الفلسطينيون يقاومون حتى بالكتابة على الجدران

الفلسطينيون يقاومون حتى بالكتابة على الجدران

لماذا يخشى الغزاة تلك الكلمات المكتوبة على الجدران? هل يدركون أن من يكتب اليوم سيقاتل غدًا?

كنا أطفالاً حين مررنا في الطريق إلى المدرسة في بداية السبعينيات, وقد رأينا هدوء القرويين على غير العادة, وبعض الهمس والإشارات, كانت الجدران تعج بعبارات حمراء: سنقاوم, فلسطين عربية. أصحاب الجدران خافوا, ومنهم من مسح الشعارات خشية الجنود المحتلين.

كانت تلك الكتابات بداية وجود تنظيم حركة فتح في قريتي. بالنسبة لنا كأطفال أحببنا ذلك الشخص الذي كتب بكلمات وحروف كبيرة ولم يخش الاحتلال.

بداية التنظيم, بداية الثورة, مقدمة لاشتباك قوات الاحتلال معها, ولن يطول شهر عسلها مع الأرض المحتلة, وهو إيذان بشر قادم على الاحتلال.

أحسنت الفنانة أليانا كازاليت حين ذيلت خطابها عن معرضها (الكتابة على الجدار) باقتباس من إنجيل دانييل (كما هو مكتوب في النشرة المترجمة إلى العربية, والأصح هو أن دانييل من العهد القديم), بما يمكن تفسير غضب الاحتلال من الكتابة على الجدران, (فعندما ظهرت يد غامضة تكتب على الجدار, وقد كان بلشازار يتناول طعام إفطاره, فزع ورأى أنها تنذر بسقوطه وسقوط مملكته, وقد ذبح بلشازار تلك الليلية). (دانيال 5: 5-31).

لذلك فإن Brewerشs dictionary of phrase and table, يقول: معرفا عن الكتابة على الجدار: إنها تقال عن شيء ينبئ بالمشاكل والكوارث.

أسلوب للمقاوم

صعب أن نعزل معرض الفنانة المصورة أليانا كازاليت البريطانية, الذي جاء باسم (الكتابة على الجدار) عن السياق الثقافي والسياسي للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال, حيث عرف الفلسطينيون الكتابة على الجدران بعد عام 1967 في الضفة الغربية وغزة, كما عرفوها خلال الحكم العربي قبل الاحتلال, كما عرفوها زمن الانتداب البريطاني على فلسطين, حيث شكلت الكتابة أسلوباً من أساليب المقاومة والتمرد والنضال ضد الاحتلال.

وبعيداً عما ذكر في العهد القديم, ذلك الذي اقتبسته أليانا, وبعيداً عن الشعار السياسي الذي ساد ويسود خلال الحكم الأجنبي للبلاد, أو الحكم الجبري في النظم التي لا ترضى عنها الشعوب عالمياً, فإن الكتابة على الجدران بشكل عام, هي أسلوب ثقافي, فقد ذكر البروفيسور شريف كناعنة أنه يتوقع وجود كتابات لآيات قرآنية, أو أبيات شعرية لتأريخ عمارة البيوت, ولتأكيد دلالة معينة, أما عن وجود الظاهرة الكتابية على الجدران في الحضارات القديمة, فقال إن ذلك يعتمد على من كان يعرف القراءة والكتابة, التي كانت مقصورة على النخبة الأرستقراطية, لذلك أستبعد وجودها.

على كل حال فقد عرفنا هنا في فلسطين, وبشكل خاص في المدن في مناسبات الأفراح والأحزان, والشعائر الدينية, هذا النوع من الكتابات, وخذ الحج مثلاً على ذلك, حيث تزدان البيوت من الخارج بكتابات ترحيب وشكر ومحبة, مصحوبة برسومات. وقد وظف بعض الفنانين الفلسطينيين ذلك في لوحاتهم التشكيلية, كما في لوحات طالب الدويك حين رسم جدران القدس العتيقة.

وقد يكون فعل المحاكاة في الكتابة على الجدران في ظل الثقافة العربية الإسلامية, قد جاء من خلفية سابقة من ثقافة المكان القديمة, بالإشارة للكتابة على الجدران الفرعونية, وما يؤكد ذلك أن أصحاب الديانات يسلكون حتى الآن هذا السلوك الكتابي الجمالي.

وربما حاكت الطبقات الشعبية في الحضارات القديمة في احتفالاتها ما صنعته الطبقات العليا من كتابة ورسوم وشعائر دينية وتاريخية على الجدران كما في الحضارات الكنعانية والفرعونية والأشورية.

الكلمات تقتل وتفضح

وما إن وطأت أقدام الاستعمار بلادنا العربية ومنها فلسطين, حتى وظف أهل البلاد ثقافة المكان بالاحتفال الكتابي في مقاومة الاحتلال, خصوصا في المدن كما دلت على ذلك الروايات الشفوية, فتقدمت الكلمات تقاتل وتفضح الاستعمار, وتشجع الشعوب على الثورة ورفض الدخيل الأجنبي. وظلت تقنيات الكتابة على الجدران تتطور فلسطينياً من خلال الطباعة والرسم, حتى أصبحنا مشهورين فيها. وليس هذا فحسب, بل إننا جعلنا المتضامنين الأجانب واليهود يحاكون فعلنا, فظهرت الكتابة باللغات العربية والإنجليزية والعبرية, وقد استخدموا جميعاً جدار الفصل العنصري مكاناً لكتاباتهم ضد الاحتلال بشكل مقالي, وليس على شكل عبارات فقط, والشكل المقالي ظهر من الفلسطينيين أولاً كما في شارع رام الله بالقدس مقابل مخيم قلنديا مثلاً.

ولأن الوعاء لهذه الكلمات هو الخط العربي بجماليته المعروفة عالمياً, وبسبب شيوع هذه الظاهرة, وكبر خط الحروف في جدران غزة بشكل خاص, فقد جذبت كلمات الجدران هذه المصورة البريطانية أليانا كازاليت, ويبدو أنها انجذبت لها جمالياً, ويمكن تلمس بعض الجذب الاستشراقي لهذه الظاهرة السياسية الاجتماعية الثقافية.

من خلال معرض أليانا في مؤسسة القطان برام الله يمكن رصد الكلمات المصورة على الجدران, التي التقطتها كاميرا أليانا, ويمكن تأمل دلالاتها وسياقاتها ومحيطها المكاني, ودلالة ذلك فنياً وثقافيا واجتماعيا على النحو الآتي:

  • من حيث الدلالات, ظهرت خلال الصور ظاهرة الانتفاضة, والتقسيمات السياسية للفصائل, كما قرأنا خلفية ثقافية من باب وجود كتابات للاحتفال العام (أهلاً وسهلاً) بالأفراح, كما رأينا توظيف الشعر في الكتابة على الجدار (امض حماس وحطمي الأصفادا).
  • مكانياً وشكليًا, اعتمدت كاميرا المصورة على تصوير العبارات منفصلة, أو متصلة بمحيطها (مكانها على الجدار, أو مكانها على الجدار وما يظهر من بيت أو شجر, أو ما يمر بجانب الجدار من أطفال يلعبون أو يحملون حجارة, أو سيارة, أو باعة متنقلين).كما صاحب الكلمات رسومات, أو تزيين جمالي لوني للكلمات من حيث زخرفتها.

وكون الخط العربي - بأنواعه التي يبدع فيها خطاطو غزة - جمالياً بما فيه من انسيابية وحركة يمكن تتبعها من حرف إلى آخر, بل داخل كل حرف على حدة, وكون المصورة على علم بالمنظور الفني في التصوير, فقد أمكنها التقاط صور للكتابة على الجدران أظهرتها بشكل حيوي, سواء من خلال التجزئة, أو التمدد, ساعدها على ذلك أن الخطاط كتب عباراته الكبيرة على لوحات الإعلانات الضخمة غير المتصلة ببعضها بعضًا للوحة واحدة. حيث ظهرت سلاسل الكلمات تحاكي سلاسل اللوحات, مما أعطى الكلمة أو العبارة, فرصة أن تكون لوحة بحد ذاتها, وهذا يعطيها فرصة التأمل من قبل المشاهد, عربياً كان أو غير عربي, حيث يأخذ هذا الشكل (القديم - العصري) بالمشاهد إلى تأمل عميق لما هو واقع, وتأمل الأسلوب والأداة كذلك.

الجميل والسيئ

وهنا قد يقول قائل: هناك عمل مدر للربح للخطاطين في غزة, أو أن خطاطي حماس والفصائل الأخرى, لديهم ذائقة جمالية, أو أن للفلسطينيين بشكل عام ولغتهم العربية جماليات عذبة, وقد تكون هنا رؤية استشراقية تقليدية في نظرة الغرب إلى الزخارف العربية اللغوية. وقد يتعمق التحليل إلى أن ما يكتب على الجدران يصبح له صفة القدسية والتعظيم, فليس من السهل الكتابة, وهناك ضريبة يجب تقديمها حتى يكتب عن أحد أو جماعة.

ولا ننسى أن الكتابة على الجدران هي شكل من أشكال الاتصال الجماهيري اليومي أيضاً للدعاية والتأكيد والوصف والمدح والفخر (والهجاء للاحتلال وتخويفه).

لكن, وبالرغم من كل ما قد قيل, فإن تأمل الخط الجميل هذا في غير مكان واحد في فلسطين, وتأمل واقع حياة الشعب الفلسطيني الصعب يدفعنا للقول - متلاعبين باللغة أيضا من خلال زخرفها اللغوي, الذي لم تره كازاليت, لنمزج ما بين الطباق في (الجميل والسيئ) والتصحيف في (الخط والحظ) معبرين عن مجمل الحال - أن: صاحب الخط الجميل ذو حظ سيئ.

 

تحسين يقين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الفنانة أليانا كازاليت التي أعدت معرض (الكتابة على الجدران)





أسماء الشهداء الفلسطينيين تحولت الى لوحات جدارية تذكر الجميع بدماء الذين ضحوا





كل فصيل فلسطيني وجد له جدارا يكتب عليه.. حتى الكلمات تقاوم





حركة الجهاد تحث المواطنين على التسجيل في جداول الانتخابات.. الجدران هي خير إعلان