رئيف خوري رجل المبادئ والأخلاق

رئيف خوري رجل المبادئ والأخلاق

كان المرحوم رئيف خوري أحد خمسة, أو ستة, من أعزّ أصدقائي الشخصيين, ومن أركان مجلة (الآداب), وهم, بالإضافة إليه, المرحومان خليل حاوي ونزار قباني, ونازك الملائكة وعبدالله عبدالدائم - أطال الله في عمريهما. وقد احتضنوا الآداب - واحتضنتهم - وظلوا يوافونها بنتاجهم المتميّز ويدعمونها في مسيرتها الشاقة. وأذكر أن المرحوم رئيف بقي يدعمها بكتاباته منذ صدورها عام 1953, حتى غيابه عام 67 صريع داء السرطان في الرّأس, وطوال هذه الأعوام الخمسة عشر لم ينقطع عن موافاة المجلة بمقالاته ودراساته, وأحيانًا بقصائده.

وأجمل ما كان يميّز هذا الأديب الإنسان وفاؤه, وصدق مشاعره ونواياه وبعده عن الاستغلال, فبالرغم من أنه كان يخوض معركة قاسية مع الكتّاب الشيوعيين في لبنان والعالم العربي, فإنه لم يتخذ من (الآداب) منبرًا له, على شدة حاجته إلى مثل هذا المنبر, وكان يرفض دائمًا أن يتقاضى أجرًا أو تعويضًا عمّا يكتبه فيها, حتى أنه أخجلني كثيرًا بما كان يبذله للمجلة, ولم أجد بدّا من أن أقدم له مجموعة الإنسكلوبيديا البريطانية على سبيل الهدية, فقبلها شاكرًا.

وكان رئيف خوري رجل مبادئ وأخلاق, وكان شديد الجرأة في قول الحق, أو ما يعتبر أنه الحق, وكانت معركته الأساسية مع الشيوعيين تقوم على إيمانه بقومية الفكر, لا بأمميّته, ولا بارتباطه بعاصمة أجنبية, وقد أقرّ له الشيوعيون العرب, فيما بعد, بصواب هذه النظرة (وأعادوا له اعتباره). من هنا كان لقاؤنا مع رئيف خوري على الفكر القومي.

بالإضافة إلى ذلك, خضنا مع رئيف خوري - (أهل القلم) في لبنان - الذين كانوا يريدون ربط الأدب بعجلة الدولة. وكان هو يريد تحريره منها, فنشأت جمعية (أهل القلم المستقلّ), التي كانت في أساس تكوين اتحاد الكتّاب اللبنانيين. وقد تعلّمنا منه الجرأة والشجاعة في المواقف, وكنّا نعتبره قدوة لنا في ذلك.

وعلى جدّيته ورصانته, كان يتمتع بروح فكاهية وخفة روح نادرة. وأودّ أن أنقل هنا ما كتبه ابني الدكتور سماح إدريس في مقدمة كتابه رئيف خوري وتراث العرب: (أذكر والدي يقصّ عليّ حادثة وقعت مع رئيف خوري, حين كانا يمشيان في الساحة الحمراء بمناسبة مؤتمر عقد في موسكو, وإذا بوالدي يحسّ بحاجة ماسّة للذهاب إلى الحمام, ولكنها الساحة الحمراء يا سهيل! وين بدّك تلاقي حمّام بها الساحة?!). ولكن (الحشرة) لا ترحم, فأخذ سهيل يعدو ورئيف, ويفتّشان يمنة ويسرة عن بيت راحة وهما يتضاحكان, ويصيح رئيف, والثلج قد بدأ يكسو الأرض بالأبيض الزلق: (مَن يصدّق هذا يا عالم, يا ناس أنا رئيف خوري بطولي وعرضي في الساحة الحمراء أركض وراء (غائط) سهيل إدريس!

(أذكر أنّي ضحكت طويلاً لهذه الحكاية, التي تنمّ عن روح النكتة عند رئيف).

وأذكر بدوري أنّي كنت قد اقتنيت سيّارة صغيرة من طراز سيمكا لتنقّلاتي في العاصمة, وزارني رئيف خوري ذات يوم, وأراد تركي على عجل ليدرك موعد إحدى محاضراته في الليسيه. فعرضت عليه أن أوصله, ولكنّه حين أراد ركوب السيّارة, عانى من ذلك بعض صعوبة, ثمّ قال لي وهو يحاول أن (يحشر) جسده الممتلئ: أن من يريد أن يركب هذه السيارة بحاجة إلى (كرتة).

وعلى الرغم من أنّي كنت أحبّ كتابة رئيف, فإني لم أكن أحب خطّه, الذي كان يصفه هو بنفسه بأنّه رديء يشبه (الخرابيش), وأعاني صعوبة في فكّ حروفه, ولكن أحد منضّدي مجلة (الآداب), كان قد تعوّد عليه, وكان يقرأه بسهولة. وقد جاءني رئيف يومًا يحمل مقالاً له يريد نشره في إحدى الصحف, وطلب مني أن أدعو ذلك المنضّد المختص لمساعدته في مراجعة المقال, الذي كان يجد صعوبة في فكّ حروفه, التي كتبها بخطّ يده!

كان رئيف خوري رجلاً خفيف الظل, على دماثة في الخلق.

ولايزال جمهور المثقفين في لبنان يذكرون تلك المناظرة الشهيرة, التي دعوت إليها عام 1955, وشارك فيها طه حسين ورئيف خوري بعنوان: (لمن يكتب الأديب للخاصّة أم للكافّة). ونشرتها مجلة (الآداب) في عددها الخامس عام 1955, وكان رئيف شديد الاعتزاز بأن تقوم بينه وبين عميد الأدب العربي علاقة أدبية, ولكنه كان شديد الوضوح في إدانة ما نسمّيه أدب الإلزام, الذي يمتّ إلى توجيه الدولة أو الحزب الحاكم, ويدعو إلى أن يتمتع الأديب بكامل حريّته وفرادته ومسئوليته, وإلى أن يكون ناقدًا للدولة لا مبخّرًا لها.

ولابدّ لي هنا من الاعتراف بفضل المرحوم رئيف خوري على مجلة (الآداب), التي لم يضن عليها يومًا بما يكتب, وعليّ شخصيًا أنا, الذي لم يترك مناسبة إلاّ وكان لي فيها خير معين, وأفضل مشجّع. وكان من أول من كتب عن روايتيّ (الخندق الغميق), و(أصابعنا التي تحترق). وقد وصف الأولى بأنها (الحياة بكل صدقها وطبيعتها, وبكل لمساتها الإنسانية الساذجة أحيانًا في حلاوة تمسّ الشغاف).

ويقول رئيف خوري: (إن مؤلف (الخندق الغميق?!) ليس أول مَن حاول في الأدب العربي الحديث هذه المحاولة التي يصوّر فيها انتقالاً اجتماعيًا من خلال تجربته الخاصة (.....), فالدكتور طه حسين قد حاول شيئًا من ذلك في كتابه (الأيّام), لكنه لم يوفّق إلى ما وُفّق إليه الدكتور إدريس من تصوير هذا الانتقال, تصويرًا قصديًا حافلاً بالحركة والحياة وباللمسات الإنسانيّة).

وقال عن رواية (أصابعنا التي تحترق):

(وهذا الكتاب يقرأ في متعة وشوق (....), وفيه مواقف جمّة يرتفع فيها الكتاب عن محضّ الإخبار والتقرير, ويجلّي حتى يبلغ مرتبة كبار الموهوبين في الفن القصصي سياقًا وحوارًا وتحليلاً وتصويرًا).

وأنهى رئيف خوري مقالته بقوله: (إن الأصابع المحترقة طرفة فنية ووثيقة تاريخية في آن).

إنني أعتزّ بشهادة ناقد كبير كرئيف خوري بعملي الروائي, وأعدّ هذه الشهادة حثّا على المضي في هذا السبيل.

* * *

وأعود لأنقل من مقدمة كتاب سماح إدريس (رئيف خوري وتراث العرب) مقطعًا آخر يصوّر فيه أثر غياب هذا الكاتب العملاق في فترة هزيمة يونيو 1967. يقول سماح: (لن يغيب عن ذهني ذلك اليوم الذي عدت فيه إلى البيت, ووجدت أبي يبكي, كالأطفال, يبكي, ماذا حدث? مات رئيف, أكل السرطان رأسه, كيف يا أبي? قتلته الهزيمة!).

وأروي هنا أنني قبل ذلك بأيام, قصدت مع أصدقاء لي هم الدكتور علي سعد والدكتور أحمد أبوسعد, ومحمد عيناتي, ومنير البعلبكي - رحمهم الله جميعًا -. قرية (نابية), وقد بلغنا أن صحة رئيف خوري متدهورة, وقد فوجئت بما أصابه من هزال وامتقاع, وهو على سرير الموت, فتقدمت منه وعانقته وبقيت دقائق أنشج على صدره إلى أن شعرت بيده تربّت على كتفي وهو يقول: (انهض يا صديقي, أنتم أحقّ مني بالرثاء! سيطويني الموت اليوم أو غدًا أو بعد أيام, ويطوي معي ذاكرتي, أما أنتم, فكيف تراكم ستصبرون على تحمّل الهزيمة?

لقد كنت على حقّ, أيها الراحل الكبير, فنحن لانزال حتى اليوم نتجرّع تلك الهزيمة, التي تخلّف في حلوقنا غصّة قاتلة!.

 

سهيل إدريس

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات