العالم بعد عشرين سنة

العالم بعد عشرين سنة

مـحـاضـرة: بـيـنـسـتروب أندريـسـين

تنشر (العربي) في هذا العدد موجز ترجمة وعرضا لمحاضرة مهمة ألقاها عالم ومفكر غربي يعمل مديرا للمعهد الدولي لبحوث سياسات الغذاء, وهي محاضرة تهتم بالصورة المستقبلية لقضايا الجوع والفقر وما يسمى بالإرهاب, وبغض النظر عن مساحة الاتفاق أو الاختلاف معها, فإنها تكتسب أهمية خاصة من العناصر التي تعالجها والرؤية الاستشرافية التـــي تقـــدمـــها. وهـــي بالـنسبة لـ (العربي) مبادرة في هذا المجال وبطاقة دعوة للكتّاب والمفكرين العرب لرفدنا بالمزيد من الرؤى والمعالجات المستقبلية في كل مجالات العلم والمعرفة.

لقد ألقى هذا العالم تلك المحاضرة في مدينة (دي موين) عاصمة ولاية آيوا الأمريكية في 19 أكتوبر 2001 بمناسبة حصوله على الجائزة العالمية للغذاء, تقديراً لجهوده العلمية والإنسانية في دراسة ظاهرة الفقر ونقص الغذاء, ومحاربة أسباب هذه الظاهرة.

وتأخذ هذه المحاضرة قيمة مهمة لعدة أسباب: أولها أن معدها من الأسماء اللامعة والمعروفة في مجال محاربة الفقر ودراسة أسبابه. والثاني أنها جاءت بعد حوالي شهر من أحداث 11 سبتمبر التي هزت العالم في كل أرجائه. والثالث, وهو الأهم, أنها تمثل عصارة وخلاصة خبرة برنامج (رؤية 2020) وهو من أكبر البرامج البحثية التي أجريت في نهاية القرن السابق, تحت عنوان (Vision 2020) أو (رؤية للعالم في عام 2020). وهو البرنامج الذي اشترك فيه مئات من الباحثين, في تخصصات مختلفة, لتحديد مستقبل الغذاء والفقر في العالم في عام 2020.

والسبب الأساسي الذي أغرى الباحث بترجمة وعرض هذه المحاضرة, لقارئ (العربي), هو الرغبة في تقديم أحد الأصوات العاقلة في العالم الغربي, الذين يحاولون, بشكل مباشر وغير مباشر, أن يوضحوا, لشعوبهم, وللمسئولين في الغرب, أن أهم أسباب ظاهرة الإرهاب في العالم هو: الفقر والجوع في العالم النامي.

نختلف لكننا لا نصادر

وعلى الرغم من عدم الاتفاق مع كل ما جاء في هذه المحاضرة فإنها تمثل صيحة حكيمة في الشمال المتقدم من ناحية, كما تقدم أرضية ضرورية لنا في البلدان النامية عموماً, وفي البلدان العربية خصوصاً, لتطوير أسلوب التخاطب والحوار المستخدم مع الدول المتقدمة, وللتمكن من التأثير في سياساته من ناحية أخرى. وهذا هو عرض (العربي) لأهم أفكار تلك المحاضرة المهمة.

لفت الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر الأنظار, في العالم كله, إلى ضرورة القيام عالميا بحملتين: الأولى هي الحملة الجارية حالياً, لتحديد المنظمات التي تدعم الإرهاب العالمي واجتثاثها. والثانية هي ضرورة القيام بحملة هادفة أخرى, موازية ولاحقة, للقضاء على ظاهرة الفقر والجوع وسوء التغذية, ووقف إهدار الموارد الطبيعية. فهذه القضايا هي التي توفر الغطاء للأصوليين والمتطرفين من أمثال (أسامة بن لادن) وللذين يفكرون بطريقته نفسها, ويتصرفون بالطريقة التي حدثت في نيويورك, وواشنطن, وبنسلفانيا في 11 سبتمبر 2001.

وصحيح أن الذين قاموا بتنفيذ تلك الهجمات لا يمكن اعتبارهم من الفقراء, لكنهم تخفّوا وراء المآسي البشرية المتزايدة, واعتمدوا على تعاطف أعداد كبيرة من البشر لا يوجد لديهم ما يخسرونه, وهم مستعدون, ولو بشكل عاطفي, للقيام بأفعال مماثلة أو مشابهة.

ويمثل مشروع (رؤية 2020) رؤية لعالم من الممكن أن يكون خالياً من الفقر والجوع وسوء التغذية بحلول عام 2020, عالم قادر على الحفاظ على موارده وإدارتها بشكل عقلاني. والسؤال الآن, ليس هو: هل سنقدر على تحقيق ذلك? لأن ذلك ممكن. ولكن السؤال الحقيقي يجب أن يكون: هل سنقوم بذلك? وبالطبع, سيتوقف ذلك على ما سنقوم به, من الآن وحتى عام 2020. وبالدرجة الأولى فإن الأمر سيتحدد عبر مَن في يدهم صنع القرار. وبعبارة أخرى فإن القضية قضية تحديد الأولويات, وليست قضية الإمكان من عدمه.

لنستعرض معاً بعض الإحصائيات كي نعرف الإشكالية التي نواجهها. يمثل دخل أغنى 1% من سكان العالم, أي 60 ألف شخص فقط, من بين ستة مليارات من البشر, الدخل الذي يحصل عليه أفقر 57% من سكان العالم. أي أن دخل أغنى 1% من سكان الأرض, يتجاوز بوضوح دخل أكثر من نصف سكان الأرض.

وفي الوقت نفسه يزداد التوزيع النسبي للدخول بين سكان العالم تدهوراً. ففي حين أن متوسط دخل الفرد في الأمم الصناعية, كان يماثل في عام 1960 تسعة أمثال متوسط دخل الفرد في دولة من دول إفريقيا, جنوب الصحراء, أصبح هذا الفارق اليوم أكثر من ثمانية عشر ضعفا. ولا يرجع هذا التزايد إلى الفارق فقط في ارتفاع متوسط دخل الفرد في الأمم الصناعية, ولكنه يرجع أيضاً, وهو الأخطر, إلى تراجع هذا المتوسط في دول إفريقيا جنوبي الصحراء.

كذلك يمكن القول إن الفقر والجوع وسوء التغذية مشاكل قد تعدت كل التصورات. فالمعروف أن حوالي 20% من سكان العالم يعيشون, أو يحاولون العيش, بأقل من دولار واحد يومياً, وهذه النسبة تمثل حوالي 2ر1 مليار نسمة من عدد سكان العالم, منهم 800 مليون نسمة على الأقل ينامون جوعى, دون أن يعرفوا متى سيتناولون وجبة الغذاء التالية, ولا من أين سيحصلون عليها. وهؤلاء البشر هم مَن يطلق عليهم (غير الآمنين غذائيا). ولأن أكثر من 166 مليون طفل في العالم يعانون سوء التغذية, فإنهم يعانون, في الوقت نفسه, كل المشاكل الصحية المرتبطة بسوء التغذية, وخصوصاً عدم النمو الجسماني الطبيعي.

ولو نظرنا إلى تلك الأرقام الخاصة بمَن نسمّيهم (غير الآمنين غذائياً) لوجدنا أنهم أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية, البالغ عددهم 280 مليون نسمة. والأخطر من ذلك أن حوالي خمسة إلى سبعة ملايين طفل يموتون سنوياً من أمراض مرتبطة بسوء التغذية, وهي وفيات يمكن الحد منها بدرجة كبيرة.

وإذا انطلقنا من التاريخ, ومن الحس الإنساني, فلا يوجد مجتمع, سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي, يمكن أن يحافظ على استقراره في حياته, مع وجود مثل هذه الأشكال من عدم العدالة, ومع تزايد أعداد الأشخاص الذين يعانون في العالم.

والآن: كيف تبدو لنا صورة المستقبل? مرة أخرى أقول إن هذه الصورة ستتوقف على ماذا سنفعل, فالتوقعات والتنبؤات تعد جيدة بقدر تقاربها مع ما سنقوم به إيجاباً أو سلباً.

والسيناريو المحتمل حدوثه, انطلاقاً من توقعات منظمة الزراعة والغذاء التابعة للأمم المتحدة, يوضح أن العالم لن يكون قادراً, بحلول عام 2020, إلا على تخفيض عدد (غير الآمنين غذائياً من حوالي 800 مليون نسمة الآن إلى حوالي 600 مليون نسمة. وهذا الخفض يعادل نصف العدد الذي وعد به قادة 180 دولة من دول العالم في (قمة العالم للغذاء) منذ أكثر من خمس سنوات. والوعد الذي قُدم كان يهدف إلى خفض عدد من يعانون سوء التغذية بمقدار النصف في عام 2020.

أما بالنسبة لعدد الأطفال الذين يعانون سوء التغذية, فإنه وفقاً لتوقعات معهدنا (IFPRI) فإن عددهم سوف ينخفض من 166 إلى 135 مليون طفل فقط, وهو ما يعد أمراً متواضعاً للغاية.

في الوقت نفسه نجد أن هناك سيناريوهات أخرى, مخالفة للسيناريو السابق. فقد قمنا في معهدنا بإعداد عدد من الدراسات الهادفة, للتعرف على طرق أسرع لخفض هذه الأرقام. وفي أحد هذه السيناريوهات بحثنا عن الآثار المترتبة على زيادة الاستثمارات السنوية بمقدار 40% في خمسة قطاعات أساسية, وهي: البحوث الزراعية, ومياه الشرب النظيفة, والتعليم الأولي, والطرق الريفية, والري. ووجدنا أنه إذا قامت البلاد النامية بإنفاق هذا القدر من الاستثمارات على تلك القطاعات, فسيؤدي ذلك إلى انخفاض عدد الأطفال الذين يعانون سوء التغذية من حوالي 166 مليوناً حالياً إلى حوالي 90 مليون طفل في خلال العشرين سنة القادمة, وهو ما يعد أفضل بكثير من السيناريو الأسبق المحتمل (أو الأكثر احتمالاً).

ولذلك, فإن السؤال الصحيح, والواجب طرحه, هو: ما المقدار الذي نرغب في استثماره? ولتوضيح المقصود بهذا السؤال بصورة أفضل نقول: إن الاستثمارات المطلوبة لخفض عدد الأطفال الذين يعانون سوء التغذية إلى 90 مليون طفل يقارب حوالي 5% من الإنفاق العام في البلاد النامية في عام 1997, وهي نسبة من الإنفاق العام يتوقع تغيرها في المستقبل. وهذا الثمن, من أجل خفض عدد الأطفال الذين يعانون سوء التغذية, يعد تكلفة متواضعة, إذا ما قورن بالهدف. وإذا أردنا توضيحاً أفضل للمقصود بالسؤال السابق: نقول: إن نسبة الـــ 5% من الإنفاق العام في البلاد النامية تعادل ما ينفقه العالم على التسلح في أسبوع واحد, أي أن ما ينفق على التسلح في العالم يعادل الإنفاق العام في البلاد النامية كلها بنسبة 1 إلى 5ر2 مرة.

هل تعطى هذه الأرقام مغزى لما أقصده بتحديد الأولويات? أعتقد ذلك.

وقد استفدنا بشكل كبير من مشروعنا البحثي: (رؤية 2020), في التوصل إلى أفضل الأساليب لبلوغ أمن غذائي متواصل ودائم. ولكن الأهم من ذلك أننا وصلنا معاً إلى اقتناع مؤداه أن الأهم من تحديد تلك السبل والأساليب, هو ضرورة الاقتناع أولاً بحتمية تطبيقها في ظل أطر جديدة. ولقد وجدنا أن هذه الأطر الجديدة يحكمها العديد من القوى والعوامل, نتناول منها الآن ستة عوامل أكثر أهمية في ارتباطها بالموضوع الأساسي, وهو: محاربة الفقر والجوع.

العوامل الستة التي سنستعرضها الآن هي: أولاً: اتجاهات العولمة, ومن ضمنها تحرير التجارة الدولية, وثانياً: التقدم في البحث العلمي والتكنولوجيا. وثالثاً: الأوضاع الصحية المتدهورة. ورابعاً: المشاكل والنزاعات الإقليمية. وخامساً: المتغيرات في هيكل الزراعة وفي الاستهلاك الغذائي. وسادساً: الأدوار المتغيرة للقوى الفاعلة على كل من الساحتين الوطنية والعالمية.

العولمة

ولنبدأ باتجاهات العولمة, فالعولمة مثل السكين, فمن الممكن أن تكون مفيدة مثلاً في تقطيع خبزك, ولكنها قد تكون ضارة عند استعمالها في قتل الناس (تعبير بسيط ولكنه موح للغاية), ولذلك فإن المناقشات حول ما إذا كانت العولمة مفيدة أو ضارة للفقراء, مناقشات غير بنّاءة وغير مفيدة, فالقضية الحقيقية يجب أن تدور حول: كيف نجعل العولمة مفيدة للفقراء? وانطلاقاً من الدراسات التي تمت في معهدنا (IFPRI), نجد أن هناك منطقتين أساسيتين للتحرك والعمل.

وتتمثل المنطقة الأولى في احتياج البلاد النامية إلى صياغة سياسات واستثمارات جديدة, تهدف إلى جعل الزراعة وقطاعات أخرى في وضع تنافسي أفضل في ظل اقتصاد سوق حر, وهذا يعني ضرورة توافر استثمارات في البنية الأساسية, وتوافر استثمارات في قطاعات: التعليم الأساسي, والرعاية الصحية الأولية, وتطوير تكنولوجيا مناسبة لصغار المزارعين. بالإضافة إلى ضرورة توافر استثمارات وسياسات أخرى, وفقاً لطبيعة كل بلد, وظروف كل بلد واحتياجاته. وتتمثل المنطقة الثــانــية الــتي يجــب أن نــركز عــليها, حتى تعـــود العــولمة بفـــائدة عـلى الفــقراء, فيـــما أســمــّيه بــ: (العدالة في التجارة). وحتى لا يساء فهمي, فالمقصود بوضوح هو: (تجارة حرة ذات وجه إنساني). و (العدالة في التجارة). بهذا المفهوم تتطلب أن تقوم البلاد الصناعية المتقدمة بفتح أسواقها للمنتجات التي تستطيع البلاد النامية إنتاجها بدرجة تنافسية عالية, وعدم وضع أي شكل من أشكال القيود المفتعلة التي نستعملها حالياً لغلق أسواقنا.

وبصراحة, فإن علينا في الدول المتقدمة أن نقوم بالكثير في منطقة (العدالة في التجارة). ففي الوقت الذي نطالب فيه البلاد النامية بأن تفتح أسواقها أمام منتجات البلاد الصناعية, وهو للحق ما قامت به البلاد النامية, في غالبية الأحوال, خصوصاً في دول أمريكا اللاتينية, التي قامت بفتح أسواقها بطريقة لم نعرف مثلها من قبل, وفي الوقت نفسه لم تقم البلاد المتقدمة, في أوربا والولايات المتحدة واليابان, بفتح أسواقها أمام منتجات تستطيع البلاد النامية تصديرها, بأسعار تنافسية, تكاد تصل في حالات كثيرة إلى أقل من تكلفة إنتاج نفس المنتجات, في أغلب البلاد المتقدمة.

والمعادلة الصعبة, المطروحة في هذا الصدد, أمام البلاد المتقدمة, هي إمكان الوصول إلى حزمة من السياسات, تسمح بفتح أسواق تلك البلاد أمام منتجات البلاد النامية, مع أقل قدر من الأضرار لقطاع الزراعة في البلاد المتقدمة, وذلك يعني بالطبع ضرورة العمل في البلاد المتقدمة على إعادة هيكلة قطاع الزراعة, بحيث يصبح قادراً, تدريجياً, على الاستمرار دون أي شكل من أشكال الحماية المصطنعة الأخرى.

وهناك موضوع آخر مهم, مرتبط بقضية العولمة, هو: الأمان الغذائي (أي الاشتراطات الصحية الغذائية). وقد بدأ الأوربيون والأمريكيون واليابانيون في وضع متطلبات صحية مغالى فيها, على الواردات القادمة من البلاد النامية, وهي متطلبات لا تستطيع البلاد النامية الالتزام بها في غالبية الأحوال. وبدأت القواعد الصحية, الخاصة بالأمان الغذائي, في التحول تدريجياً, حتى صارت تستعمل في منع منتجات البلاد النامية, من دخول أسواق البلاد المتقدمة, إذا لم تتمكن هذه المنتجات من الوصول إلى الدول المتقدمة في أوقات محددة من العام. وهنا يجب أن نكون صرحاء, إذ يجب النظر عن قرب, وبصدق, للطريقة التي نقوم بها في تحديد واستخدام القواعد الصحية للأمان الغذائي في التجارة الدولية. ومرة أخرى, ليس من الممكن وليس من العدل في شيء, أن نطالب البلاد النامية بالقيام بما نرفض نحن أنفسنا القيام به, وهو فتح الأسواق أمام منتجات الطرف الآخر.

ولتوضيح هذا التناقض والتضارب في مواقف البلاد المتقدمة, أطرح قضية ما يسمى بــ(التعريفة الجمركية المتصاعدة). والمقصود بالتعريفة الجمركية المتصاعدة, ضمن أشياء أخرى, هو أنه كلما ازدادت درجة التصنيع التي يقوم بها بلد نام في منتجاته الزراعية, ازدادت التعريفة الجمركية المفروضة على واردات تلك السلعة في البلاد المتقدمة. فمن ناحية, نحن في البلاد المتقدمة نقوم بتقديم المساعدات التنموية للبلاد النامية, حتى تستطيع تطوير صناعاتها التحويلية, خصوصاً في المناطق الريفية, وخلق فرص عمل جديدة, وتحقيق قيمة مضافة للسلع الزراعية, وهو أمر طيب. لكننا, في الوقت نفسه, نحول دون وصول تلك السلع إلى بلادنا, ونقول لتلك البلاد: (لا تتجاسروا على تصدير تلك السلع إلى أسواقنا. وإذا حاولتم ذلك, فسنواجهكم بفرض جمارك مرتفعة عليها, حتى تفقد سلعكم أي ميزة تنافسية). وذلك هو الأمر السيئ, فعلى البلاد المتقدمة أن تعمل على أن تحدد بدقة: ما الذي تريده البلاد المتقدمة من البلاد النامية, من خلال مواقف متسقة?

وعند الحديث عن العولمة والغذاء, لابد من عودة إلى موضوع الإرهاب الدولي, والنزاعات الإقليمية, إذ من الممكن أن ينشأ خطران, متباينان في مكان حدوثهما, لكن لهما نفس الآثار. الخطر الأول هو أن تيارا في أوربا وأمريكا الشمالية واليابان, مؤداه: (إنه من الخطر أن نستورد الغذاء من البلاد النامية, إذ من الممكن أن يكون قد تم التلاعب فيه بتلويثه, ولذلك فقد يكون من الأفضل أن نعتمد على أنفسنا في إنتاج غذائنا). والمؤكد أن البلاد المتقدمة التي ستصل إلى هذا الرأي ستدفع ثمناً اقتصادياً باهظاً, للوصول إلى الاكتفاء الغذائي. أما الخطر الثاني: فيتمثل في رفع البلاد النامية, بل بعض البلاد المتقدمة أيضاً لمقولة: (فلنبتعد, في ظل الإرهاب العالمي, عن استيراد الغذاء في الولايات المتحدة تحديداً, خوفاً من قيام الإرهاب الدولي بتلويث هذا الغذاء, ولنعتمد على أنفسنا في إنتاج الغذاء). وبالطبع, فنحن لا نأمل في حدوث أي من الخطرين. ولكن في ظل المناخ الدولي الحالي يجب عدم استبعاد تعالي صيحات التوجه نحو العمل على تحقيق اكتفاء ذاتي في جميع أنواع الغذاء. وفي هذه الحالة سيخسر الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية خسارة فادحة. ولذلك نكرر أنه مع المناداة بضرورة تحرير التجارة في ظل العولمة, يجب العمل على تحقيق مبدأ: (العدالة في التجارة الدولية).

التقدم العلمي والتكنولوجي

يمثل التقدم العلمي والتكنولوجي احدى العلامات الفارقة في عصرنا الحديث. ومن الممكن أن تقدم علوم البيولوجيا الحيوية الحديثة, وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات, الكثير للفقراء في البلاد النامية. ولكن الحقيقة أن تلك العلوم, ومعها التكنولوجيا, لم تستطع أن تتجسد بعد كمكاسب للبلاد النامية. فالأبحاث في تلك المجالات في العالم النامي. لاتزال تركز على حل المشاكل النابعة من المجتمعات المتقدمة. ولاتزال التكنولوجيا الحيوية المتاحة في البلاد النامية لحل مشاكل صغار المزارعين محدودة للغاية.

ويتمثل أحد أهم أسباب عدم انتشار التكنولوجيا الحيوية, حتى الآن, في المعارضة القوية في أجزاء كثيرة من أوربا والولايات المتحدة واليابان, تحت شعار: (دعونا لا نستخدم التكنولوجيا الحيوية, أو على الأقل: دعونا لا نستخدم الهندسة الوراثية في الزراعة والغذاء). فنحن لا نحتاج إلى تلك التكنولوجيا في أوربا حيث المستوى الغذائي مرتفع للغاية لغالبية السكان. ولكن الحقيقة أن تلك التكنولوجيات أصبحت ضرورة قصوى في البلاد النامية, لضمان رفع الحدود الدنيا لمستويات التغذية. وإذا كانت البلاد المتقدمة ليست في حاجة الآن الى التكنولوجيا الحديثة في مجالات الغذاء, فيجب ألا تقول للبلاد النامية: (إنكم لستم في حاجة الى تلك التكنولوجيات), ولا أن تتحدث عن أضرارها. وإذا أردنا معرفة المزيد حول تلك القضية, فلنفتح أحد الكتب الحديثة التي تناولت إشكاليات التكنولوجيا الحيوية في البلاد النامية, والذي يلخص القضية في جملة بليغة مفادها أنه قبل أن نقنع البلاد النامية بقرار معين, يجب أن تتاح لها الفرصة للوصول إلى ذلك القرار. فلو افترضنا مثلاً أن إحدى المزارعات في غرب إفريقيا تحاول أن تطعم أطفالها الستة, ولكنها تخسر محصولها من الذرة مرة كل ثلاث سنوات بسبب الجفاف, وأنها تحتاج إلى صنف من الذرة قادر على مقاومة الجفاف, وأن هذا الصنف قد تم تطويره باستخدام الهندسة الوراثية, هل من الممكن أن نتصور أن أيا منا يستطيع أن يخبر تلك المزارعة, أنها لا تستطيع أن تحصل على تلك الأصناف, لأن تلك التكنولوجيا لا يستحب استخدامها? من المؤكد أن أيا من المهمومين بقضايا محاربة الفقر والجوع لن يفعل ذلك. ولكن المؤكد أيضا أن هناك كثيرين سيقولون: إن هناك طرقا أفضل. وفي الوقت الذي سنتناقش فيه حول أفضل تلك الطرق المفترضة, ستستمر معاناة الأطفال, خصوصاً من سوء التغذية.

وتظهر صعوبة تلك القضية, في ضعف استثمارات البلاد النامية في مجال البحوث الزراعية, سواء كانت في مجال العلوم الحديثة أو في مجال تطوير الأساليب التقليدية للزراعة. فاستثمارات البلاد النامية في البحوث الزراعية لا تمثل إلا نسبة لا تزيد على 5ر0% من قيمة ناتج الزراعة في تلك البلاد, مقارنة بحوالي 2% في البلاد المتقدمة.

من الصحة إلى الزراعة

إذا انتقلنا إلى الأوضاع الصحية المتدهورة فسنجد أننا أمام قضية شائكة. فالعلاقة بين أمراض ضعف المناعة والإيدز من ناحية, والأمن الغذائي من ناحية أخرى, علاقة مهمة, إذ توجد علاقات متبادلة بين الجانبين, وهذه العلاقات لا يمكن تجاهلها, ولو كنا نركز على جانب واحد من المعادلة, هو جانب الغذاء. فنحن لا نحتاج الآن الى الحديث عن أهمية وخطورة أمراض ضعف المناعة والإيدز في إفريقيا, لكن الجديد الذي يجب أن يشغلنا, هو المزيد من الدراسة لمختلف جوانب العلاقات المتبادلة, بين أمراض ضعف المناعة والإيدز, والأمن الغذائي. وفي الوقت نفسه, يجب أن نركز اهتمامنا على علاقة الأمن الغذائي بأوضاع صحية متدهورة في البلاد النامية, وبخاصة تزايد أوبئة مثل الملاريا.

الصراعات والنزاعات

توجد علاقة وثيقة بين الصراعات والنزاعات, سواء على المستوى المحلي (داخل البلد الواحد). أو على المستوى الإقليمي, من ناحية, والأمن الغذائي من ناحية أخرى. ومن خلال الأبحاث التي تمت على عديد من البلاد الإفريقية, وجدنا أنه من السهل على حكومات تلك البلاد تطوير الأمن الغذائي, وتقليل النزاعات المحلية والإقليمية بشكل ملحوظ, إذا نجحت هذه الحكومات في التعرف على العلاقة بين القضيتين. فالمؤكد أن المزارعين لن يقوموا بزراعة محاصيلهم في أراض منزرعة فعلاً بالألغام. والمطلوب هنا هو: تحديد كيف يمكن التعامل مع القضيتين, في إطار برنامج عمل واحد?

تغير هيكل الزراعة والاستهلاك

تتمثل أهم الإشكاليات التي تم رصدها عند دراسة تغير هيكل الزراعة في البلاد النامية في قزمية أو ضآلة الحيازات الزراعية. ففي المتوسط يحوز المزراع في جنوب آسيا مساحة أقل من مساحة ملعب كرة القدم. هل هؤلاء المزارعون الصغار قادرون على الاستمرار في الزراعة والحياة على المدى الطويل? سؤال تم طرحه في مشروعنا البحثي, وكان الاتجاه الأرجح فيه هو عدم قدرتهم على الاستمرار بالشكل الحالي, على الرغم من أن هناك آخرين لا يزالون يعتقدون أن صغار الحائزين لديهم القدرة على الاستمرار. وعند النظر إلى التوقعات حتى عام 2020 بخصوص: ماذا سيحدث لصغار المزارعين? وجدنا أن هناك احتمالات متعددة متاحة, لعل أهمها اشتغال صغار المزارعين في وظائف جانبية لبعض الوقت, أو حدوث اندماجات فيما بينهم, ربما في شكل تعاونيات. ولا نقصد بأي حال من الأحوال, بالحديث حول هذا المحور, وجود الكثير لمناقشته, ولكن المقصود فقط هو لفت النظر إلى حقيقة هي: أنه بينما سنستمر في الحديث حول المقصود بتعريف صغار المزارعين, ستشهد المزرعة الصغيرة تغيرات جذرية في المستقبل.

والتغير الهيكلي الثاني المهم هو تغير هيكل الاستهلاك. ويظهر ذلك بوضوح في حقيقة نطلق عليها ثورة الإنتاج الحيواني التي نعيشها. وتشير توقعاتنا في دراسات مشتركة, مع المعهد الدولي لبحوث الإنتاج الحيواني, ومع منظمة الغذاء والزراعة, إلى تزايد كبير في الطلب على المنتجات الحيوانية, ومن المتوقع أن يستمر هذا التزايد في الطلب خلال العشرين عاما القادمة. ومن المتوقع أيضاً أن الزيادة الكبيرة في الطلب على المنتجات الحيوانية ستكون في جميع أنحاء العالم. وكل هذه المنتجات, على وجه الخصوص, سيشهد أعلى درجاته في البلاد النامية, وخصوصاً الآسيوية منها. وكذلك, من المتوقع حدوث تزايد كبير في الطلب على السلع الغذائية المصنّعة, وأهمها السكر, وباقي أنواع السكريات.

الأدوار المتغيرة للقوى الفاعلة

ظلت الحكومات هي القوة الفاعلة الأساسية, إن لم تكن الوحيدة, في الغالبية العظمى من دول العالم لسنوات طويلة, وبخاصة من خلال دورها الاحتكاري في الزراعة, سواء في مجال المدخلات أم في مجال المخرجات. فعندما كان المزارع يحتاج مثلاً إلى شراء أسمدة, كان عليه التوجه للمؤسسات الحكومية أو شبه الحكومية أي التعاونيات. وكان القرار للحكومة في تحديد كميات الأسمدة, والسعر الذي ستباع به, وموعد توريدها. وهكذا بالنسبة لباقي المدخلات والمخرجات الزراعية.

ولكن مع الوقت, ولأسباب متعددة, ثبت فشل هذا النظام في التعامل مع الزراعة, حيث لم يثبت أي فعالية أو كفاءة. وتم استبدال هذا النظام عبر أساليب مختلفة بسيطرة القطاع الخاص. وهو الأمر الذي غيّر بالكامل من دور الحكومة. فظهر مَن ينادي بخروج الحكومة بالكامل من (اللعبة) بدعوى أن (الحكومة الأقل سيطرة هي الحكومة الأفضل). وهو الأمر الذي مثّل, في حالات ليست قليلة وصفة خاطئة. فحقيقة الأمر أننا نحتاج إلى حكومة قوية, قادرة على القيام بواجبات لا يمكن أن تقوم بها إلا الحكومات, وهو ما يشمل القيام بإنتاج ما نسميه بــ: (السلع العامة) التي يجب ألا نتوقع أن يقوم القطاع الخاص بإنتاجها.

ولقد أثبتت خبرة السنوات الماضية, أننا بحاجة إلى كثير من المقاييس والمعايير والضوابط لتنظيم إصلاح الأسواق, وجعلها تعمل بكفاءة. وهو أمر إذا لم تقم به حكومة قوية, فلن يحدث الإصلاح المنشود, بل ستتدهور الأمور, ولن يتمكن القطاع الخاص من العمل. فمن الدراسات التي تمت على عديد من البلاد الإفريقية, وصلنا إلى اقتناع مؤداه أن إصلاحات السوق التي تمت في تلك البلاد لم تصل في أي منها إلى ما كان متــــوقعا, ومـــا كان مأمـــولاً في المنــظمات الدوليــــة.

وترجع بعض أسباب المشاكل التي أدت لذلك, إلى أنه استبدل باحتكارات الدولة والقطاع الحكومي احتكارات القطاع الخاص, في بعض الأحوال. وإلى استفادة الفقراء القليلة جداً من إصلاحات السوق, إن لم يكونوا قد خسروا من جرائها, في أحوال أخرى.

لذلك أقول إن للحكومات دوراً جديداً, وهو الاستثمار في التعليم الأولي, وفي الرعاية الصحية الأساسية, وفي البنية الأساسية, وفي إنتاج السلع العامة, وهي كلها مهام لا تستطيع القيام بها إلا حكومة قوية.

وبالنسبة للقطاع الخاص, فمن المتوقع والمأمول أن يلعب دوراً أكبر بكثير في البلاد النامية, مقارنة بالسنوات الماضية. ولكن السؤال هنا مرة أخرى: ما الأعمال التي يستطيع القطاع الخاص القيام بها بشكل أفضل? وما المهام التي يجب أن تترك للحكومة, أو للمجتمع المدني (المنظمات غير الحكومية)? وتكمن المشكلة الحقيقية, في هذا الإطار, في الصراع الدائم بين هذه المجموعات, وهو الصراع الذي لا يفيد بأي حال من الأحوال في إطعام الفقراء.

وتتشابك مع قضية تغير أدوار الفاعليات الرئيسية بالمجتمع, قضية أخرى مهمة تؤثر في استمرار وجود أعداد كبيرة من الأطفال الذين يعانون سوء التغذية, وهي قضية عدم وجود الإرادة السياسية القوية في البلاد النامية, لإعطاء أولوية مطلقة لقضية محاربة الجوع والفقر. والمسألة ليست مجرد رفع شعارات في المجتمع, حول محاربة الفقر والجوع, فالأهم من ذلك هو: الاقتناع السياسي بأولوية محاربة الفقر, وضرورة حصول الفقراء, خصوصاً الأطفال, على الغذاء الصحي, ومادمنا لم نصل إلى هذا الاقتناع السياسي في البلاد النامية, فلن تفيد المساعدات الإنمائية في تحقيق هذا الهدف. هذا في حال توافر تلك المساعدات أصلاً.

وبصراحة فالفساد الموجود في بعض البلاد النامية, يحول دون تحقيق المساعدات الإنمائية لأهدافها الأصلية..

مرة أخرى, نتحدث حول القطاع الخاص: ما نحتاج إليه في حقيقة الأمر هو: قطاع خاص متحمل للمسئولية الاجتماعية. بطبيعة الحال, المنظمات غير الحكومية يجب أن تكون مسئولة اجتماعيا, بالقدر نفسه, إن لم يكن بقدر أكبر, وهو ما يذكّرنا بالموقف الخاطئ الذي تتخذه عديد من المنظمات غير الحكومية في أوربا من قضايا الهندسة الوراثية. ولكن يجب ألا يتوقع أي منا أن القطاع الخاص سيتحول إلى إنتاج سلع وخدمات لن تدر عليه أرباحا. على الأقل لن يلجأ أيّ منا لشراء أسهم في شركات تقوم بذلك. لذلك علينا أن نحدد, وبدقة: ما الذي يستطيع القطاع الخاص أن يقوم به? وما المجالات التي يرغب هذا القطاع في الدخول فيها? وذلك ما يطرح علينا ضرورة وجود عدد من المؤسسات المسئولة عن دراسة إمكان قيام كل من فاعليات المجتمع بالدور الذي تحسن القيام به.

وفي نهاية الحديث عن تغيير أدوار فاعليات المجتمع, يجب ألا يفوتنا الوقوف عند دور البلدان الصناعية المتقدمة في الولايات المتحدة وأوربا واليابان وأستراليا, فالمطلوب في المرحلة القادمة من هذه البلدان, هو المزيد من المشاركة في المجتمع الدولي, وعدم الانعزال داخل أنفسنا, فأحد الأخطاء الرئيسية التي قد تنجم عن الهجمات الإرهابية, أن نقوم ببناء أسوار عازلة حول أنفسنا, سواء بالمعنى المباشر أو بالمعنى غير المباشر, وأن نقوم بمحاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي لأنفسنا بأنفسنا, ليس فقط في مجال الغذاء, ولكن أيضا في مجالات أخرى, وهو ما سيعد خطأ قاتلاً. فالذي حدث يستدعي منا مزيدا من المشاركة, وليس مزيدا من الانعزال, فالولايات المتحدة تأتي في ذيل قائمة الدول الصناعية المتقدمة, إذا تحدثنا عن المساعدات الإنمائية, وذلك كنسبة من دخلها القومي, حيث لا تزيد هذه المساعدات على 1ر0% من دخلها القومي. والأمر المؤكد أن الأمريكي العادي مستعد بدوافع مختلفة لزيادة هذه المساعدات, ولكن من الواضح أن هذا الأمر لم يصل بعد لصناع القرار السياسي.

خلاصة القول: إننا في الجزء المتقدم من العالم ليس لنا سوى أن نختار أحد أمرين: فإما أن نستمر في إنفاق أموال متزايدة لحماية أنفسنا, وهو ما لن ننجح فيه بالشكل الذي نرغبه, حيث لن نقدر على حماية أنفسنا بالطرق الأمنية بغير أن نخسر الحريات الشخصية التي اعتدنا عليها حتى الآن, وإما - وهو الخيار الأفضل - أن ننفق القدر نفسه من الأموال في إزالة الجذور المسببة للإرهاب الدولي, والمهددة للاستقرار الوطني والدولي, وهو ما استهدفت هذه المحاضرة توضيحه.

 

باسم فياض







العالم بينستروب أندريسين





 





ما زالت الحياة بدائية في الكثير من المناطق





هكذا يزحف الموت في افريقيا