محمد علي شمس الدين وسيمون نصار

محمد علي شمس الدين وسيمون نصار

نفسي صندوق أسود.. والقصيدة طائرة
ارتطمت على الصخر ليعرف القارئ سيرتها!

  • كتبتُ قصائدي الأولى بهاجس معرِّي وفي التصوف التقيت بصلاح عبدالصبور والبياتي
  • الشعر متعة وجودية مثل الحب والموسيقى والغناء
  • حافظ شيرازي كان أمينًا لمشرقيته الإسلامية
  • لست شاعرًا جنوبيًا وأنا خارج إطار هذه التسمية

ليس محمد علي شمس الدين مجرد شاعر يمتهن الشعر منذ حوالي أربعين عاما, بل هو إلى ذلك صاحب تجربة غنية ومتفردة في سياق حركة الشعر العربي, وهو يملك رأيا متفردا في الشعر والقصيدة, رأيا مضادا لا يتساوى معه فيه أحد من الذين حرقت أصابعهم نيران القصيدة واحترقوا معها. وهو يعد اليوم من كبار الشعراء العرب لأنه من جيل لم يبق منه - مع الأسف - سوى القليل, ومن مدرسة شعرية لم تعد تضم في صفوفها سوى أفراد متناثرين, لا تربط بينهم رابطة فكرية أو فلسفية أو وجودية. وعدا ذلك فإن لشمس الدين آراء في غيره جريئة وواضحة, وأيضًا في الوطن والوجود وجدوى الشعر.

في بيروت كان اللقاء مع شمس الدين الذي فتح كل خزائنه القديمة المغلقة, وقال كل ما يجول في رأسه من أفكار حول قصيدته هو وقصائد الآخرين, يحاوره سيمون نصار, الصحفي اللبناني الشاب.

  • بداية, أبدأ من حيث تقول أنت دوما إن الشعر جاءك من ملازمتك لجدَّك, وواضح أنه موجود في كل دواوينك ماعدا الأخير?

- أعتقد أن الشعر بالنسبة إلي جاء من مصدر أسمّيه الغيب. وجدي جزء من هذا الغيب لأن ارتباطي به هو ارتباط بالطفولة والصبا, وهي مرحلة سديمية وتأثرية وعاطفية, وفي الوقت عينه مرحلة أولية, تتكون فيها الشخصية وتنطبع بصماتها في النفس والروح, صوت الجد, الأذان عند الفجر, الأوراد الكربلائية. وينطبع السلوك الذي كان يسلكه وأنا في كنفه, فهو رجل دين ورجل طقوس في القرية, في الريف الأول الرعوي المسحور. وكان حين تأتي له امرأة تقول إن ابنها مريض يرقيه, وربما فتَّ ترابا على جبينه أو سقاه ماء ثم يشفى الولد. وكان إذا شردت للقروي غنمه يأتي إليه ليربط عنها لسان الذئب أو الوحوش الضارية, فيعتقد القروي أنه لن يستطيع ذئب أن يأكلها, وحين تعود يعتقد أن هذا الرجل عقد عن غنمته الضالة لسان الذئب.

أنا نشأت في هذا الكنف السحري الديني, وبالتالي أعتقد أنه من هناك زرعت في نفسي بذرة الشعر الأولى, هذا الشعر الذي يلوذ بما سميته طقوس السحر الأول, وأيضًا العمق الديني للأشياء. ثم يضاف الصوت, الصوت في المئذنة أو في حنجرة الشعر.

بين الحلم واليقظة

  • نتحدث عن تأثير الغيب في تكوينك الأول, هل لهذا السبب شعرك معجون بالأسطورة, ويمتلئ بكم هائل منها وأبعاد غيبية وزمنية ودينية مختلفة, وكل هذه نقرأها في القصيدة?

- تمامًا, هذا المنطلق للشعر في الزاوية اللامرئية من نفسي, في الغرفة السوداء, وبعض مافي هذا الصندوق الأسود, معروف وبعضه مجهول. لذلك فهو يتصاعد كلمات وأحوالاً ورؤى فيها الكثير من الغموض. الآن أنا أشبّه القصيدة حين أكتبها وأنتهي منها بطائرة ارتطمت على الصخر لكي يعرف المستقرئ - أو حتى أنا حين أقرأها من جديد - سيرتها أو حيثياتها العميقة, ولا يبقى لنا منها سوى الصندوق الأسود للقصيدة, وهذا الصندوق فيه حقيقة, وفيه جروح وإشارات تعود إلى هذه الطفولة الأولى والثانية التي على ما أعتقد نظمت خطي البياني في الكتابة والتأمل والمعنى.

  • في قصيدة (الوجه والقناع) من إصدارك الموسوم بعنوان غيبي (ممالك عالية) نجد أنك وبعد هذا المراس في الكتابة تبحث عن نفسك. أين كنت وأين أصبحت, خاصة حين تقول: (وتزوجت خديجة ذات مساء من أزمنة عبرت وولدت عليا وثلاث بنات زرقاوات منها والرابعة اقترفت مثلك نار الشعر فصارت لهبا مشتعلا)?

- هذه القصيدة (الوجه والقناع) هي السرد, والسرد لحيثيات حياتي إلى حدٍ ما بالأسماء. ولكن أنا في الحقيقة حائر في أين هو وجهي, وأين هو قناعي. ومن خلال تدفقات الحياة وتداخلاتها يظهر لي أن سيرتي الذاتية أيضا هي أساس سيرة القصيدة, والكتابة تتداخل فيها الألوان الأبيض بالأسود, والحلم باليقظة, والواقع بالمتخيل. وأشبه لك هذا بمسافر في عربة, سافر بالفعل, وبدأت معه في داخل العربة أحداث معينة ثم أغفى ونام, واستمرت الأحداث في المنام ثم استيقظ, فاستمرت في اليقظة, وهكذا حتى في النتيجة اختلطت عليه الأمور. في أحيان كثيرة أسأل نفسي هل أنا في حلم أم يقظة? هذه المسألة بالنسبة لي إشكال وجودي أعانيه كثيرًا, ثم إنني أنظر إلى الأمور بقاع تاريخي وفلسفي وأفق مخيلة أو شعر وأجد البدايات والنهايات تتداخل, ويتداخل الواقع بالأسطورة. وبالنتيجة كل واقع ينتهي إلى أن يصبح أسطورة وكل تاريخ كذلك. كما أن الأسطورة بحد ذاتها تؤسس شيئا للواقع, أو تعطيه من أسرارها ومحرضاتها, هذه المسائل أعيشها حياتيا في حدود, ولكن كلتيهما أعيشهما في الكتابة, لذلك (الوجه والقناع) هي صورة عن دخول الليل والنهار في طقوس حياتي وشعري.

المتنبي...صاحب المشروع الأكبر

  • من الشاعر الأكثر حضورًا لديك? وبمن تأثرت من الشعراء العرب وغيرهم?

- دعني أقل لك إن لي مرجعيات وصداقات كثيرة في هذا المجال, المعري هو الأول, وكتبت قصائدي الأولى في زمن الصبا بهاجس معرّي, ومازال حتى الآن, يعجبني شكّه, يغريني قلقه ونفسه المنهوشة بهذا الشك. ولايزال صديقي حتى الآن, لأنه يملك قلقا وجوديا قبل أي شيء آخر. لماذا لا أضيف لك عروة بن الورد المسمى (عروة الصعاليك) وهو صاحب روح مشرّدة, ولكن في اللحظة عينها تمكن من توظيف تشرّده باتجاه اشتراكي. المتنبي وهو صاحب أعظم مشروع يذهب من خلاله إلى أن يمسك الشعر بزمام السلطة في التاريخ, السلطة بكل معانيها, وقد تظن أنه راغب في سلطة سياسية, ولكنه كان يريد أكثر منها. وعنده مفارقة, فهو يعرف قوة الكلمات, ولكنه لا يعرف أن قوة الكلمات أعظم من قوة السلطة السياسية, لذلك تجد لديه تناقضا, مثل أنه يسعى في سبيل ولاية سياسية, وهو صاحب أكبر ولاية في الحقيقة التي هي ولاية الكلمات. ولاية الشعر هذه أوصلته إلى مقام سعى إليه من طريق مغايرة في الصبا حيث طلب النبوة وتاب فعاد ووصل إلى ولاية كبرى في الشعر, أشار إليها المعري حين جمع من أشعاره ما أسماه (معجز أحمد) أي معجز أحمد بن الحسن الكوفي, والإعجاز هنا في الشعر, فما فاته في النبوة وقع عليه في الشعر, صاحب أكبر سلطة للشعر في التاريخ هو المتنبي, وأضيف جبران خليل جبران نظرا لأعماقه الروحية الهائلة, هذا الرجل المشرقي العظيم الذي سيطر على الولايات المتحدة من خلال كتاب (النبي) والذي لايزال يباع منه حتى اليوم أكبر عدد من النسخ. أضيف لك أيضا شعر حافظ الشيرازي, ولماذا لا نذكر أنطونيو ماتشادو الإسباني مع لوركا ورامبو ولوتريامون, وأيضا أنطونان آرتو كمريض إبداعي كبير وسوريالي عظيم. أحب أيضا محمد الماغوط وفان جوخ الرسام ورسومه المرضية الصفراء تأسرني. أحب فرنسيس بيكون الرسام الإنجليزي الذي يصور شيئا من العذاب الإنساني في رسومه, ولوحة الصرخة, بدر شاكر السياب, هؤلاء وسواهم أصدقائي في الكتابة, يوسف إدريس الروائي طبعا تأسيسًا على أنطون تشيكوف. أحب أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ جدا, وهناك مروحة كبيرة من أصدقاء الكتابة أضيف إليهم فرنسيس كوبولا كمخرج ومارلون براندو كممثل, أحب أيضا محمود عبدالعزيز في التمثيل السينمائي العربي.

مع الشعراء

  • ألم تتأثر أيضا بعبدالوهاب البياتي لأنه يمتلك مثل ما لديكم, خاصة في الفلسفة والتصوّف?

- في نقاط التصوف لي لقاءات كثيرة مع صلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي, مع هذين الشاعرين بالذات. وأحيانا مع محمد الفيتوري في قصيدته (أغنية لدرويش متجول) وأيضا البياتي, وإنما الفرق بيني وبينه أن عالم البياتي محض طوطمي وثني. ضع جانبًا قصائده الوطنية التي لا تساوي قيمة جادة. وكان يعتقد أنه من خلال هذه القصائد يؤسس مكانًا في اشتراكية الشعر وسياسته وهي أضعف قصائده. ولكن عبدالوهاب البياتي كشاعر طوطمي وثني جميل جدا, وكشاعر لمس التصوّف من خلال (قصائد حب على بوابات العالم السبع) وسواها من القصائد, نعم توجد نقاط تقاطع بيني وبينه.

  • دعنا نذهب إلى الشعر الوطني, ومن خلال قراءتي لمجمل شعرك لم أجد من هذا الشعر الوطني غير قصيدة واحدة كتبت في (حكمت الأمين). وهي تحتوي نوعًا من الثورة بسبب اغتياله. في الوقت نفسه أنت تنتمي لحركة شعرية سميت (شعراء الجنوب) وقد تكون أنت أول شعرائها, ولكن شعراء الجنوب عاشوا ونموا وترعرعوا على ما يسمى شعر المقاومة والتحرير وغير هذه التسميات. أين أنت من هؤلاء, ولماذا لم تكتب قصائد تلامس روح المقاومة بشكل مباشر. وما رأيك في شعرهم?

- رأيي في شعرهم متفاوت. هؤلاء ربما تأثروا بمناخ الشعر الوطني وشعر المقاومة الذي كان له بعض الأبعاد الاشتراكية أو الشيوعية, ودخل شعر المقاومة من الفيتنام إلى شعراء المقاومة الفلسطينية في نسيج قصائدهم ورؤاهم, الأرض والحبيبة والفقراء والشهداء. أنا منذ البداية كان وعيي يقول فيها إن كل شيء من أرض وتراب وناس تموت وحدود وطن كلها تنصهر في جوانيتي المؤسسة على التأمل والحدس حتى الموت. والحياة جزء من هذا الحدس, لأن شعري غير مؤسس على الحدث المباشر بمقدار ما هو مؤسس على التأمل التاريخي والفلسفي معًا. وكما قلت لك, لدي التباسات كثيرة, أنا مثلا لست من رومانسيي تقديس الوطن, ففي قصيدة أريد أن أدق عنق نهر الليطاني على الصخرة, على بلاطة الشتاء, أريد أن أدق عنق هذا النهر وأجعل المياه كالخزان تنثني إلى الوراء, أريد أن أعيد الماء للسماء وأبعث اللهيب في حشاشة الحقول. هذا كله أريد أن أحرقه وأن أدق عنق الماء. وهو ماء الليطاني الذي هو في الجنوب ومن الرموز الوطنية الكبرى. أحد الشعراء أسس ديوانًا شعريًا على اسم هذا النهر (قصائد حب على نهر الليطاني).

أنا أهدد هذا النهر بالموت, وما الذي يريد هذا العاشق العجوز أن يقول. لاشيء. هذه القصيدة تكفي لتعطيك جوابًا حول ما يسمى شعراء الوطن والمقاومة. أنا لا أرى هذا ولا أحبه ولا أعبّره أبدا لهذا الشعر. ما يسمى شعر المقاومة لا عند الفلسطينيين ولا عند الجنوبيين, ولا أعطيه وزنا يذكر وأعتبره من الكلام الاستهلاكي السياسي الذي أنشأته أيديولوجيات فارطة من الاشتراكية والشيوعية وصولا إلى القومية...إلخ.

لست شاعرًآ جنوبيًا

أنا شاعر وجودي قبل وبعد الأيديولوجيات, وإحساسي أسكبه في الكلمات, وهذا الإحساس يتجاوز الحدث اليومي ولا يرتبط به ارتباط الذيل بالفرس, وصدقني لو قلت لك, قليلة بل نادرة هي القصائد التي تذكر وتغنى الآن لشعراء المقاومة, وتلفتني على العكس إنها تضايقني وتضجرني, وحين كتبت القصيدة التي أهديتها إلى (القتيل أعلى التل حكمت الأمين) ولم أذكر الشهيد وحقي في أن أهديها له وهو القتيل. انظر إلى سياقها فلا تجد سوى تأمل في الوجود.

(قُمْ تأمّل/كلُّ من مات على جلجلة الأوطان مات/لم تَمُتْ هذي العصافيرُ على التل ولا مات الحمام/أنت أسلمتَ إلى التل يديك/فانثنى حتى دنا من مقلتيك/ثم غطى وجهك المحروس بالرمل قليلاً كي تنام/كل عام يسقط الثلجُ على الأرض/ويجري في ميازيب القرى دمعُ الغمام/كل عام تنحني فوقَ الرخام وردةٌ تترك جرحا في الرخام).

وأنا أربطها بالحسّ الوجودي وهي قصيدة واحدة لا يوجد في كل شعري غيرها. لذلك أنا لست شاعرًا جنوبيًا بالمعنى الذي طرح. أنا خارج إطار هذه التسمية.

  • إذن وأنت بعيد عن هؤلاء, ما رأيك بشعراء الجنوب?

- أنا من الأساس لم أكن مرحبًا, ولكني لم أكن رافضًا بالمطلق لكيلا يعتبر رفضي متشنجا ولكن إذا كنت تريد أن تعرفني, يمكن ذلك من خلال قراءة قصائدي. أما بالنسبة لهم, فعندي آراء بالبعض منهم وآراء بالآخرين. لا أريد الدخول كثيرًا في التفاصيل, وسأقول رأيي بمن أحب منهم. بعض قصائد إلياس لحود وحسن العبدالله والآخرين عندي تحفظات حولهم ولا يهزني شعرهم.

  • من تعتقد من شعراء الجنوب أنه صاحب الشعر الأبقى في الذاكرة الشعرية?

- يوجد بعض قصائد لمن ذكرت. وبالرغم من أن حسن العبدالله مقل جدا جدا فإن ما كتبه جميل جدا لأن شعره يدخل ضمن السحرية البدائية. وإلياس لحود الذي هو الأثرى في الفانتازيا بينهم. أما مَن تبقى فلا يستوقفني كثيرًا, أقرأهم وأعرفهم واحدا واحدا وقصيدة قصيدة, ولكنهم لا يشكّلون لي محطة, ولا حتى معظم الشعر الوطني الفلسطيني لا يشكل لي أيضا محطة تأمل. أنا لدي الكثير من التحفظات على هذا الشعر.

  • إذن وعيك للشعر وحقيقته منعاك من الدخول في هذه التجربة?

- لم أشعر بأني منجذب نحو الخوض في تجربة الشعر السياسي, لأني كنت في مكان آخر.

  • أين كنت?

- أنا أعيش في الميتافيزيقا. خرجت من كهف سحري ثري اسمه جدي, وحكاياته وصوره, من هذا طلع هذا الشعر وليس من مكان آخر. كنت أقفز من مكان إلى آخر أثناء الحرب الأهلية اللبنانية, ولكني بمجرد أن أنجو أنسى كل شيء. وأكثر من ذلك. الجنوب بذاته لا يعنيني كثيرًا, أحيانًا أسأل نفسي ما الجنوب بالنسبة لي?! أنا أعرف بضعة صخور في قريتي, أما هذا الجنوب الذي صيغ بكلام كبير فلا أعرفه. أنا أقيم في زوايا بيروت أيضا, ثم أنا لم آخذ من جسدي ولحمي, أنا بيتي في الجنوب يعنيني كثيرا, وكتبت عنه أسرارًا, وكتبت عن جبل الريحان لأني صعدته وأكلت صخوره وترابه من لحم قدمي وهو مقيم قبالة عيني دائمًا, حين أكون في قريتي يكون مثلما الأخ الأكبر المشرف عليّ. صخور بلدة بيت ياحون (قرية الشاعر) تعنيني لأن طفولتي أهدرتها عليها وماعدا ذلك مجردات. حتى معنى الوطن يخضع عندي للنقاش, لأنه من الأساس قلت عنه في قصيدتي (صباح التعب) التي كتبتها العام 1982 أي في وقت مبكر جدًا:

(ناوليني حذائي وقلبي/ناوليني العصا وقربة ماء الحياة/ناوليني السفر/إنني داخل في فضاء الحقول البعيدة/ليس لي وطن أو صديق/والهواء الذي يتسرب تحت الثياب/ينحني خائفا أن يلامس قلبي/أقول إذا الشمس عادت لعاداتها/صباح المرارات يا أيها البشر النائمون/صباح التعب).

وهكذا, أود القول إنني حين أتنقل من مكان غير آمن إلى آخر أكثر أمنا يصبح مكاني هو هنا. الآخر يترك لي خوفًا أو ريبة أو شكا. ثم النفس تتطوح في أماكن كثيرة, فقصيدة (شمس محمد) هي وطني.

أنا كائن لغوي

  • يتضح لقارئ شعرك تركيزك على تزويق القصيدة لغويا بالإضافة إلى الغيبيات التي ترتكز عليها, لا وعي القصيدة, هذا التزويق غير موجود في شعر الآخرين ربما لإحساسهم بأن ذلك لا يخدم عفوية وتلقائية الشعر, لماذا أنت تحاول نحت المشهد أو الصورة ومن ثم صناعة القصيدة?

- عندي من الأساس ما أسمّيه شخصيًا غريزة لغوية, أنا شديد الانتباه للكلمات وللتركيب اللغوي, شديد الانتباه أيضًا للشحنات التي تعطيها الكلمات, هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى الدم الذي يجري في عروق الكلمات دم جوهري. لنأخذ - مثلاً - حين أقرأ كاف هاء ياء عين صاد. لا أفهم تمامًا ولكني أحسّ بامتدادات الصوت وبسحر اللغة. ألف لام راء, أو والضحى والليل إذا سجى , أو مكر مفر مقبل مدبر معًا. انظر إلى هذا الرشق.

أنا من صغري هكذا, حتى أكاد أقول إني كائن لغوي, كنت في قصائدي الأولى, خاصة في (قصائد مهربة) إلى حبيبتي آسيا) كنت أميل إلى اللغة البكر الوحشية وإلى الحشد, وخضت المغامرة بلا حساب, لم أنتبه كما قال أحد شعراء الخوارج أنني ركبت حصاني واندفعت به مع نفسي في هاوية الموت ولا أدري إلى أين.

كتبت في( قصائد مهرّبة) قصائد تشارف هاوية الموت:

(للنسر الجائع/للبلبل في المطر الوحشي وللطفل المذبوح على عتبات النهر/لموسيقى الأفلاك/وللفوضى الكونية...).

انظر هذه الكرة التي تتدحرج في منحدر في سيل, كرة ضخمة تتدحرج وتصنع موسيقى, من الأساس هذا كان عندي موجودًا وليس مدبرا بل هو غريزة أصلية, وبعد أن قطعت مسافة في الكتابة وجدت نفسي أمام إشكال, آخرون قالوا جدار اللغة واعتبروا أن جدار اللغة - كما قال الشاعر يوسف الخال - هو أن تكون هناك مسافة بين اللغة التي تستعملها في الشعر ولغة الحياة, بمعنى أنك لا تستعمل سوى الفصحى التي اعتبرها هو لغة ثقافية, في حين أن العامية هي لغة الحياة, فاعتبر ذلك جدارًا. أنا أبعد من ذلك, أقول إن الصخرة التي ارتطم شعري فيها ليست من جهة كوني أستعمل لغة فصحى هي لغتي ولغة حياتي أيضا دون العامية, الصخرة كانت هي المسافة الكبيرة بين ما يبقى غارزا في الصدر من جذوة اللغة أو من جذوة في المعنى وما ينبثق في اللغة, دائما هناك مسافة بين ما يخرج في إشارات الكلمات وما يتبقى راسخا في الصدر, وهذه مشكلة, المشكلة الأخرى أنه ظهر لي, وكأن اللغة هي قناع لحقيقة يصعب التطابق فيها بين الباطن والعناصر فيها. اللغة إشارات في حين أن الحال حال, وكما يقول ابن الفارض (فكان ما كان مما لست أذكره فظنّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر), بمعنى لا تسألني أنا إن كنت أكتب لك ما أحسّ به تمامًا, هذا هو صخرتي, بعد هذا المراس صرت أميل إلى الاقتصاد بالمعنى البلاغي, وتطرفت فملت إلى أن أعطي إشارات ذات احتمالات متعددة بحيث لا أحشر نفسي في مشهدية لغوية أو في ظواهر لغوية, وهذا يصعب التعبير عنه حقيقة بالرغم من أنني ميّال إلى أن أقول:

  • كان يلزمني كي أفسّر هذا الغياب/قليل من الشعر/لكنني لم أكن شاعرًا/ما الذي كان يفعله الشعراء قبل لكي يصلوا/إنها حالتي/أرى لا أقول).

إذن فقد وصلت إلى مرحلة الصمت أو اللاقول, هذه مرحلة حرجة يصعب تفسيرها بالكلمات, وربما مقطع من الشعر يقارب لك هذا الحال بالحقيقة, وهو الحال العرفاني أو الصوفي. اللغة هنا وسيلة أولية, في حين أن المكنون في الصدر لا يعرف إلا من خلال التواصل, كما قال الغزالي (اهتديت بضوء قذفه الله في القلب). وفي يوميات الصمت أقول:

(يا مولاي/أمرتني حين أهاجر نحوك في موكب أشعاري/بالصمت/ولهذا أكتب أشعاري بدم أبيض).

  • إذن أنت بدأت في نمط شعري خاص منذ (قصائد مهرّبة) حتى ممالك عالية, ولكن, يبدو لي أنك تؤسس لمشروع شعري ما, وواضح جدا وجود سلسلة مترابطة بين كل ما تكتبه, وربما هي حلقات العزلة كما أسميتها أنت في أحد كتبك النثرية. إن مشروعك الشعري من الشعر عامة, خاصة أننا نشهد اليوم موجة عارمة للحداثة, وكميات هائلة من الشعر لدرجة أن أمبرتكو إيكو قال إن رسائل SMS اليوم هي شعر أو هي قصائد المرحلة الراهنة والقادمة!

- ليس ثمة من قصد معين بدأت به, وبالتالي ألزمني بخط معين. إن مشروعي الشعري يتكون تباعا من خلال القصائد والمجموعات الشعرية, وهذا الخط الشعري ينطلق من خطوط تتحقق في نصوص.

أولاً ليس لدي قصد في الشعر, الشعر متعة وجودية شبيه بالحب, شبيه بالموسيقى, شبيه بالغناء, ليس لدي بهذا المعنى قصد سوى الشعر بذاته كاقتراح على وجود يتحقق بالفعل ويتطور, هذا الشعر هو ضرورة وجودية ذات مشكلة شبيهة بالحياة ذاتها, لأن التواريخ كلها ما هي إلا فراغ ممتلئ. لو نظرت لرأيت مقبرة واسعة تضم كل الأسماء, هذه العدمية اللاشينية جزء من محاولتي الشعرية, كل المقولات التي ترد, ترد وتنفي نفسها, ربما قصيدة بعنوان (لا يعجبني) تعطيك نموذجًا عمّ حالي في الكتابة والتي أسس عليها محمود درويش قصيدة بالعنوان نفسه في كتابه الأخير (لا تعتذر عمّا فعلت), وأنا قبله بعشر سنوات كتبتها, وهي الصياغة نفسها والنص والجوهر. الشغل الشاغل في النتيجة هو المتعة والموت والأسئلة حول هذا المجهول الذي قذفت به بلا إرادتي, ولكن وعيت ذلك وما بقي في اللاوعي أكبر. تعاملي مع هذا يؤسس لشعريته, أخيرًا أدواتي اللغة, واللغة هي أقنعة وهي احتمالات, لذلك أنا في اللغة صاحب تجريد وصاحب حدوس لغوية, وإذا قلت لك إنني صاحب غريزة لغوية أعني ذلك. بدنيا عندي هذا الانتباه والارتجاف تجاه الأصوات والتراكيب, في اللحظة نفسها هذا العمل كله غير مبتوت عن موسيقى أو موسيقات, وغير مبتوت عن أرجحة المعنى, لأنني كلما حاولت أن أقبض على معنى يتبين لي أنني قبضت على ضوء يتراقص أو على غبار في منشور ضوء أو على ظل. بمعنى أن المعاني راحلة, الكلمات أيضا تتبع مسارب غير يقينية, الغموض الذي يسربل الكائنات حقيقة, وأنا عندي هذا الغموض والموت بحد ذاته يشكّلان أساسًا. ولكن لو بحثت كثيرا لوجدت أن كتابتي الشعرية مؤسسة على قاع فلسفي تاريخي, ولكنها تطير في فضاء متخيل ينتقل دائما من الواقع نحو الأسطورة, ومن التاريخ نحو الأسطورة, ومن المحسوس نحو السحري, ليس هناك حال للاستقرار. هذا كل ما أنا كتبته.

  • هل ستبقى أمينًا للشعر?

- نعم, ولكني أستفيد من الفنون والتقنيات الأخرى. لقد أعجبني عند نجيب محفوظ, ليس روايته الطويلة, ولكن جمالية أن يختصر الرواية بسطرين في (أصداء السيرة الذاتية) وأحيانًا بسطر يعطيك عناصر روائية, فكتب محفوظ القصيدة الرواية. وأكثر من ذلك.

شخصيًا لا أميل لأن أكتب هكذا, ولكني أحب هذا النمط, وهناك بعض القصائد عندي تنطوي على سيرة حكائية ما, أو تخيلا مثل (عودة ديك الجن على الأرض).

  • أحد الشعراء وهو لبناني (شوقي بزيع) كتب عن ديك الجن أيضًا?

- أنا كتبت قصيدتي قبله بعشر سنوات, ويمكنك العودة إلى المصدر, وهو ديوان (الشوكة البنفسجية) الذي صدر العام 1981, وقد كتبتها قبله وقبل سواه. وهي من القصائد التي أخذت مني الكثير لأنها طويلة جدا وملحمية. ليس هناك منافسة, هو جاء بعدي بعشر سنوات, ومَن ينافس الآخر برأيك? وأنا كتبت قبله وبشكل مختلف, وأيضًا أنا أكبره بعشر سنوات على كل حال.

  • قمت أخيرًا بتعريب قصائد لحافظ الشيرازي من الفارسية, ومن المعروف أن الترجمة في غالبها غير أمينة في نقل تجربة شاعر من لغة إلى أخرى, فضلاً عن أن الترجمة للشعر هي بالأصح كتابة نص على جسد أو جثة للنص الأول. كيف استهوتك هذه المسألة, وألا تعتقد بأنك قمت بخيانة على هذا الصعيد?

- بالنسبة لي, هذا الموضوع مستحدث وتجدد لي من خلال زيارتي إلى إيران, حيث لاحظت ما يشبه الإجلال العام لأشعار حافظ الشيرازي, من حيث إنها تطبع هناك على صورة فاخرة, ويحاط اسمه بالتبجيل.

وقد أخذت أشعاره لأفهم السر الذي جعل له هذا الموقع في ذاكرة شعبه, فضلاً عن موقعه لدى شعراء عالميين من مثل الألماني جوته الذي كتب قصيدة بعنوان (حافظ الشيرازي) أهداها إليه في ديوانه (الشرقي الغربي) وقرأته فوجدت ربما ما كان يبحث عنه الغرب على العموم في شعره الحديث وما بعد الحديث. (نشرت (العربي) مقالاً للشاعر حول الترجمة في العدد 547 يونيو 2004م).

الشيرازي كتب قصائد غزل دون أي عنوان فرعي لها, وهي أيضًا مشغولة بوحدة الوجود, حيث إنه لا لون للإنسان في هذه القصائد ولا تاريخ له ولا معتقد يختلف عن معتقد آخر. هي مشغولة بالإنسان في كينونته العامة وفي كل أحواله, حيث إن الإنسان واحد في كل العالم. وهي مشغولة بعدم وجود فواصل بين الأسود والأبيض, بين الشيطان والقدّيس. وأخيرًا استرعى انتباهي كم هو قادر أن يكون رسولاً لمشرقيته الإسلامية والتاريخ, خاصة اليوم حيث يتهم الإسلام بالإرهاب وغيره من النعوت, وأن المسلمين عامة ليس لديهم ما يعطونه للعالم في الحب والحرية والحياة الداخلية ووحدة الكائنات. كل هذا في شعر حافظ الشيرازي, لقد استوقفني وغامرت, أنا لا أؤمن بترجمة الشعر, وأعتقد كما قال الفرنسيون (أن تترجم يعني أن تخون), وقد نصحني الجاحظ منذ ألف عام بألا أقوم بترجمة الشعر بقوله إن الشعر لا يترجم. أيضًا هناك رأي يقول إن الشعر لا يترجم إلا قيمة بقيمة, أي قصيدة بقصيدة, والشعر بوزنه لا يترجم نثرًا, في حين أن كل الترجمات بأشعار موزونة تتم نثرًا, ومن ترجم الشيرازي ترجمه نثرًا, وبعض من ترجموه موزونًا ارتكبوا جرائم شنيعة بحقه لأنه منفر في ترجماتهم. خطر ببالي أن بيني وبين هذا الرجل روابط, أبدأ بالظاهر وأنتهي بالباطن. هو شمس الدين محمد وأنا محمد شمس الدين, هو يطلع من عمق حب وميتافيزيق, وأنا شعري برمته مؤسس على ذلك, أخيرًا هذه الوحدة في الوجود, وأيضًا في الثنائيات موجودة في شعري.

إذن هناك لقاء في لحظة من الزمان بيننا, فلماذا لا أؤسس على شعره شعرًا عربيًا جوهره الفكرة منه والصيغة مني, وهذا ما فعلته, فكتبت 75 قصيدة مؤسسة على جوهر الفكرة, ولكن معربة أي مكتوبة ببيان عربي حديث وقديم يخصني. والصيغة الحالية لي ألف بالمائة, والبيان عربي والإضافات مني.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




محمد علي شمس الدين وسيمون نصار





بعض الدواويين الشعرية لمحمد علي شمس الدين. قصائد خرجت من الصندوق الأسود الذي بداخله على حد تعبيره





لحظات من استعادة الطفولة ومرحها.. وهذه بعض محاولات الشاعر لكتابة قصص الأطفال