ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام

ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام

يتم التعامل مع ابن تيمية عادة على أنه فقيه أكثر منه لاهوتيا (متكلما) أو فيلسوفا. وحتى عندما يُناقَش فكره على أسس كلامية وفلسفية, فإنه يُنظر إليه على أنه خصم لدود لكل التفكير العقلاني في الإسلام. جزئيًا هذه النظرة صحيحة ولكنها تمثل نصف الحقيقة وربما ربعها فقط. إن ابن تيمية ليس مجرد ناقد وداحض لفكر خصومه وحسب, ولكنه إلى جانب ذلك صاحب مشروع فكري. لقد قام ببناء نظام من الأفكار ينتمي إليه وحده. فهو صاحبه ومبدعه, مثلما هو بالدرجة نفسها صاحب مدرسة مازال انتشارها واسعًا حتى اليوم في كل أرجاء العالم الإسلامي.

في هذا الكتاب تتم مقاربة النصف الآخر والخفي من فكر ابن تيمية. وفي مقاربة الكتاب لهذا الجانب من فكره, سنجد أن لابن تيمية موقفًا فلسفيًا يماثل أي موقف فلسفي آخر عرفه تاريخ الفلسفة في الإسلام. إن رؤيته للعالم تتمتع بتماسك ذاتي كافٍ يقوم على أسس فلسفية ومنطقية واضحة وصلبة. في هذا الكتاب نصغي إلى ابن تيمية جيدًا, ونقرأه بانتباه, رغم صعوبة الانتباه لمفكر استخدم لغة مزدوجة في التعبير عن أفكاره. علاوة على تعامل أتباعه ومريديه مع جانب واحد في هذا الخطاب على مر القرون, الأمر الذي جعل من محاولة العودة إلى فكر ابن تيمية أمرًا يتسم بالصعوبة.

يقدم ابن تيمية خطابًا فلسفيًا بديلاً يفند فيه بتفصيل مملّ أحيانًا نظريات من سبقوه من المتكلمين والفلاسفة, ومبينًا مواضع الإخفاق التي أدّت بالخطاب العقلاني في الإسلام لأن يكون مبعدًا من ساحة الاعتراف. ويقول المؤلف إن ابن تيمية يبالغ أحيانًا في نقده وتهجمه على المتكلمين والفلاسفة, الأمر الذي جعل قراءه يفهمون من هذا حقدًا على التفكير العقلاني في الإسلام.

وفي الكتاب تفصيلات فلسفية تكشف عن فكر ابن تيمية الفلسفي, منها انفتاح عقل ابن تيمية الفلسفي على الخصوم التقليديين كالمتعزلة والفلاسفة. فهو يعترف كثيرًا بتأثير فلاسفة كأبي البركات البغدادي عليه, وكذلك تأثير المفكر المعتزلي أبي الحسين البصري, ويعترف في مناسبات أقل بتأثير ابن رشد, ويعترف في مناسبات نادرة بتأثير بقية الفلاسفة كابن سينا. والحقيقة أنه تأثر كثيرًا بكل هؤلاء وفي مقدمتهم أبو البركات البغدادي الذي يُطلق عليه (إمام الفلاسفة), وابن رشد الحفيد الذي يثمن في كثير من الأحيان مواقفه. أما أبو الحسين البصري فيتعرض لإشادة في أماكن كثيرة من كتابات ابن تيمية وذلك بسبب الموقف الذي ينقل عنه بتجويز القول بالتجدد في ذات الله. نقطة أخرى, هي أن ابن تيمية يعتبر مثالاً للمفكر المسلم الذي ذهب في التنظير لمسألة العلاقة بين الله والعالم إلى تخوم لم يطرقها ربما معظم المفكرين المسلمين قبله, إذ أنه في هذه المسألة بالذات, لم يرض إلا أن يلبي متطلبات العقل حتى لو ساقه هذا العقل إلى أماكن قصية جدًا. وهذه المرحلة الفكرية بذاتها, لا تؤشر فقط إلى هذه العقلانية الراقية التي أضافها إلى التراث الفكري الإسلامي, بل والأهم من ذلك, تؤشر إلى أن المراكمة الضخمة للفكر الإسلامي لا يمكن محوها بقرار, مهما كان نوع هذا القرار.

 

عبدالحكيم أجهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات