الدكتور صاعد تشونغ جيكون والدكتور بسام بركة

 الدكتور صاعد تشونغ جيكون والدكتور بسام بركة

نُعارض مُرَكّب النَّقص وتعظيم الغرب وتَملقَّهُ

يُعدّ الدكتور «تشونغ جيكون»، المعروف باسمه العربي «صاعد»، من أهم دارسي اللغة العربية وآدابها في الصين وأعرقهم. فهو يعمل منذ أكثر من نصف قرن في دراسة أعمال الأدباء العرب، القديم منها والحديث، الشعراء منهم والروائيون والمفكرون. قام بتعليم مضامين هذه الأعمال في المعاهد والجامعات كما قام بترجمة العديد منها إلى اللغة الصينية. زار عددًا كبيرًا من الدول العربية وحاضر في جامعاتها ومراكزها الثقافية، فكان في ذلك صلة الوصل بين الثقافتين الصينية والعربية، حاملًا بذلك لواء العربية في بلاده وعاملًا كسفير لبلاده في العالم العربي. التقاه الأكاديمي اللبناني الدكتور بسام بركة بمناسبة حضوره إلى بيروت على رأس وفد من الباحثين والأساتذة الجامعيين الصينيين للمشاركة في المؤتمر الذي عقده «المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية»، في الجامعة اللبنانية، حول موضوع «الملتقى الأكاديمي اللبناني- الصيني الأول» من 1 إلى 3 حزيران/يونيو 2011. ودار بينهما الحديث التالي.

  • تعلمت العربية لأنها اللغة التي قال بها عبد الناصر «لا» متحدياً .. الغرب
  • الغرب ظل متأخراً ولم تبدأ نهضته حتى احتك بالثقافة العربية
  • نوبل ظلت تظلم الأدب العربي قبل نجيب محفوظ وبعده
  • أحب خصوصاً هؤلاء الشعراء اللبنانيين الذين هاجروا إلى المهاجر
  • ترجمة الشعر العربي للصينية أصعب الترجمات لأن الصينية والعربية أصعب اللغات في العالم

 

  • من المعروف أنّ العلاقات بين الصين والعالم العربي والإسلامي قديمة وعريقة، وهي كانت ترتبط على الأخصّ بمجالات التجارة والصناعة والتبادل العلمي والفكري، لكنْ أن يتبوّأ شخصٌ من بلادك أرفعَ مُستويات المعرفة والتبحّر في تاريخ اللغة العربية وآدابها، فهذا أمر يدعو إلى الدهشة كما يدعو إلى الإعجاب والتقدير. كيف بدأت مسيرتك في رحاب الآداب العربية ولغة الضاد؟ وما هي الظروف التي جعلتك تُقبِل على تعلّم العربية والاختصاص بآدابها وعلومها؟

- بدأتُ أدْرُس اللغة العربية منذ سنة 1956، حين دخلت جامعة «بكين» طالبًا في كلية اللغات الشرقية التي تدرَّس فيها بضعُ عشرة لغة شرقية، مثل اليابانية، والهندية، والفارسية، والكورية، والتايلاندية، والبورمية، والإندونيسية، والفيتنامية، والسنسكريتية، إلخ. فكان حينئذ يواجهني الاختيار بين هذه اللغات. وبينما رغب زملائي في دراسة اللغة اليابانية كنتُ أنا أرغب عنها بتاتًا، إذْ وُلِدت وقضيت أيامَ طُفولتي في مدينة «دالاين» التي كانت تُعتبر من مُستعمرات اليابان بكل معنى الكلمة قبل الحرب العالمية الثانية، فتَرَكت فترة العيشة الذليلة تحت وطأة المستعمرين اليابانيين في نفسي تأثيرًا سلبيًا لا يُمحى. أما لماذا فضّلت دِراسة اللغة العربية، فلذلك أسبابٌ عديدة: أولًا، كنت قد سَمعت ثم قرأت بعضَ قصص «ألف ليلة وليلة» فسَحرني ما يُحْكى فيها من الغرائب والعجائب في تلك البُقعة الساحرة التي سُميت بالعالم العربي فيما بعد. وكنتُ أحلم بالاطّلاع عليها بنفسي إذا سنحت لي الفرصة. ثانيًا، بعد دخول الجامعة، زرت الأستاذ محمد مكين (1906-1978) الذي كان من رُوّاد الاستعراب الصيني، إذْ كان يدرس في جامعة الأزهر ودار العلوم بالقاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي وهو أول من أدخل في الصين تدريس اللغة العربية من الجامع الى الجامعة، فأنشأ قسم اللغة العربية في جامعة بكين سنة 1946، كما أنه عرّب « الحوار» لكونفوشيوس وترجم معاني «القرآن الكريم» ترجمةً نموذجية، فعرّفني بجمال اللغة العربية وجلالها، وشجّعني على دراستها. ولكن فضلًا عن ذلك، كان هناك سببٌ أهمّ يدفعني الى دراسة هذه اللغة - مع أني قد سمعت حينئذ أنها صعبة جدًا - ألا وهو الوضع السياسي في ذلك الوقت، فكانت النِّضالات الوطنية التي تخوضها الشعوب العربية في سبيل الاستقلال والتحرّر هادِرة كاللَّهب. ففي تلك السنة، أقصد سنة 1956، حصلت مراكش وتونس والسودان على استقلالها الوطني، وكان الشعبُ الجزائري يقوم بالجِهاد البُطولي للتخلص من نير الاستعمار الفرنسي، والأجدر بالذكر، أنَّ رئيس مصر جمال عبدالناصر أعلن في تلك السنة أيضًا باللغة العربية تأميم قناة السويس ثم قاد الشعب المصري البطل الذي قاوم العُدوان الثلاثي باسلًا صامدًا. لك أن تتصور ما كانت تأثيرات كلّ ذلك في شابّ صيني ثائرٍ وذي قلبٍ فائر. فهو ما تمالك ولا تماسك عن اختيار دراسة هذه اللغة التي يتجرأ الشرقيون أن يقولوا بها: «لا» متحدّين الغربيين. وأنا أذكر بوُضوح أنَّ أول ما درَست وعرفت وترجمت من العبارات العربية هي «نؤيّد مصر! وليسقط الاستعمار!» وهو شعار كنا نهتف به في موكب التظاهر الذي يمرّ بمقرّ سَفارة مصر ببكين، فرأيت السفير المصري حسن رجب يلوّح بيده مُبتسمًا شاكرًا لنا.

  • من خلال تجربتك الكبيرة التي تنوف على نصف قرن في مجال تعليم اللغة العربية في الصين، ومن خلال ممارستك العميقة في قِراءة التراث العربي، وخصوصًا من خلال عملك في ترجمة الأدب العربي والتعريف به في الأوساط الثقافية والعلمية في الصين، كيف تقيِّم الصورة التي يرى الإنسانُ الصيني العادي بها الإنسانَ العربي عمومًا واللغة العربية خصوصًا؟

- فعلًا، اشتغلت بتعليم اللغة العربية نصف قرن تمامًا، فأنا تخرجت في جامعة بكين عام 1961. ومنذ ذلك التاريخ بدأت هذه المهنة. الواقع أنه يصعب علينا أن نجد في العالم أمّتين بينهما مِثل ما يوجد بين الأمّتين الصينية والعربية من وجوه التشابه ونِقاط الالتقاء.

ففي العالم أربع مجموعات حضارية رئيسية دامت باقية من القدم حتى اليوم، وهي مجموعة الحضارة الصينية ومجموعة الحضارة الهندية ومجموعة الحضارة العربية الإسلامية ومجموعة الحضارة الغربية. ولِكِلتا الأمّتَيْن الصينية والعربية تاريخٌ طويل وحضارة عريقة، فيمكن القول عن كل واحدة منهما إنها قصيّة الينبوع طويلة المَجْرى.

من الممكن أن نرجع بتاريخ الصين إلى ما قبل خمسة آلاف من السنين، أما عن الأمة العربية فقد قال العالم الأمريكي ديورانت (Will Durant 1885-1981) في كتابه «قصة الحضارة»: «هناك ما يدلّ على أن الحضارة وهي هنا زراعة الحبوب واستخدام الحيوانات المستأنسة - قد ظهرت في العهود القديمة غير المدوّنة في بلاد العرب، ثمّ انتشرت منها في صورة «مثلث ثقافي» إلى بلاد ما بين النهرين (سومر وبابل وآشور) وإلى مصر»، أما العالم الأمريكي الآخر فيشر (Nettleton Fisher) فقد قال في مؤلّفه «تاريخ الشرق الأوسط» : في الغرب «ظلّ العلماء يتجادلون حتى اليوم حول ما إذا كانت حضارة الغرب قد نبعت في وادي النيل أم في وادي الرافدين دجلة والفرات». بذلك نجد بلا صعوبة أنّ منبع حضارة الغرب كان في الشرق وعلى وجه التحديد في أرض العالم العربي الحاضر.

وفي القرون الوسطى، كانت الامبراطورية العربية الإسلامية الكبرى الواقعة في القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوربا، والامبراطورية الصينية الواقعة في آسيا الشرقية كلتاهما قد بلغتا أوج القوة والعظمة سياسيًا واقتصاديًا، لقد كانت مؤثّرات حضارة الصين وثقافتها حينئذ معروفة: فأبناء الشعوب في المناطق والبلدان المجاورة للصين في آسيا الشرقية وجنوب آسيا الشرقية أمثال اليابان وكوريا وفيتنام كانوا يتوافدون إلى الصين طلبًا لعلمها واقتباسًا من تجاربها، كما كانت الصين بواسطة طريق الحرير وبواسطة العرب تنقل إلى الغرب اختراعاتها الأربعة المشهورة: صناعة الورق والطباعة والإبرة المغناطيسية والبارود.

أمّا العرب فكما قال المؤرّخ الأمريكي الجنسية واللبناني الأصل فيليب حتّي (Philip Hitti 1886-1978): «ولم ينشئ العرب امبراطورية وحسب، بل أنشأوا ثقافة زاهرة أيضًا، فقد ورثوا المدنية القديمة التي ازدهرت على ضِفاف الرافدين وفي وادي النيل وعلى شواطئ البحر المتوسط الشرقية، وكذلك تشرّبوا واقتبسوا أهمّ معالم الثقافة اليونانية والرومانية وقاموا مَقام الوسيط فنقلوا إلى أوربا خلال العصور الوسطى كثيرًا من هذه المؤثّرات الفكرية التي أنتجت بالتالي يقظة أوربا الغربية ومهّدت لها سبيل نهضتها الحديثة. ولم تعرف أمةٌ ساهمت في العصور الوسطى في التقدّم البشري بقدر ما ساهم العرب والشعوب المتكلمة بالعربية».

وأشارت العالمة الألمانية الدكتورة زيغريد هونكه هي الأخرى وكأنها تضع النقاط على الحُروف قائلة: «لقد كان ظهور الإسلام وتوسعه عامِلًا أنقذ الكنيسة من الانحدار، وأرغمها على إعداد نفسها لمواجهة تلك القوى المعادية دينيًا وفكريًا وماديًا. لعل أكبر دليل على هذا هو أنّ الغرب بقي في تأخره ثقافيًا واقتصاديًا طوال الفترة التي عَزل فيها نفسه عن الإسلام ولم يواجهه. ولم يبدأ ازدهار الغرب ونهضته إلا حين بدأ احتكاكه بالعرب سياسيًا وعلميًا وتجاريًا».

في ذلك الوقت، كانت كلتا الدولتين الصينية والعربية تعتبر القوة العظمى في العالم أجمع، كما كانت كلتا اللغتين الصينية والعربية تُعدّ حينذاك أكثر اللغات شيوعًا ورواجًا في الدنيا: فإذا استعرضنا المؤلفات الكلاسيكية شعرًا ونثرًا في اليابان وكوريا وفيتنام وجدنا أنها كلّها كانت مكتوبة باللغة الصينية، أمّا في الغرب حينئذ ففي القرن التاسع في الأندلس (أي إسبانيا الحالية) كتب الفارو أسقف قرطبة حينئذ: «كثيرون من أبناء ديني يقرأون أشعار العرب وأساطيرهم، ويدرسون ما كتبه علماء الدين وفلاسفة المسلمين، لا ليخرجوا عن دينهم وإنّما ليتعلموا كيف يكتبون اللغة العربية مستخدمين الأساليب البلاغية.

الغرب مدين للعرب

وصدق الدكتور طه حسين الملقّب بعميد الأدب العربي إذ قال: «إننا لا نغلو ولا نكثر ولا نفاخر بالباطل إذا قلنا: إن الغرب الأوربي والأمريكي الآن على تفوّقه إنـما هو مَـدين بتـفوّقه كلّـه وبعـلمه كـلّـه لـهـذه الأصول الحضارية الخصبة الدائمة التي نقلها العرب الى أوربا في القرون الوسطى، ولا ينبغي مطلقًا أن نتحرّج من أن نطالب الأوربيين وقد طالبتهم كثيرًا بأن يردّوا إلى الشرق بعض دَيْنه عليهم، وألا يكونوا ملتوين بما عليهم من الدَّيْن، وأن يشعروا بأن للشرق العربي جميلًا يجب أن يقدّروه، وأن يشكروه لا أن يسرفوا في العزّة والإثم، ولا يبغوا على الذين أحسنوا إليهم وعلّموهم كيف الإحسان ! وكيف تكون الحضارة»!

لكن، بعد النهضة الأوربية وبعد سلسلةٍ من الإصلاحات والتجديدات، سار الغرب في مقدّمة العالم علمًا تكنيكيًا وحضاريًا مادّيًا، وفي الوقت نفسه وخصوصًا في عصرنا الحديث كانت الصين والدول العربية قد تعرَّضت للعدوان من قبل دول الاستعمار والإمبريالية فأصبحت مستعمَرات أو شبه مستعمرات لمدّة طويلة. ولكنّ شعوب كلتا الأمتين الصينية والعربية لم تخضع، بل كانت تتابع نضالاتها في سبيل التحرّر الوطني حتى أحرزت بالتوالي انتصاراتها بعد الحرب العالمية الثانية الكبرى وأحرزت على حدة الاستقلال والسيادة الذاتية لبلدانها. وبرغم أنّ الصين مختلفة بعض الاختلاف عن الدول العربية في الأنظمة السياسية والتطورات الاقتصادية والأيديولوجيات وغيرها، إلاّ أننا كلنا ننتسب إلى العالم الثالث وكلنا من الدول النامية، وأبناء شعوبنا كلهم مجتهدون، شجعان، يُحبّون السلام، ويعارضون الحرب العدوانية، وكلنا نسعى بجدٍّ واجتهاد للنهضة ولمواكبة العصر، ولتحديث البلاد. ولم تكن الريح تواتينا في كل وقت في طريقِ تقدّمنا. لقد حققنا الانتصارات والنجاحات، ولكننا تعرّضنا أيضا للنكسات والصعوبات والمشكلات.

  • من الملاحظ أنَّ معظم كتاباتك ودراساتك تتناول الأدب العربي الحديث، هذا لا يعني أنك تهمل القديم، إذ قمت بترجمة العديد من القصائد والكتب التراثية. كيف تُقارن بين التراث والحداثة في العالم العربي؟ هل هناك قطيعة بين الاثنين؟ وهل استطاع الأدباء والمفكرون العرب المُحدثون أن يتمثلوا تراثهم وفي الوقت نفسه أنْ يبتعدوا عنه بما فيه الكفاية من أجل التجديد ومواكبة العصر؟

- فِعلًا، لقد ترجمت عددًا لا بأس به من الأعمال الأدبية العربية القديم منها والحديث، شعرًا ونثرًا، كما ألّفتُ «تاريخ الأدب العربي الحديث» و«تاريخ الأدب العربي الكامل» وغيرهما. وربما يجدر بالذكر أنّ ما ترجمت من «مختار الشعر العربي القديم» يشتمل على أكثر من أربعمائة وثلاثين قصيدة أو مقطوعة لأكثر من مائة وثلاثين شاعرًا عربيًا قديمًا. أما الكتاب الذي الّفته حول «تاريخ الأدب العربي الكامل» فيقع في مجلّدين: أعرّف في المجلّد الأول بالأدب العربي القديم في العصورالعربية التاريخية المختلفة: العصر الجاهلي والعصر الإسلامي والعصر العباسي وكذلك في الأندلس والعصور المتأخرة، بينما أعرّف في المجلّد الثاني بالأدب العربي الحديث تعريفًا عامًا في العالم العربي كله أولًا، ثم أعرّفه تعريفًا خاصًا لـ 18 دولة عربية. هذا وأقدّم فيه - مع النقد والتعليق، بالإيجاز أو بالتفصيل - أعلامَ الأدب العربي قديمًا وحديثًا، وروائعهم شعرًا ونثرًا، واتجاهاتهم ومدارسهم وتياراتهم الأدبية والفنية.

في الحقيقة، أُعجَب كل الإعجاب بتراث الأدب العربي في القرون الوسطى، وأرى أنَّ الأدب العربي القديم قد قام في تاريخ الآداب العالمية بنقل ما كان للسابقين إلى اللاحقين، ونقل ما للشرقيين إلى الغربيين، أما الأدب العربي الحديث فهو يواكب الآداب العالمية ويجاري ويباري، فإنَّ أمثال جبران خليل جبران ونجيب محفوظ لم يكونوا من النجوم اللامعة الساطعة التي تتلألأ في سماء الأدب العربي فقط، بل هم يُعتبرون من العمالقة على صعيد الآداب العالمية أيضًا. فلا أحد يدرس الأدب العربي ويتغلغل في دراسته وبحثه إلا ويبهره هذا الأدبُ

وعلى العموم أرى أنَّ الأدب العربي - سواء قديمًا أم حديثًا - ليس أقلّ شأنًا من الآداب الغربية بتاتًا، إلا أننا نجد أنه لم يحصل حتى اليوم في أسرة الأدب العربي على جائزة نوبل إلا الأستاذ نجيب محفوظ. هذا لا يدلّ إلا على أن هذه الجائزة ظلّت تظلم الأدب العربي، قبل نجيب محفوظ وبعده.

ولكن هناك نقطة علينا أن نأخذها بعين الاعتبار، وهي أن المركزية الغربية مازالت تُهيمن على مجالاتنا الأكاديمية، ونحن علينا أن ننبذها. يتشدق الغربيون بـ«المركزية الغربية» مطبّلين مزمّرين لها، وهم مُغرِضون في ذلك، فما بالنا نحن الشرقيين نردّد أقوالهم مثل الصدى لهم؟ يحب الناس اليوم أن يتحدثوا عن العولمة أو الحداثة، ولكن العولمة أو الحداثة ليست بمنزلة التغريب الشامل الكامل، لذا علينا أن نحارب تلك الفكرة التي تميل إلى تعظيم الغربيين وتتملقهم وتدعو إلى التغريب الشامل.

  • لكن، هذا يعيدنا إلى الصراع بين القديم والحديث، بين التقليد والتجديد. إذا أردنا نبذ المركزية الغربية لكونها تُهَيمن على كل المجالات الأكاديمية، العلمية منها والثقافية، فإننا لا شك سنبتعد عن ركب الحضارة المُعاصرة التي تقودها بحُكم الواقع الدول الغربية، وقد اشتد تأثيرها أخيرًا مع موجة العولمة العارمة. وأنا أرى من خلال ما أعرف من أعمالك ودراساتك أنك مُطَّلعٌ كل الاطِّلاع على الثقافة الغربية وأنك لا تنبذ الإنتاجات الغربية تمامًا. كيف ترى العلاقة بين التراث والحداثة؟

- إذا تحدّثنا عن العلاقة بين التراث والحداثة، علينا أن نعرِّف الوراثة والاقتباس والتجديد. يعتبر هذا قانونًا لتطوُّر الحضارة أو الثقافة، وينطبق في كل الأمم والبلدان في الغابر والحاضر بلا استثناء. فالحضارة اليونانية الرومانية، فضلًا عن وراثة حضارتها الإيجابية الأصيلة، كانت تقتبس من الحضارات في وادي النيل ووادي الرافدين والسواحل الشرقية من البحر المتوسط. وفي القرون الوسطى، حينما كانت أوربا تقع في الظلام الحالك بحكم السلطتَيْن الكهنوتية والإقطاعية، ورثت سلطة الدولة العربية الحضارة العربية الإسلامية الأصيلة من جهة، ومن جهة أخرى، اتخذت السياسة السليمة سياسة التسامح والتخير تجاه حضارات وثقافات الديانات والأمم الأخرى، فاقتبَسَت وتشرّبت كثيرًا من خُلاصات الحضارات اليونانية الرومانية والفارسية والهندية وحتى الصينية، الأمر الذي جعل الحضارة العربية الإسلامية تبلغ أوجها في القرون الوسطى، بينما كانت الصين في طرف طريق الحرير الآخر قد ورثت حضارتها وثقافتها الأصيلة واقتبست منذ عهد أسرة هان المالكة (عام 206 ق·م - 220 م) من حضارات وثقافة الهند والمناطق المجاورة للصين غربًا مما كوّن حضارةً صينية تقليدية من الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية، وهي بلغت أوجها في عهد أسرة تانغ المالكة (عام 618-907 م).

وطبقًا لقانون تطوّر الحضارة والثقافة الذي يقوم على «الوراثة والاقتباس والتجديد» ينبغي لنا من جهة أنْ نرث تراثنا الثقافي الممتاز وقيمَنا الأخلاقية الفاضلة، ومن جهة أخرى يجب علينا أن نعترف بأنّ الحضارة والثقافة الغربيتين تشغلان على العموم محلّ القوّة ولديها مزايا متقدّمة تستحق أن نستفيد منها. وفي الحقيقة نحن استفدنا كثيرًا منها وعلينا أنْ نواصل الاستفادة والاقتباس منها.

وعلينا أنْ نعارض اتّجاهين:

من جهة، نعارض مُرَكّب النقص وتعظيم الغربيين وتملّقهم والتغريب الشامل الكامل.

ومن جهةٍ أخرى، يجب علينا أيضًا أنْ نعارض من يتشبث بالتقاليد العتيقة البالية، ويغترّ ويتكبر بنفسه، ويرى كل الأشياء لبلده ووطنه صالحة فاضلة كما يرى تعاليم سلفه والكلاسيكيات التقليدية قوانين وسننًا ذهبية نفيسة ثابتة خالدة لا تتغير ولا تتطور، بينما يرى كل الأشياء الأمريكية والأوربية الغربية فاسدة مفسدة متردّية يجب أن يبتعد عنها وينبذها ويحاربها صاعًا بصاع.

مادام قانون تطور الحضارة والثقافة عبارة عن وراثة واقتباس وتجديد، علينا أن نتبع هذا القانون ونلتزم به، فنرث ونطوّر تراثنا الفاضل وفي الوقت نفسه نقتبس ونستفيد من أشياء غيرنا الحديثة الفاضلة. لنا يدان اثنتان، فلنتمسك بيدٍ بما لدينا من الأشياء الحسنة، ولنمدّ اليد الأخرى لنأخذ بها من غيرنا أشياءهم الحسنة. أرى أننا يجب أن نتّخذ هذا الموقف تجاه التراث والحداثة في مسألة أدبنا.

  • في محاضرتك التي ألقيتها في المؤتمر الذي نظمه المعهد العالي للدكتوراه للأداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية، في بيروت، كان هناك موضوعٌ أساسيّ تَمَحوَرت عليه كلُّ مداخلتك، وهو: «أنا أحب الأدب اللبناني» لماذا هذا الحب، وما هي أسبابه؟ هل هو إعجاب بمستواه الفني العالي وبأسلوبه اللفظي المُميَّز أم هو مُجرَّد عاطفة انسجامٍ مع المضامين الإنسانية والاجتماعية التي نجدها فيه؟ أم غير ذلك؟

- في الحقيقة، حينما قلت إني أحب الأدب اللبناني لم يكن ذلك للمجاملة أو للزلفى، بل أقول ذلك من صميم القلب، ويرجع ذلك أيضًا إلى عدة أسباب: أولًا وقبل كل شيء، أحب الأدب اللبناني لأني أحب أبناء لبنان، أكنّ في قلبي كلّ الإعجاب والتقدير لهم، فلعلك تعرف الدكتور جورج حاتم المعروف بـاسمه الصيني «ماهايدو» (1910-1988) ابن بلدة حمّانا اللبناني. إنه يُعدّ أول صهرٍ لبناني للصين إذ تزوّج من إحدى أجمل وأفضل فتياتنا فـي يانآن بعد أنْ أتى إلى الصين من الولايات المتحدة لانحيازه إلى معاناة الشعب الصيني، والتحق في العام 1936 بـالجيش الأحمر الصيني برئاسة الزعيم ماوتسي تونغ، فســاهم مساهـمة مهمة بمهارته وبراعة طبّه في تحقيق انتصار الثورة الصينية، وكان أول أجنبي يحصل على الجنسية الصينية في العام 1949. إني ككل أبناء الشعب الصيني معجب به كما أعجب بالصهر اللبناني الثاني للصين ألا وهو الأستاذ بيار أبو خاطر (1938-2001) الذي تزوج إحدى أجمل وأفضل أخواتنا فـي تايوان. وفي العام 1993، عندما حضر هو مع عقيلته ندوة حول الأدب اللبناني أقامتها سفارة لبنان في بكين قبيل عيد لبنان الوطني، تأثر بالجهود التي بذلها المستعربون الصينيون ومساهماتهم في التعريف بالأدب اللبناني، فقرر على الفور مكافأة بعضهم بدعوتهم لزيارة لبنان على نفقته الخاصة، ليتيح لهم فرصة التعرّف على المجتمع اللبناني عن كثب، وكنت أنا أحد أولئك المحظوظين، فزرت بذلك لبنان لأول مرة عام 1995. وعلى ما أعلم أن الأستاذ بيار أبو خاطر كان قد تبرّع على التوالي بأكثر من ستين ألف دولار أمريكي لإنشاء مدرسة تُسمى بمدرسة لبنان للبنات، وليساعد ماليًا حوالي مائة ولد وبنت على مواصلة الدراسة في بعض المناطق الصينية الفقيرة، فقد قال لأمين عام صندوق الشباب والأطفال الصيني لمشروع الأمل: «أريد أن أساعد البنات الصغيرات بهذه النقود، ذلك لأن البنات ضعيفات في كل مجتمع، ولكنهن سيصبحن في المستقبل أمهات يتحمّلن مهمات تربية الجيل القادم، لذلك من حقهنّ أن يتمتعن بالتعليم الممتاز. أرجو منكم ألا تنشروا اسمي، اذكروا لبنان فقط، فهذا التبرع من لبنان!».

  • هذا في ما يتعلق بعلاقاتك الحميمة بعددٍ من الشخصيات اللبنانية، بأبناء لبنان كما قلت. لقد جعلك إعجابك بهم تهتم بتاريخ بلدهم وأدبه وثقافته. لكن، ذكرت منذ قليل أن هناك عدة أسباب تجعلك تتعلق بالأدب اللبناني وتحبه. فهل هناك من سبب آخر يدفعك إلى الاهتمام بهذا الأدب والعمل على التعريف به؟

- نعم. السبب الآخر لحبي للأدب اللبناني هو حبي للبنان ذاته. قلت مرارًا إني أحب لبنان وأحب الأدب اللبناني، لا أدري أأحب الثاني بسبب الأول، أم أحب الأول بسبب الثاني. لقد زرت لبنان أربع مرات، وتركت هذه الزيارات انطباعات لا تُمحى في ذهني، فكلما نزلت من الطائرة قلت لنفسي: «ها أنا ذا جئت، كان لبنان فـي قلبي، فأصبحت أنا الآن فـي قلب لبنان!».

في الحقيقة كنا نرى نحن الباحثين الصينيّين للأدب العربي عامة وللأدب اللبناني خاصة أنَّ رحلاتنا هذه لـم تكن زيارة لبنان بقدر ما كانت بمنزلة الحجّ إلى أقدس الأماكن الأدبيّة، لأنَّ أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني نضعهم فـي نفوسنا وقلوبنا موضع كل التقدير والإعجاب، فهم ليسوا فـي نظرنا إلا قديسين وأولياء فـي مِحراب الآداب. وعندما زرنا في لبنان بيوت ومتاحف هؤلاء الأدباء الزعماء والشعراء العظماء والفلاسفة العباقرة والمفكرين الجبابرة، خُيِّل إلينا أنهم قد انبعثوا أحياء باللحم والدم، فبادروا يستقبلوننا قائلين لنا: «أهلًا وسهلًا، مرحبًا بكم، نحن أبناء لبنان، أبناء جبل صنين وأحفاد الفينيقيين، نرحّب بضيوفنا الصينيين، إخواننا الذين جاءوا من بلاد التنين». وإنْ أنسَ لا أنسَ ما رأينا وشاهدنا فـي رحلاتنا عندما كنا نرحل من الجنوب إلـى الشمال ومن الشواطئ إلى الجبال، فما أجمل كل ما رأينا وشاهدنا من التلال والجبال، من الأدغال والخمائل، من الشلالات والجداول، من العيون والسيول، من الحقول والسهول، فيبدو لي أن الطبيعة فـي لبنان قد رسمتها ريشة أحذق الأيدي الفنانة، فأينما تسير تجد فـي الجنائن والبساتين.

أحبّ الأدب اللبناني لأنه وُلد ونشأ في أسرةٍ من الأسر ذات الحسَب والنَّسَب ترجع إلى العرق العريق والأصل الأصيل، إذ يُعتبر أجمل درّة تتلألأ من دُرر تاج الآلهة عشتروت، فكان الأدب اللبناني كجزء لا يتجزأ من الأدب الفينيقي والأدب العربي، كان مثله مثل الأدب الصيني أدبًا مؤثّرًا أولًا وقبل كل شيء، فكانت الحضارات والآداب الغربية مدينة بما جاد به أجدادنا وآباؤنا من الحضارات والآداب الشرقية بما فيها الأدب اللبناني فنستحقّ أن نتباهى بمفاخرهم ومآثرهم.

وفي عصرنا الحديث، كان الأدب اللبناني يقوم بدور الريادة والقيادة في نهضة الأدب العربي، وكان الأدباء من أبناء لبنان في عهد الحكم العثماني يتشاركون مع إخوانهم في مصر عامة والأزهر خاصة في المحافظة على لغة الضاد، فأدخلوا سنة 1610 أول مطبعة في العالم العربي، ألا وهي مطبعة دير قزحيّا، وسافر بعضهم طوعًا أو كرهًا إلى مصر ليشاركوا إخوانهم الأدباء هناك في إثارة العرب على الجهل والخمول من أجل التنوّر في العلم وانفتاح العقول. حيث رأيناهم أسسوا «الأهرام» بيد سليم وبشارة تقلا وأصدروا «الهلال» بيد جرجي زيدان.

أحبّ خصوصًا أولئك الأدباء والشعراء المهاجرين من لبنان إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، حيث أسّسوا الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية، وأنشأوا المدرسة المهجرية التي تمتاز بالابتكار والثورة على الجمود والتقليد مبنىً ومعنىً، مما كوّن أدبًا مولّدًا جديدًا كلَّ الجدّة يتغذّى ويتمثّل بكلتا الحضارتين الشرقية والغربية، وشأن دوره في تاريخ الأدب العربي الحديث شأن دور الأدب الأندلسي في تاريخ الأدب العربي القديم.

  • لقد ترجمت العديد من روائع الشعر العربي إلى اللغة الصينية، ونلت العديد من الجوائز على هذه الأعمال. لكن، هناك من يقول إنَّ ترجمة الشعر أمرٌ مستحيل، وإذا كان من الممكن نقلُ المعاني، فإنَّ روح القصيدة وعناصر الإبداع فيها لا يُمكن نقلها. وخصوصًا إذا كان الأمر يتعلق بلغتين بعيدتين كل البُعد إحداهما عن الآخرى، مثل الصينية والعربية. فما رأيك في ذلك؟ كيف قمت بترجمة الشعر العربي إلى الصينية، وهل ترى أنك نجحتَ في نقله نصًا وروحًا؟

- فعلًا. لقد ترجمت شيئًا من روائع الشعر العربي، قديمًا وحديثًا إلى اللغة الصينية. ولكن، مازال ذلك قليلًا كشعرة من بقرة، أو قطرة من بحر. فإذا كان هناك من يقول إن ترجمة الشعر أمرٌ مستحيل، أودّ أن أقول إن ترجمة الشعر أمرٌ مُمكن ولكنه صعب، فإذا كانت ترجمة الشعر مستحيلة، فكيف يقرأ القارئ فيعرف ويتذوق الشعر المكتوب باللغة الأجنبية التي لا يعرفها. أما من قال إنه إذا كان من الممكن نقل المعاني، فإن روح القصيدة وعناصر الإبداع فيها لا يمكن نقلها، فليس لي أن أوافقه على هذا الرأي كل الموافقة. فبصفتي مترجمًا للشعر عليّ أن أعترف أنّ ذلك أصعب، مثل ذلك مثل من يحفن الماء بكفّيه، فلا بدّ للماء أن يرشح ويتسرب قليلًا أو كثيرًا. ويتوقف ذلك إلى حدٍّ كبير على مستوى المترجم في الإدراك والتذوق والإبداع الشعري، وكذلك على جدّه وجُهوده. فمترجم الشعر يعمل كنحّات أو صائغ، بدقة وعناية، وأجد أنه إذا كان المترجم نفسه شاعرًا يستشفّ الشعر، فترجمته لا بد أن تكون أجمل وأفضل بكثير من ترجمةِ من لا يعرف الشعر. أما ترجمة الشعر العربي إلى اللغة الصينية فهي حقًا أصعب الترجمات، إذْ تعتبر كلتا اللغتين الصينية والعربية أصعب اللغات في العالم، وكما قلت إنهما لغتان بعيدتان كل البعد إحداهما عن الأخرى، لكن من الحظّ أنَّ كلا الشعرين الصيني والعربي الكلاسيكيين لهما خصائص متشابهة، فمعظم ما فيهما شعر غنائي يلتزم بالعروض الصارم الحازم، وأنا ظللت منذ نعومة أظفاري مغرمًا ومولعًا بالشعر خصوصًا الشعر الصيني القديم، وفي المدرسة الثانوية كنت من هواة تلاوة الشعر تلاوة تعبيرية ولمّا تغلغلتُ في دراسة اللغة العربية والأدب العربي. ثم أنا أحببت الشعر العربي معجبًا ومسحورًا به، فحاولت أن أترجم بعضه ملتزمًا بمبدأين اثنين: أولًا، لا أظلم المؤلف العربي، وثانيًا لا أظلم القارئ الصيني. يعني ذلك أني أبذل أقصى جهودي في أمانة النقل في عملية الترجمة، ففي ترجمة الشعر أحاول جاهدًا أن أحافظ أمينًا على الشعر العربي معنىً ومبنىً، نصًا وروحًا، لكي يقرأه القراء الصينيون ويتذوقوه فيشعروا بأنه مثل قصيدة أو قطعة شعرية بالصينية.

  • لقد كانت العلاقات بين المسلمين العرب وبلاد الصين قوية جدًا في الماضي، في مختلف المجالات وعلى الأخصّ على الصعيدين الثقافي والتجاري. وخير دليل على ذلك وجود عدد كبير من المسلمين هناك. لكن اليوم، كيف ترى هذه العلاقة؟ وما هي الأعمال، الأدبية وغير الأدبية، التي يجب القيام بها في نظرك حتى تتوطّد أواصِر الصداقة العربية - الصينية في المستقبل؟

- فعلًا، منذ القِدم ظلت العلاقات بين المسلمين العرب وبلاد الصين قوية جدًا، فالأمة الصينية تتكون من 56 قومية، من بينها عشر قوميات إسلامية يبلغ عددُ سكانها حوالي ثلاثين مليونًا، فهذا يدل دلالة أكيدة على هذه العلاقات المُميَّزة. وبما أن كلتا الأمتين الصينية والعربية تنتسب إلى العالم الثالث وتُعدّ من الدول النامية، وكما ذكرنا آنفا بينهما الكثير من وجوه التشابه ونقط الالتقاء، فإنه من الطبيعي أن تكون العلاقة بينهما علاقة شراكة استراتيجية وأن يكون من الواجب أن تتوطّد وتتعزز أواصر الصداقة العربية - الصينية مع مرور الأيام في المستقبل. إنّ وجوه التشابه ونقاط الالتقاء في معاناتنا وفي مسيرة تاريخنا، نحن أبناء شعوب الصين والدول العربية، جعلتنا نتبادل التعاطف والتأييد والتعاون، ويظهر ذلك في الميادين السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية وغيرها. ففي العام 2004، عندما التقى رئيسُ جمهوريتنا هو جين تاو بالسيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية طُرِحت أربعة أسس تهدف الى تحقيق طفرة في علاقات الشراكة بين الصين والدول العربية. وفي البيان بشأن إقامة «منتدى التعاون بين الصين والدول العربية»، لقد حُدِّدت تحديدا أوضح المجالات الأربعة للتعاون الصيني العربي: السياسية، والاقتصادية والإنمائية والثقافية.فبالنسبة إلينا نحن المثقفين نجد أنَّ توسيع وتعميق التواصل الثقافي بما يحقق الاستفادة المتبادلة هو أساسٌ من تلك الأسس الأربعة، وهذا من واجبنا الطبيعي ورسالتنا التاريخية، فعلينا أن نقوم بالتواصل حضاريًا والتبادل ثقافيًا لزيادة التقارب والتفاهم بين الشعبين العربي والصيني.

  • لقد نلتَ جوائز كثيرة على أعمالك في الترجمة والتأليف، وكان آخرها جائزة الشيخ زايد وجائزة خادم الحرمين الشريفين. في نظرك، هل تكفي مثل هذه الجوائز السخية في النهوض بالفكر العربي وبالثقافة العربية إلى مصاف الثقافات العالمية؟ وإذا كان هناك من أعمال أخرى يجب القيام بها، ما هي برأيك هذه الأعمال، وكيف العمل على تنفيذها؟

- في الحقيقة، أنا أحبّ أن أحلم. لقد حلمت طول حياتي أكثر من ألف حلم وحلم. ولكن لم أحلم قط بمثل هذا الحظّ السعيد، فقد فزت في تلك السنة بجائزتين عربيتين كبيرتين. بعد أن فزت بجائزة الشيخ زايد للكتاب كشخصية العام الثقافية من قبل الإمارات العربية المتحدة، فزت بجائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة كأحد المكرّمين من قبل المملكة العربية السعودية.

أنا أرى أن كل ذلك لا يُشرّفني ويكرّمني أنا شخصيًا بل يشرفنا ويقدر أعمالنا جميعًا، نحن الأخوات والإخوان في أسرتنا الكبيرة أسرة المستعربين الصينيين. إنّ أمثال هذه الجوائز السخية يدل على أن الحكام والحكماء العرب يتحلون بطول البصر ونفاذ البصيرة في المجالات الثقافية والحوار الحضاري الثقافي بين الأمة العربية والأمم الأخرى، ولقد تأثرت كثيرًا عندما قرأت ما قال الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله في العام 1977: «إن أكبر استثمار للمال هو استثماره في خلق أجيالٍ من المتعلمين والمثقفين، ولقد منّ الله على هذا البلد بالخير، وآتاه الفرص لبذل المال في خدمة العلم، وليس لنا أنْ ندع هذه الفرصة تفوتنا، بل علينا أنْ نُسابق الزمن، وأن تكون خطواتنا نحو تحصيل العلم، والتزوّد بالمعرفة أسرع من خطانا في أي مجال آخر». إن أمثال هذه الجوائز السخية يذكرّني بالخلفاء العباسيين الذين أسّسوا بيت الحكمة وحركة الترجمة القديمة في جزيرة العرب وفي الأندلس وكذلك حركة الترجمة في نهضة الحضارة العربية والإسلامية الحديثة. فلا بدّ من أن تقوم مثل هذه الأعمال بدورٍ مهمٍّ في النهوض بالفكر العربي وبالثقافة العربية إلى مصاف الثقافات العالمية.