بدايات النهضة لديهم.. ولدينا

بدايات النهضة لديهم.. ولدينا

في العدد (559) يونيو 2005 قارن رئيس التحرير د. سليمان العسكري في مقاله المعنون بـ (الإصلاح.. من أين بدأ غيرنا)?, بين تجربة ماليزيا وما سبقها في الهند واليابان, واضعًا هذه الدول في سلّة واحدة تقريبًا, وبين ما آل إليه العرب - حاليًا - في سلة أخرى, مع أن الشواهد تؤكد أن بداية النهضة في كلتا السلتين وقعت في وقت واحد تقريبًا.

ولكن لي بعض الملاحظات إذا أردنا التفرقة, فإذا استعرضنا تاريخ اليابان قبيل نهضتها الأولى التي تبنتها أسرة ميجي, نجد أن حالنا كان أفضل بكثير إبّان تلك الحقبة, فأسرة شوجانية توكاجاوا, حرمت الدين المسيحي ومنعت السفر إلى الخارج, ومنعت دخول الأجانب إلى اليابان, وعُزلت تمامًا عن العالم الخارجي لمدة 223 سنة, ما بين أعوام 1630 - 1853, إلى أن أنهى عزلتها قسرًا الكومودور الأمريكي كالبريت بيري عام 1853, بأن سمح لها بحرية التجارة. وإزاء رفض اليابانيين لهذا, دكّت مدافع بيري الشواطئ اليابانية, ولما أفل نجم أسرة توكوجاوا, ومع بزوغ نجم أسرة ميجي عام 1868 عانت اليابان من ويلات المجاعات وانتشار الأوبئة والأمراض خلال حكم توكوجاوا, ورفعت شعارات مثل محاكاة الغرب, وذلك بسن القوانين الإصلاحية الجديدة وإرسال البعثات العلمية للخارج, وبالرغم من هذا فقد قوبلت هذه الثورات الإصلاحية بتمرد من قبل الطبقة المرتبطة بالشوجن عامي 1874 , 1877.

على الجانب الآخر, تولى محمد علي سدة الحكم في مصر عام 1805, فبدأ التخلص من المماليك في مذبحته الشهيرة سنة 1811, الذين كانوا يناوئونه - تمامًا مثل إقطاعيي الشوجن, وسرعان ما دخل في الحرب ضد الوهابية إرضاءً للباب العالي بين 1811 - 1819, وفي العام التالي أسس نواة الجيش المصري, وفتح السودان, وبعدها بعام بدأ حملة كريت 1821 - 1823, وعلى غرار أسرة ميجي, أرسل أولى بعثاته إلى أوربا سنة 1826, أي قبل ما فعلته اليابان بحوالي أربعة عقود, إذ بعث بأربعين طالبًا منهم رفاعة الطهطاوي, رائد نهضة الترجمة في مصر الحديثة, وبدأ محمد علي يزحف نحو اليونان, تحقيقًا لطموحات دولة كبرى تمتد من الشام إلى البلقان مرورًا بمصر, ولم تعجب هذه المطامح الباب العالي, فأعلن عصيان محمد علي عام 1832, إلى أن أجبر على إبرام صلح كوتاهية في العام التالي, وتم الإجهاز عليه تمامًا, وضربه في (نوارين), إلى أن أرغم على توقيع معاهدة لندن في 15/7/1840, وبمقتضاها انسحب الجيش المصري من سورية, ثم تم تقليص قوة الجيش المصري (مثلما فعل الأتراك بعد ذلك في فرمان 7/8/1879 بتحديد عدد الجيش المصري إلى 18000).

ونسرع خطى التاريخ حثيثًا, إلى هزيمة اليابان وإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونجازاكي في 6 و9 أغسطس 1945, ومن جراء ذلك نصّبت أمريكا حاكمًا عسكريا فظًا على اليابان اسمه ماك آرثر, وكان لا يتورع عن فقء أعين من يناوئه من أهالي البلد, وفرضت عليها قيودًا عسكرية صارمة.

بدأت اليابان منذ إعلان الإمبراطور هيروهيتو رفع الراية البيضاء, وقال: لقد هزمنا في المعمل قبل أن نُهزم في ساحة الوغى, وكانت هذه بداية حقيقية لثورة تعليمية, ويكفي أن الرئيس الأمريكي ريجان أصدر تقريرًا عام 1982, تحت عنوان (أمة في خطر), بعد أن علم أن اليابان تقدمت في مضمار التعليم, بأكثر من عشر نقاط على أمريكا, ومع تطور التعليم, تطورت الآلات الدقيقة من حاسوب وتقنية دقيقة.

وارتبط بهذا إحياء القيم الدينية الأصيلة, المزيد من الطاوية والشنتوية - اللتين تشكلان الهدى الديني لليابان, وبدأت بذور الديمقراطية تنمو وتتنامى كنتاج طبيعي لكل ما سبق, ولعل مبدأ تداول السلطة خير دليل على ذلك, فأضحت صناديق الانتخابات هي لحمة هذا المجتمع وسداه (حتى أن عدد رؤساء الوزارات فيما بين عامي 1900 - 2000 بلغ تسعة وخمسين رئيسًا, منهم خمسة أعيد انتخابهم مرة أخرى, وثلاثة أعيد انتخابهم لثلاث مرات) ولا أعتقد أن مجتمعًا معاصرًا في الفترة الزمنية نفسها - مائة عام - له هذا العدد الهائل نفسه من رؤساء الوزارات.وإذا عرجنا إلى الهند - باختصار - نجد أن غاندي كافح من أجل الوصول إلى الإصلاح سياسيًا, واقتصاديًا, واجتماعيًا ودينيًا, من أجل حلمه في توحيد شبه القارة الهندية, إلا أن أحلامه تهاوت باغتياله علي يد مهووس هندوكي في يناير 1948 على خلفية دعم غاندي للتسامح الديني بين المسلمين والهندوس, واغتيلت أنديرا غاندي, ابنة أعظم تلميذ لغاندي, على يد أحد حراسها من السيخ, ولم تمض تسع سنوات حتى اغتيل ابنها راجيف الذي كان يطوف البلاد في حملة انتخابية?!

كل هذا لم يمنع الهند, التي تحمل في أحشائها قرابة المليار نسمة, من ديمقراطية تتباهى بها بين بلدان العالم الثالث, من تصويت إلكتروني وصناديق شفافة - يُرى ما بداخلها, إلى قضاء حكم نزيه حتى إعلان النتائج تباعًا في بلاد مترامية الأطراف.

في المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز الذي احتفل بيوبيله الذهبي في شهر أبريل الماضي, حدث حوار بين الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر والبانديت نهرو حول الديمقراطية, فقال البانديت: لقد ترعرعت في بيت ديمقراطي وتعلمت القانون في إكسفورد, ومن ثم فإن ديني وديدني هو الديمقراطية لشعبي حتى النخاع, فرد عليه عبدالناصر - كما لو كان يقرأ المستقبل - إن أمامنا قرنين لتحقيق الديمقراطية).

وأصل من هذه النقطة, للمقارنة, فبينما كانت اليابان تضع أولى لبنات تقدمها, بعيدًا عن التسليح والقوات المسلحة, كانت الهند وباكستان تحتفلان بعيد استقلالهما الثاني, وكانت مصر - ومعها ست من شقيقاتها - تخوض الجولة الأولى ضد إسرائيل, سنة 1948, وبعد النكبة بأربع سنوات قامت الثورة الأم في منطقتنا العربية في 23 يوليو 1952, فضلاً عن تسارع وتيرة الانقلابات العسكرية. وما إن بدأت ثورة يوليو تنفض عن نفسها غبار الاحتلال, وموافقة البنك الدولي على قرض لتمويل السد العالي, بما يحمل في طياته من خير عميم للشعبين المصري والسوداني على المدى القريب والبعيدحتى نكث جون فوستر دالاس بوعوده في 19/7/1956 في دعم وتزويد مصر بالقرض, فما كان من عبدالناصر, إلا أن أمّم القناة, وقامت قيامة الدنيا ولم تقعد إلاّ بشن العدوان الثلاثي نهاية ذلك العام في 31/10/1956.

وكانت الخريطة العربية وقتها, إما تحت نير الاحتلال المباشر, أو المقنّع - سوى سورية ولبنان وليبيا - وما إن شببنا عن الطوق بجلاء آخر جنود الإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس, إلاّ وبدأ الآخرون يكيدون لنا كيدًا تارة بمصيدة اليمن 1962 - 1965, وكانت الضربة القاصمة ما حدث يوم الاثنين 5 يونيو 1967, والتي مازلنا لم نبرأ بعد من ندوبها حتى الآن, وبعد مرور كل تلك السنوات على نشوبها, ومن المؤكد أن الكوارث التي تلتها قد خرجت من رحم ذلك اليوم المنكود. لقد أطلت, ولكن الاختصار أصعب, نعم نحن يقع علينا عبء ما حدث لنا, والأمل في أيدي علمائنا ومثقفينا وأبحاثنا العلمية ومعاهدنا التكنولوجية, وإطلاق الديمقراطية الحقة, لا ديمقراطية (الديكور), وتفصيل القوانين حسب الأمزجة والأهواء, ديمقراطية تنبع من داخلنا, لا مجرد رياح تهب علينا, فنتنسم منها ما يعجبنا, ونَلْقي ما لا يروقنا.

علي سيد أحمد علي - الكويت

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات