ديمقراطية الرسالة في الواقع.. الممزوجة بقيم وسمات الحياة

ديمقراطية الرسالة في الواقع.. الممزوجة بقيم وسمات الحياة

نشر الدكتور سليمان إبراهيم العسكري رئيس تحرير مجلة العربي الواسعة الانتشار مقالاً افتتاحيًا في «حديث الشهر».

«الديمقراطية ومجتمعاتنا العربية» في العدد (636) ذو القعدة 1432هـ. نوفمبر عام 2011.. ذكر في سياق مقالته الثرية بالأفكار البناءة بقوله:

«وأغتنم الفرصة لفتح الباب أمام مفكرينا وأصحاب الرأي العرب للمشاركة في نقاش هذا الموضوع الذي يشغل حياتنا السياسية اليوم والذي سيترتب عليه الكثير من التحولات في بلداننا العربية، التي تشهد اليوم قوى اجتماعية جديدة تسعى لتشكيل نظم سياسية مختلفة تتأسس على الديمقراطية، لكنها في الوقت نفسه تطرح نماذج مختلفة لمشاريع الحكم في أطروحات ملخصها جدل مستمر بين مشروع الدولة المدنية القائمة على الأخذ بنماذج الديمقراطيات الغربية» (العسكري 2011م، ص8)، نريد تأسيس دولة رسالة وحضارة.

  • والديمقراطية في الانتخابات هي وسيلة لانتخاب واختيار الأفضل من بين صفوف الجماهير للقيادة خلال فترة محددة من الزمن كأن تكون كل أربع أو خمس سنوات، يتم اختبار مصداقية هذا المسئول المنتخب في مدى تطبيق أقواله التي قالها قبل انتخابه بأنه على سبيل المثال لا الحصر سيعمل من أجل تحقيق العدالة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والقضاء على البطالة وتوفير الخدمات، وتثقيف المجتمع ثقافة ربانية كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ (سورة آل عمران: الآية 79) في المجتمع أو المكان والموقع الذي نعيش فيه، وما نراه مجرد شعارات تطرح تفتقر إلى العمل الصالح والمُصلح.
  • وكل مسئول له برنامجه، ومشروعه السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي أو الرياضي أو الفني الذي يريد تطبيقه علميًا وعمليًا على أرض الواقع.
  • والشعب يختبر هذا المسئول أو ذلك الذي جرى انتخابه، ليرى الشعب الذي يعتبر مصدر السلطات، هل يصدق هذا المسئول المنتخَب في برنامجه الذي طرحه قبل الانتخابات وعمل به، أم يفشل في تطبيقه؟ والكلام كثير جدًا ولكن العمل قليل جدًا.
  • فإذا صدق ونجح، وتحرك وعمل في برنامجه الصادق في أقواله، والأمين على تطبيقه، فمن حق الشعب أن يعيد انتخابه لفترة أو مرحلة أخرى، وإذا اختلف وفشل في برنامجه فمن حق الشعب تغييره واستبداله بغيره، حريص وأمين على تنفيذ وتطبيق برنامجه الذي يرضي الله عزوجل أولاً وبالتالي يرضي الشعب الذي اختاره، لتحقيق متطلباته في الحرية والحياة الحرة الكريمة.
  • هذه رؤية مختصرة لتعريف الديمقراطية التي تعتبر وسيلة بحد ذاتها للتداول السلمي للسلطة وليست غاية كما يستخدمها البعض من أجل الوصول إلى كرسي الحكم أو كرسي السلطة، والإمساك به بأي شكل من الأشكال، حتى إذا كان على حساب دماء الشعوب العربية والإسلامية الذي نراه ونلمسه اليوم في ثورات ما تسمى بثورات الربيع العربي، مستخدمين شعار «الغاية تبرر الوسيلة»، وهذه هي طامة العرب والمسلمين الكبرى، التي أخذوها من سياسة الغرب، بعد أن نبذها الساسة الغرب شكلاً ومضمونًا، والإنسان العربي والمسلم هو الضحية.
  • إن ثورات الربيع العربي ثورات استباقية حاكت خيوطها بعض دوائر الشر والشيطان الإمبريالية من أجل التضليل على ثورة العرب والمسلمين العظمى والكبرى التي حان الوقت للعمل بها، ونضج زمن تطبيقها، وإطلاق شرارها التي تريد العودة إلى العمل بأصل الرسالة وتجديد رموزها.
  • والعمل بكتاب الله عز وجل القرآن الكريم الذي يعتبر دستور الأمة الأزلي ومعجزة رسالتها وحضارتها.
  • إن سبب تدمير الأمة، وانقسامها، والاقتتال فيما بينها، ونهب وسلب ثرواتها من أعدائها هو ابتعادها عن العمل بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المطهرة والقاطعة.
  • فإذا عُدنا للعمل بكتاب الله عزوجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم المطهرة، فإن رب العالمين سيرجع إلينا وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا (سورة الإسراء: الآية 8).
  • إن الشرط الأول لتحسين لغة الديمقراطية هو إشاعة الوعي الثقافي والعلمي والتخصصي والتقني وغيره بين صفوف الأمة والدعوة إلى القراءة لله عزوجل، ولا يوجد أفضل ولا أحسن من احترام توقيتات القراءة العلمية والتخصصية والتقنية اليومية المنظمة المباركة والواحدة لله عزوجل بعد كل صلاة من الصلوات الخمس، حتى نمزج العلم بالإيمان، وتوقيتات القراءة العلمية لله عزوجل هي ثلث ساعة بعد صلاة الفجر، وعشر دقائق بعد صلاة الظهر والعصر، وساعة كاملة بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وثلث الساعة بعد صلاة العشاء إلى صلاة وقراءة الفجر لليوم التالي، فالأمة التي تحترم توقيتات القراءة العلمية والتخصصية والتقنية والعامة لله عزوجل أمة منصورة، ومباركة، وأمة تعرف وتعي العمل بمبادئ وقيم وسمات الرسالة، المستلهمة من القرآن الكريم الذي يعتبر معجزة رسالة وحضارة.
  • هذه خطوة أولى صحيحة وربانية إذا أردنا أن نؤسس لثقافة ورسالة وديمقراطية، رسالة ربانية واحدة تنبع من ذات الفرد أو المجتمع.. إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ (سورة الرعد: الآية 11).
  • فإذا أغفلنا هذا الاحترام، وهذا الأمر الرباني الأزلي فإن ذلك يعني أننا فقدنا احترامنا لأنفسنا، وأضعنا اكتشافنا لذاتنا من الداخل، واكتشاف آخر قادتنا الربانيين المؤمنين والملهمين.
  • وإن ديمقراطيتنا نحن العرب والمسلمين تختلف شكلاً ومضمونًا عن ديمقراطية الغرب التي يريد عولمتها وفرضها علينا كما فعلوا في أفغانستان والعراق، فهي ديمقراطية رسالة ممزوجة بالقيم والسمات.
  • وإن جوهر الخلاف في تطبيق الديمقراطية والعمل بها على أحسن ما يرام بيننا وبين الغرب هو أن ديمقراطية العرب والمسلمين الحقيقية التي لم نلمس تطبيقها في أي دولة من الدول العربية، هي ديمقراطية مبادئ الرسالة الثابتة في تطبيقها على الواقع من صدق، وعدالة، وحياء، وعلم، الممزوجة بقيم وسمات وصفات الرسالة التي نطمح للوصول إليها، والقيم هي قيم الله عزوجل، قيم رسالته الأزلية وهي الحب، والخير والحرية، والجمال، التي تربط المكان والزمان والإنسان بالله عزوجل.
  • وسمات وصفات الرسالة أزلية منذ أن خلق الله عزوجل الإنسان، وكرمه أفضل تكريم، وأمر حتى الملائكة بالسجود له، وهي الكمال، والشمول، والسمو، والتجديد، هذا هو مفهوم المفكرين العرب والمسلمين للديمقراطية، هو مفهوم رسالة وحضارة، وبناء، وتأسيس لثقافة ربانية واحدة للجميع.
  • أما الغرب فإنه ينظر إلى الديمقراطية نظرة مختلفة، ورؤيته لها على أنها ديمقراطية المصالح التي تعتمد على ترسيخ الرأسمالية الممزوجة بقيم وسمات الحياة العصرية المادية على حساب المبادئ، ولا نجاح للديمقراطية الغربية من دون رأسمالية.
  • والغرب أساسًا لا يعترف بمبادئ الرسالة ولا بسلم أولوياتها التي جاء بها سيد الخلق وحبيب الحق خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي ربط عبادة الإنسان من خلال المكان والزمان وحركته ونشاطاته وجوارحه وخطواته بالله عزوجل.
  • وإن سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم لم يمنح نفسه حق القداسة، وقال إنه من البشر وليس من الملائكة، وإنه كان دائمًا يستأنس بآراء المؤمنين ويشاور أصحابه في قضايا الحياة والمعيشة والغزوات ضد الكفار والمشركين وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ (سورة آل عمران: الآية 159).
  • والنقطة الثانية في ديمقراطية الغرب: معروف عنها أنها ديمقراطية علمانية، وذلك أنهم فصلوا الدين والإيمان عن العلم، عندما كانت الكنيسة تتدخل في شئون سياسة الدول الغربية آنذاك.
  • وجعلوا من العلم الأولوية الأولى في رسالتهم، وحياتهم، وجاءت ديمقراطيتهم مبنية على هذا الأساس، في حين أن ديمقراطية العرب والمسلمين جعلت من الإيمان والعمل بالرسالة والدين قبل العلم، ولم تفصل الإيمان عن العلم، لأن كلاً من الإيمان والعلم شيء واحد يُكوّن ويُوَلّد عقيدة قوية واحدة هي الإيمان والإقرار بوحدانية الله عزوجل، والاستسلام لمشيئته تعالى.
  • وقد ذكر القرآن الكريم في إحدى آياته المباركة والمعجزة ذلك يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (سورة المجادلة: الآية 12)، إن الاختلاف في الرأي لايفسد للود قضية، وعلينا أن نبحث ونفتش عن القواسم المشتركة بيننا، وأن نمسك العصا من الوسط، حتى نصل إلى نقطة الاتفاق والحوار المنصف والمتكافئ.
  • نحن العرب والمسلمين لا نفرض آراءنا ولا رسالتنا أو حضارتنا على أحد كما ذكر القرآن الكريم لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (سورة البقرة: الآية 256).
  • وبالمقابل لا نقبل من أحد أن يفرض آراءه أو أجندته، أو سياساته أو ثقافته علينا، تحت ذريعة محاربة الإرهاب أو إشاعة العولمة، التي تعتبر لغة استعمارية جديدة تريد الهيمنة على الشعوب، وتهدف إلى عولمة العرب والمسلمين كما فعلوا في العراق وأفغانستان.
  • إن الذين يحاولون فرض آرائهم وعولمتهم، وثقافتهم أو سياستهم أو ديمقراطيتهم المعولمة على العرب والمسلمين واهمون، لأن الديمقراطية الحقيقية يجب أن تنبع من ذات الإنسان، وتحترم واقعه، وصوته، وثقافته، ورسالته، وحضارته، وتحترم مستوى وعيه العلمي أو التقني وغيره، فاحترام القراءة لله عزوجل هي التي تنمّي ذلك.
  • حتى يتمكن هذا الإنسان بملء إرادته، وصفو فكره، ومستوى ثقافته، ودرجة علمه، من أن ينتخب المسئول الذي يراه المُصلح والأصلح لقيادته إلى بر الأمان وشواطئ السلام.
  • إن رب العالمين منح الإنسان حق الاختيار، وهذا أفضل وأحسن تكريم من رب العالمين للإنسان، فكيف نقبل لأجندات خارجية أن تفرض أجندتها علينا تحت ذريعة الديمقراطية، وهي ديمقراطية معلومة تهدف إلى الهيمنة والسيطرة على العرب والمسلمين.
  • فكيف يمكن للأمة أن تقبل بفرض عولمة ثقافة أو ديمقراطية أو سياسة عليها بالقوة العسكرية أو الاقتصادية أو الإعلامية أو الدبلوماسية أو الاجتماعية أو القانونية وغيرها؟ هذا هو السؤال.
  • إن أسباب نزول الآيات في القرآن الكريم كثيرة وفيها المعجزات العديدة ولعل أبرزها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (سورة العلق: الآية 1)، التي كانت أول آية معجزة، وأول أمر رباني من خلال الروح الأمين جبريل عليه السلام، ورسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بعثة رب العالمين حجة على الأميين كافة، وحجته عليهم قائمة ومستمرة إلى يوم القيامة، حتى يعبدوا الله عزوجل حق عبادته ولا يشركوا به أحدًا.. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (سورة الجمعة: الآية 2).
  • وإن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الحبيب المصطفى عبدالله عزوجل إلى أن آتاه الله اليقين، ولكن بالرغم من ذلك فإن رب العالمين لم يعفه من القراءة والكتابة وطلب العلم لله عزوجل، هذا أحد أسباب نزول هذه الآية المباركة، والسبب الثاني أن مجتمع مكة المكرمة في ذلك الوقت كان 90% منهم من الأميين، و 10% من المتعلمين وهناك العديد من الأسباب.
  • الآن ظروف الحياة اختلفت، 90% متعلمين، و 10% من الأميين أو 20% .. فلابد من بعث حجة على المتعلمين والمثقفين، والمفكرين والعلماء، يدعو الخلق إلى أن يقرأوا لله عزوجل، لأن معظم الناس أخذوا يقرأون لغير الله عزوجل، هذا يقرأ لحزب، وآخر يقرأ لطائفة أو مذهب أو قومية أو يقرأ لعشيرة أو عائلة أو من أجل شهادة أو كرسي الحكم أو السلطة أو من أجل شهرة، وحقوق رب العالمين ضاعت في خضم هذه الممارسات الطاغوتية، وإن أي عمل لغير الله هو عمل للطاغوت.
  • إن أحد أهم حقوق الرب علينا عبادته، والقراءة والكتابة العلمية، وطلب العلم لله عزوجل عبادة فكرية وثقافية وعلمية.
  • لأن الغاية التي خلقنا رب العالمين من أجلها هي عبادته وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (سورة الذاريات: الآية 56).
  • فاستفيقوا أيها الخلق من غفوتكم، وارجعوا إلى الله عزوجل من أوسع أبوابه المفتوحة لكم، وهي احترام توقيتات القراءة العلمية والتخصصية والتقنية والعامة اليومية المنظمة المباركة والموحدة لله عزوجل.

ذنون يونس مجيد
الموصل - العراق