أثريان من الزمن الجميل

أثريان من الزمن الجميل

إذا كان التنقيب عن الآثار مهمة الخبراء فإن إعادة الاعتبار إلى هؤلاء المنقبين في دفاتر الحضارة يعد بمنزلة واجب مقدس, فالذين أضاءوا صفحاتنا المشرقة, وعرفوا العالم بكنوزنا المدفونة والغارقة هم أجدر المكرمين ونحن نحتفل بمئوية إنشاء المتحف المصري, لذا كان صدور كتاب (كمال ويوسف: أثريان من الزمن الجميل), بمنزلة إكليل غار على هامتي هذين الرائدين في علم المصريات.

فكما يقول زاهي حواس في تقديمه لهذا الكتاب إن أحمد باشا كمال هو الأب الروحي للأثريين المصريين جميعا, مثلما أن الحاج أحمد يوسف هو الأب الروحي للمرممين ـ مرممي الآثار ـ المصريين جميعا. ولذلك جاء جهد الباحث مؤلف الكتاب لؤي محمود سعيد نموذجيا في تناوله لمادته وتفقده لمصادره وتنقيبه عن آثار الرائدين الكبيرين.

كان أحمد كمال (1851 - 1923) أول أثري مصري يعمل في المتحف المصري, وأول من نشر كتابا عن الآثار المصرية باللغة العربية, وأول مصري يتعلم ويقوم بتدريس الهيروغليفية, ليؤلف معجما كاملا بالأصول المشتركة لهذه اللغة واللغة العربية, وتتلمذ على يديه كثيرون أمثال سليم حسن, وسامي جبرة, ومحمود حمزة, بل وطه حسين عميد الأدب العربي. كان أحمد كمال هو القوة الدافعة وراء إصدار قوانين حماية الآثار في نهاية القرن التاسع عشر, وشارك في نقل متحف بولاق للجيزة, ثم لقصر النيل (متحف ميدان التحرير الحالي), وروج عبر عشرات المقالات العربية والفرنسية في الدوريات العلمية والشعبية لجذب الكثير من محبي الآثار.

كان أحمد كمال من بين عشرة طلاب من النابهين, وخاصة في اللغة الفرنسية ممن أتموا دراسة الفرقة الثانية بالمدرسة التجهيزية ومدرسة الإدارة ومدرسة المساحة والمحاسبة ليكونوا النواة, التي تفتح بها مدرسة اللسان المصري أبوابها عام 1869, ليدرس بعدها الآثار المصرية, ويحاول أستاذه الألماني بروجش إلحاقه بالمتحف المصري فيعارض مارييت, ليوزع جهده في عدة أعمال بين معاون ومترجم في نظارة المعارف العمومية ووابورات البوستة (البواخر البريدية), وإدارة المماكس (الجمارك), وبالرغم من حيثية الوظائف ودخلها ـ آنذاك ـ إلا أنه دخل الآنتيقخانة (مصلحة الآثار) مترجما, ومعلم لغة قديمة. ويعتدل مسار الحياة حين يكلف الخديو توفيق رياض باشا (1879) بتشكيل الوزارة, ليكون علي باشا مبارك وزيرا للأشغال العمومية ـ التي كانت تتبعها مصلحة الآثار ـ فيستحث مبارك, الداعي لإصلاح التعليم وتوسيع نطاقه ليشمل كل المصريين, رياض باشا على رفع الغبن عن أحمد كمال.

وبعد انطلاق مسيرة كمال, بدأ فكره يؤثر فيمن حوله, من تلاميذ وجمهور, وخاصة بمئات المقالات, التي نشرها, ومؤلفاته العربية (8 كتب), ويقول طه حسين عن بداياته الفكرية الأولى أنه (بُهت) حين سمع لأول مرة أسماء رمسيس وإخناتون من الأستاذ أحمد كمال في غرفة من غرف الجامعة المصرية, وهو يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة, ويحاول أن يشرح لطلابه مذهبه في الصلة بين اللغة المصرية القديمة واللغات السامية; ومنها العربية, وهو الافتتان الذي قاد طه حسين بعد ذلك للتحرر من قيود الدراسة الأزهرية التقليدية ليعد رسالته للدكتوراه عن أبي العلاء, التي رسمت شخصيته الفكرية بعد ذلك.

وقد استقى شادي عبد السلام, أول مشاهد فيلمه الفريد (المومياء) من الأحداث الحقيقية لاكتشاف خبيئة الدير البحري على يدي أحمد كمال وإميل بروجش, وفيها تم تجسيد أحمد كمال نموذجا للمثقف المستنير المتفاني للدفاع عن تراث أجداده.

وفي القسم الثاني, والأصغر , من الكتاب, يصف المؤلف الرائد الثاني أحمد يوسف بأنه معجزة الترميم المصري, وهو الذي فصل من المتحف المصري بتحريض من الأجانب الذين استهانوا بقدرة أي مصري على العمل بالترميم, وبحجة توفير النفقات. لكن العالم الإنجليزي أنجلباخ كبير الأمناء في مصلحة الآثار, اعترض على فصله تعسفيا, وحتى يبدو محايدا, أمر بتكليفه بمهمة ترميم (مستحيلة). وتم تسليم أحمد يوسف ما كان يبدو أنه جزء من قاعدة إناء فخاري تحتوي على خليط من أتربة خامات مختلفة كسن الفيل والأبنوس ذات أحجام صغيرة جدا. وسخروا منه, وطلب مدة 4 شهور, فقالوا بل لديك مهلة عشرون عاما. واستطاع أحمد يوسف أن ينجز أول إعجاز ترميمي في حياته بعد 3 شهور, ليعيده إلى سيرته الأولى, صندوق مجوهرات إخناتون, المعروض حاليا بالمتحف المصري.

بهر أنجلباخ بالنتيجة, وأصدر قرارا فوريا بتعيين أحمد يوسف, وتواترت الأنباء عن قدرته فاستعان به رايزنر ـ الذي اكتشف عام 1925 الأثاث الجنائزي لحتب حرس والدة الملك خوفو ـ بعد عجز المرممين الأجانب. وكانت تلك المهمة, التي قلدته أميرا للمرممين الآثاريين. وبالرغم من إحالته على المعاش رسميا عام 1972, إلا أن خبرته الواسعة ولضمان استمرار عمليات الترميم في مركب خوفو الجنائزية تم استبقاء أحمد يوسف للعمل كخبير لترميم المركب حتى 1982, والتي اكتشفت في مايو 1954, وهي التي كانت تتكون من 3 طبقات, من خشب الأرز المتنوع وعدد قطعها 1224 قطعة, وبأطوال مختلفة يصل أطولها إلى 23 مترا, بينما يبلغ طول مجاديفها 9 أمتار. وظل يدرسها كما كان يدرس كل مهمة بالتخطيط والرسم والتسجيل وبناء النماذج, وقد أهدى أحمد يوسف مخطوطاته, التي كانت تربو على الآلاف من الرسوم والمعلومات والشروح والخطوات الترميمية إلى هيئة الآثار المصرية ولم يرض أبدا ببيعها لأي جهة غير مصرية.

 

لؤي محمود سعيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات