(حياة غير متوقعة).. مذكرات الملكة نور

(حياة غير متوقعة).. مذكرات الملكة نور

قدمت لي هذا الكتاب زميلة من أصل صيني, تقوم بتدريس الأدب الإنجليزي في الجامعة نفسها, التي أقوم بتدريس مادة الاقتصاد فيها, واعتبرتها مبادرة جميلة وفألاً حسنًا, لأن زميلتي هذه بثت لي سرًا مفاده أن هذا الكتاب البديع بالذات, قد ساعدها على تكوين فكرة إيجابية مشرقة ومتنورة حول العرب وحضارتهم, ومن ثم تطوير فهم أعمق للقضايا والتحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية, التي يواجهها العالم العربي, وخاصة قضية فلسطين, ونضال الشعب العربي الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي, وعلى إدراك الأسباب الموضوعية الكامنة وراء الشعور بالإحباط والنقمة, الذي يحمله العرب عمومًا تجاه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط, بعيدًا عن التزييف المزمن والتشويه المتعمّد, الذي تتسم به معالجة قضايا العرب العادلة من قبل وسائل الإعلام الأمريكية خاصة, والغربية عامة. وكانت تلك مفاجأة سارة ومحزنة في آن واحد, سارة لأن كتابًا تسرد فيه ملكة عربية سيرة حياتها مع ملك عربي رحل إلى جوار ربه, قد ساهم في تنوير مثقفة كندية من أصل صيني حول العرب وقضاياهم المعاصرة, ومحزنة لأن تلك الزميلة المرهفة والمهتمة, قد عبّرت عن دهشتها واستغرابها من عدم استخدام العرب, وخاصة الجامعة العربية, لهذا (المنجم الذهبي الإعلامي), كما وصفت شخصية الملكة نور, مثلما فعل الإنجليز في استخدامهم لشخصية الأميرة ديانا, من أجل تعزيز الوجود البريطاني على المسرح الدولي, خاصة أن الملكة نور, إن لم تكن تتفوّق على الأميرة ديانا في جمالها وأناقتها (وهذا أمر يرجع أصلاً للميول والاعتبارات الوجدانية الخاصة), فإنها - ودون شك - تتفوق عليها فكرًا ووعيًا وقدرة على الحديث والمناقشة والإقناع والبيان. يضاف إلى ذلك كله, أن الملكة نور هي من أصل عربي وأمريكي. وهذا يعطيها ميزة خاصة للتعامل مع المجتمع الأمريكي, الذي شاءت الأقدار أن يكون له أكبر دور, وتأثير في مجرى السياسة الدولية عامة, وقضايا الوطن العربي خاصة.

تجربة إنسانية

فصول هذا الكتاب, وعددها واحد وعشرون, تعكس وبحق تجربة إنسانية لـ (حياة لم تكن متوقعة), كما تعترف الكاتبة نفسها. فالفصل الأول, وعنوانه (انطباعات أولية) يسرد قصة لقاء ملكة المستقبل (نور) مع الملك حسين مصادفة أثناء زيارتها الأولى للعاصمة الأردنية, وذلك عندما كانت تعمل مهندسة معمارية مع إحدى الشركات الأجنبية في إيران, وتتعرض في الفصل الثاني, وعنوانه (جذور) لخلفيتها العائلية, حيث إن والدها يتحدر من عائلة عربية حلبية, وأمها أمريكية من أصول سويدية, وتتحدث في الفصل الثالث, وعنوانه (مفكرة طهران), حول تجربتها العملية في إيران قبل الثورة الإسلامية ضد نظام الشاه, وإحساسها بأن غيوم الثورة ضد النظام الملكي كانت تتجمع وتتكاثف, بينما كان الشاه يعيش في قصور عاجية بعيدًا عن الناس العاديين ومشاعرهم, ثم تتوالى فصول الكتاب مثل سيمفونية متعددة الأجزاء والمقاطع, ولكنها متكاملة الألحان والإيقاعات, حيث تنتقل بنا من مقابلتها للملك حسين بحضور والدها, الذي كان يعمل مديرًا لإحدى شركات الطيران, إلى (وثبة الإيمان), عندما وافقت على عرض الزواج, الذي قدمه لها الملك الأرمل آنذاك, وما ترتب على تلك الوثبة من العوم والتجوال في محيط الحياة الملكية, الذي لم تكن تفكر فيه (ليسا الحلبي), حتى في أحلامها, إلى حكايات شهر العسل في بريطانيا, الذي تدفقت خلاله موجات المطر أكثر من تدفق شلالات العسل الموعود. وتستمر الرحلة بين وديان السياسة وقممها, وهموم الحياة العائلية وأفراحها, حتى تصل إلى المطاف الأخير, وهو الفصل الواحد والعشرون, الذي يحمل عنوان (عندما بكت السماء), بوفاة الملك حسين بعد معركة خاسرة مع مرض السرطان.

قد يختلف الناس, ومن ضمنهم العرب طبعًا, في نظرتهم إلى الملك حسين, وفي تقديرهم للدور التاريخي, الذي لعبه على مسرح السياسة الدولية عامة, وفي العالم العربي خاصة. ولكن الصورة التي يخرج بها القارئ لهذا الكتاب إجمالاً إيجابية, مغرقة في إنسانيتها وواقعيتها ونبلها, إذ إن الملك كان قائدًا عربيًا ملتزمًا وحريصًا على مصالح شعبه وأمته, ولكنه كان واقعيًا وعمليًا أيضًا, لأنه كان يعرف من خلال تجاربه والمعارك العديدة التي خاضها, أن فن أو علم السياسة هو فن أو علم التعامل مع الممكن, ومن هذا المنطلق, كان يحاول خدمة قضايا أمته, وخاصة قضية فلسطين, والتي تشير الملكة نور في كتابها إلى أنها كانت أم القضايا بالنسبة له.

وبهذا الخصوص, فإن الكاتبة الملكة تستعرض في كتابها انطباعات حول القادة السياسيين, الذين قابلتهم, وتعاملت معهم, من أمثال كارتر وكلينتون ورابين ونتنياهو وحسني مبارك وياسر عرفات وصدام حسين وشاه إيران والسلطان قابوس ومعمر القذافي وغيرهم. كانت انطباعاتها سلبية حول صدام حسين مثلاً لأنه حوّل العراق إلى سجن كبير, وحول ياسر عرفات الفاشل سياسيًا وإستراتيجيًا, ابتداء من مأساة أيلول الأسود في الأردن, وحرب المخيمات في لبنان, ووقوفه إلى جانب الطاغية صدام حسين بعد غزوه للكويت, وانتهاء بمهزلة اتفاقات أوسلو, التي كرّست الاحتلال الإسرائيلي دون أي فائدة تذكر لتخفيف مأساة الشعب الفلسطيني. كما أنها عبّرت عن سخطها واستيائها وقلة احترامها لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو, لأنه مجبول على الكذب والفسق والعنجهية, والخداع, وعدم الوفاء بالعهود. أما إسحق رابين, الذي اغتاله يهودي إسرائيلي متطرف, فإن الكاتبة قد خصصت لحادثة اغتياله والمضاعفات التي ترتبت عليها, فصلاً كاملاً أعطته عنوانًا ينذر بالشؤم, (حافة الهوّة السحيقة), وذلك لأن رابين - حسب اعتقادها واعتقاد زوجها - كان ملتزمًا بتنفيذ الاتفاقات, التي وقعتها إسرائيل مع الأطراف العربية, لإنهاء النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي, وكان مصممًا على السير في طريق السلام. ولهذا فإن مقتله في تلك المرحلة الحرجة, قد وجه ضربة قاتلة لعملية السلام نفسها.

كما تجدر الإشارة هنا إلى أن الملكة نور قدمت في كتابها عرضًا تاريخيًا وسياسيًا وأخلاقيًا غاية في القوة والإقناع حول عدالة القضية الفلسطينية, وكشفت عن ألوان التزوير والتشويه, التي كانت هذه القضية, ولاتزال, تتعرض لها من قبل وسائل الإعلام الغربية عامة, والأمريكية خاصة, لتضليل الرأي العام الأمريكي, وعن الضغوط التي يمارسها اللوبي/أو القوة الضاغطة الصهيونية/اليهودي لخدمة إسرائيل مقابل هزالة وتفكك المواقف العربية المتناقضة, والتي أدت لضعف المركز أو المواقف العربية, بالرغم من عدالة القضايا العربية, وفي مقدمتها قضية فلسطين, وشعبها المظلوم داخليًا وخارجيًا. ومن ناحية أخرى, فإنه من خلال حديثها وعرضها بأسلوب هادئ ومتزن لأحوال وهموم وتحديات المجتمعات العربية, ونظرتها الإيجابية للقيم والتقاليد العربية والإسلامية, وللدين الإسلامي, الذي اعتنقته عن اقتناع وليس عن إكراه, فإن القارئ يخرج من هذا كله بصورة عقلية مشرفة عن الشخصية العربية الأصيلة, وعن التكوين الحضاري الغني, الذي تزخر به الأمة العربية, والإمكانات الهائلة, التي تمتلكها شعوب هذه الأمة, إذا أتيح لهم, أو بالأحرى إذا أتاحوا لأنفسهم ذات يوم أن يعبئوا قواهم لممارسة دورهم الإنساني اللائق على مسرح السياسة الدولية.ومن هنا, فإنه يمكن القول إنه إذا كان صحيحًا أن كتاب الملكة نور هو استعراض لتاريخ فترة زمنية معينة من منظور إنسانة مرهفة وملتزمة, عايشت تلك الحقبة من الزمن, فإن الكتاب أيضًا, يشكّل دعوة مستقبلية لشحذ الهمم ولتقوية التكامل والتضامن بين الشعوب العربية, وعدم الانصياع لليأس والإحباط, لأن مجرى التاريخ - حسب رأيها - أكبر وأعظم من أن تقرره معركة واحدة أو قوة سياسية/عسكرية شريرة واحدة. ومدام العرب دعاة حق وعدل وسلام, وإذا قدر لهم, واستطاعوا تعبئة مقدراتهم ومواردهم لخدمة مصالحهم الإستراتيجية المشتركة, فإن المستقبل المضيء سيكون للعرب لا محالة.

نور حياتي

تبدأ الملكة نور كتابها بكلمة إهداء تقول فيها: (إلى حبيبي حسين...نور حياتي). وترفق الإهداء بالحديث النبوي الشريف, الذي يقول: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا). أما خاتمة الكتاب, فقد خصصتها لوصف تجربتها الروحية والجسدية عندما قامت بتأدية (العمرة) إلى مكة المكرمة بعد وفاة زوجها, ولتأكيد تصميمها على الاستمرار في العمل لتحقيق الحلم, الذي عاش الملك حسين ومات وهو يحلم به, ويسعى لإنجازه, متمثلاً بتحقيق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط, يضمن حقوق الشعب العربي الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على أرضه المحررة, وسيادة التسامح والمحبة والسلام في تلك المنطقة من العالم, التي طال ظمؤها للعدل والسلام.

ثم تختم حديثها بهذا الوعد, الذي قطعته على نفسها, والذي تقول فيه: (إنني لن أخذلك ياحبي, وسأستمر في الطريق الذي شاركناه, وكلي يقين بأنك ستكون هناك - كما كنت دائمًا - على استعداد لمساعدتي. وعندما نلتقي مرة أخرى في نهاية الرحلة, ونضحك معًا, سيكون لدي آلاف الحكايا لأنقلها إليك).إنه كتاب جميل ومفيد وأنيق, بل غاية في الجمال والفائدة والأناقة. وتجدر قراءته من قبل كل إنسان يتقن فن القراءة, ويستمتع بها, ويستحق الاقتناء في كل بيت تتلألأ فيه شمعة معرفة وحب استطلاع, كما أنه صندوق ثمين من الهدايا, يمكن تقديمه لصديق أو لحبيب... أو لرفيقة عمر.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات