لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.. إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون .

لو صدرت الآية الأخيرة من شخص سواه لصفعته خاصة وأنه يشبهني بالضالين.., ولكنه - بالطبع - كان يعالج الموقف ليس أكثر كما قال لي بعد ذلك.

اصطحبني في هدوء وأنا أحتضنه بعيني, ثم قال لي إن ما أرتديه هو ثوب قصير وبأنه يخاف علي من البرد, كان يسخر منى ولكنه كان على حق, إلا أن هذا لا ينفي كونه وغداً.

(الأربعاء)

بدأت أغار من (فتاة الحلم) التي يحكي عنها (عمرو) دائماً, هذه اللعينة لم تجد سوى حبيبي لتظهر له في أحلامه?!

قال إنه سمع صوتها وأنه أسعد إنسان في الكون بسبب هذا.

إلى متى يا (عمرو)?.. إلى متى تهرب مني?

صفعتني أمي عندما أكدت لها أنني شاهدت زوجها في إحدى دور السينما مع فتاة شبه محترمة. قالت أمي إنني أكرهه لأنني لا أتحمل فكرة أنه أفضل من والدي.

بكيت كما لم أبك من قبل, ولم أجد حلاً سوى أن توجهت إلى الكلية قبل موعد المحاضرة بساعتين كاملتين, تأخر (عمرو) اليوم عن المحاضرة الأولى وعندما سألته عن السبب قال إنه كان على موعد مع فتاه, فهمت أنه كان نائماً ويحلم بهذه الفتاه المأفونة.

لم أعد أتحمل هذا. الجميع بلا شك لاحظوا تغيري.., وربما لاحظوا أيضاً عدم مقدرتي على إخفاء مشاعري تجاه (عمرو).

حالتي تزداد سوءاً, ولكني أداريها, أشعر أن هناك شيئًا أكبر مني وأنا أسير وسط جموع طلبة الكلية الذين خرجوا غاضبين, لم يعد في صدورنا الضيقة مجال للسكوت, حتى ولو كانت جحافل الأمن المركزي في انتظارنا.

ختام القصة كما يعرفه المؤلف

كان الموعد بعد صلاة الظهر, نسى الجميع أي موعد آخر وأسقطوه عمداً من ذاكرتهم.

كل الذين يتهمهم الكثيرون بأنهم جيل تالف وبلا هدف أو قدوة راحوا يهتفون (بالروح.. بالدم.. نفديك يا فلسطين).

تعددت الوجوه وتباينت الملامح واتفقت الهتافات وتوحد الهدف, في لحظة سحرية سيموت التاريخ إن لم يذكرها ويخلدها إلى الأبد. (واحد.. اتنين.. الجيش العربي فين), قوات الأمن المركزي تحاصر المتظاهرين والجميع يهتف:

ـ (بالقرآن والإنجيل .. نعادي إسرائيل).

كلهم كانوا جنباً إلى جنب ولم تفلح قنابل الدخان أو القنابل المسيلة للدموع أو حتى خراطيم المياه في تفريقهم, ثم اندلعت النار حينما تلقت إحدى الفتيات لطمة قوية من أحد جنود الأمن المركزي, ثم راحت عِصيهم الغليظة تلوح في وجوه الجميع وتضربهم في عنف

راح الطلبة يشتبكون مع جنود الأمن المركزي الذين منعوهم من الاقتراب من زملائهم المصابين لإسعافهم, و الهتافات تدوي, وحاول الجنود منع طالب من إحراق علم إسرائيل, ولكنهم لم يستطيعوا, تفادت (داليا) إحدى اللطمات العشوائية من عِصِي الأمن المركزي الغليظة بأعجوبة, وراحت (منى) و(نرمين) تصرخان وتبكيان في الوقت ذاته, تجمع أفراد من جنود الأمن المركزي وراحوا يضربون (عصام محروس) ورفاقه من التيار الإسلامي, ويجرجرونهم إلى سيارة مصفحة حشر فيها آخرون:

(بالروح .. بالدم .. نفديك يا فلسطين)

فجأة رآها وهو يهتف, كانت تلوح له من بعيد تماماً كما في الحلم.., وتبتسم كما في الحلم أيضاً, حتى ظن أنه في حلم آخر, اقترب خطوة وراحت الهتافات تتراجع وتتراجع وهو يواصل الاقتراب لتصبح في خلفية صوتها وهى تناديه قائلة: أنا هنا.

خيل لـ (عمرو) أن الحياة قد توقفت فتسمر الجميع في أماكنهم بغتة, فيما عداه وفتاة الحلم, أشارت كل ساعات الكون إلى موعدها, راح يقترب منها وهي تقترب منه فتاة الحلم..

انطلقت رصاصة من إحدى بنادق جنود الأمن المركزي لتستقر في صدره, عند موضع القلب تماماً.ولوهلة لم يشعر بأن شيئاً قد حدث, ثم راحت الوجوه والأصوات والأحداث تجري أمام عينه فجأة, أمه تخبره عن سعر الذهب, وأبوه يبتسم له في حنان وشقيقته تحمله رضيعاً بين يديها. والصوت المميز لنشرة الأخبار والصغير الذي لم يولد بعد, وفرحته حين كان يذهب مع أبيه إلى صلاة الجمعة ويردد مع المصلين خلف الإمام: آمين.

ثم لمح (داليا) تعدو نحوه وعلى وجهها أمارات الفزع والرعب وأنهار من دموع نساء العالمين, سقط على ركبتيه وهو يبتسم حين وصلت إليه., أمسكت بيديه وحاولت أن تنطق بأي شئ فلم تستطع., نظر في عينيها وهو يقول: أتعرفين يا (داليا) أنك تشبهين فتاة الحلم.. بل إنها أنت.. إنها أنت بالتأكيد.

توقفت هتافات الجميع بعد أن أدرك معظمهم ما حدث, ولم يجرؤ أحد منهم على فعل شيء سوى البكاء وقد أحاطوا بـ (عمرو) و(داليا) التي أحاطت ذراعاها برأسه فابتسم , حاولت أن تتكلم لولا أن وضع أنامله على فمها وهو يقول: أحبك يا داليا.. كنت أنت دائماً

سعل دماً ولكنه واصل: يا الله.. كلمة (أحبك) تبدو جميلة للغاية يا (داليا), خاصة حينما تقترن باسمك

كانت الدماء تتفجر من صدره عندما رأت داليا ذلك النور الذي لم يره سواها, انبعث من وجهه ليحيطهما فقط, اختفى الجميع فجأة من حولهما, ولم يعد هناك سواهما.

 

محمد فتحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات