النهر ينحسر... (قصة × صفحة)

النهر ينحسر... (قصة × صفحة)

هذه المرة كان الصيف حارًا فوق العادة, وصار أهل مطرانة مع النهر كزائر يعاود مريضه, والنيل الذي كان بالأمس عاتيًا كاسحًا يتحوّل اليوم إلى ألسنة وجزر رملية صغيرة, وكثبان ترابية تزحف على أطرافه كالمرض الخبيث, والماء يتملّص ويتلوّى خلالها في عناء, ليواصل مسيره البعيد إذا بلغ.

بين قرية مطرانة والنهر, يمتد شريط من الغابة, التي تبدو كالحة على هياكلها الخشبية. وهذا الصيف, جاء مبكرًا, وبقي طويلاً كضيف ثقيل عند لئيم مقيم, وعمّ الناس ظن بعدم قدوم الخريف. وفي كل صباح, يخرج الأهالي ليشهدوا تراجع النهر, ويغرزون أعوادًا, ويضعون حجارة على حافة الماء, لمعرفة مدى انحسار النيل في الغد. وفي رحلتهم اليومية, يتبادلون الثرثرة والضحك, ولا ينسى النساء حزم الحطب عند عودتهن, والصغار يمرحون بين شجيرات الطندب, ولا يخشون أذى الشوك, أما الشباب, فيستبطئون الخطى, ويلذون الحديث الهمس وأشياء أخرى. وكل من في الرحلة, نسي أو تناسى الحال الحرجة للنيل, التي تنذر بخطر مقبل, لا يحسّه بعمق وألم إلا العجزة والمسنون والمقعدون بالقرية لأسباب أخرى, الذين تصلهم بعض أخبار النهر كل ضحى جديد. وطوال حياتهم, كانوا يتمنون من الله ألا يُريهم أو يُسمعهم مكروهًا عن النهر, لكن الأقدار أقوى, فهي لا تراعي ظروف وفئات الناس, فإذا بنصف تخوّفهم, يحدث فيزيدهم حزنًا على ضعفهم القدري في الضعف وقلة الحركة, أو عدمها, فركبهم إحباط أثّر على شهيتهم للطعام, وزاد من حدّتهم في الكلام, فخشي ذووهم عليهم, فكتموهم خبر النيل, أو حدّثوهم بهدوء, وفأل حسن كقولهم: (النهر على ما يرام), ومازالت لأيام الخريف بقية, ورحمة الله قادمة, وبعض الخير لاينزل إلا مع الضيق الشديد.

موسم الحر يزداد لهيبًا, ويصفع وجوه الأحياء والأشياء بعنف, وتكاد الأرض تبلغ ما عليها, والنيل يواصل تراجعه, وتسرى ماؤه ببطء كمحلول وريدي لمريض يحتضر. والناس في فوران, ويكاد يلفهم الاختناق, وأقبلوا على الماء كالهم, وكادت أجسادهم تتفسخ تحت ملابس كالصقيع يشوي الجلود, فاحتموا بخيش الكتان المبلل, وخرجت الحشرات والزواحف من جحورها, لتنجو, فماتت خارجها, واختلط بكاء الأطفال مع صياح الدجاج والحمام الذابل المتهافت, بحثًا عن قطرة ماء, وصار الناس في حال كأنهم على آخر عهدهم بالدنيا, وأول أوانهم بالآخرة, وتحوّلت بلدة مطرانة المفزوعة إلى مقلاة كبيرة تحتها جمر, فوقها عذاب, ولا يبقى أخيرًا إلا التلاشي. وهذا الصباح بالذات, لم يستطع الأهالي القيام بمشوارهم الصباحي صوب النهر لشدة الحرارة منذ الفجر, وحينها غسلوا وجوههم لسحب العرق قبل طرد النعاس واستقبال الوضوء, وهناك رغبة بمغادرة القرية, لكن كيف?! وبالفعل فرّ البعض.

سأل أحدهم والده, وهو شيخ كبير يتدثّر في ثوبه الرطب (ما هذه السخانة)?!

فردّ العجوز متمنيًا مترقبًا بقول صار مثلا يروى: (حرارة تعود بمطر). وفي تلك اللحظات, كانت أدعية الناس ملحاحة, والله يحب ذلك ويستجيب بالخير لكل حي, وأيّ شيء, فاستجاب القدر, وتحوّل بياض النهار الحارق إلى نعومة وحُمرة أقرب إلى إشراق شفق منه إلى...إلى غيمة ممدودة كالظل). منعشة, مشبعة وواعدة بالبشرى. وأخيرًا لاح برق, وطربت سماء, واحتفلت رمضاء بماء يغلي ويسيل كالدهن أو هو أشد. وخرج الجميع يطفئون أشواقهم, ويبردون, وقد التصقت ملابسهم عليهم, فكشفت أجسادهم النشوى, أما أطفالهم, فبينهم وحولهم حفاة عراة غرلاً, وقد رفعوا وجوههم, وبسطوا أذرعتهم كأنهم يريدون تقديم أنفسهم قربانًا للسماء.

وفي الصباح التالي مباشرة, زادت لهفة الناس لرحلتهم النهرية لمراقبة الشواهد الحجرية والوتدية, وفور وصولهم, صعقتهم الدهشة عندما وجدوا جميع المقعدين والمسنين سبقوهم إلى هناك, وهم يتأملون الماء المتعكّر, أو يستمتعون بصوت النهر, الذي ارتفع ذراعًا واحدة فقط.

 

حياتي محمد أحمد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات