الأسلحة البيولوجية والكيميائية بين الحرب والمخابرات والإرهاب

الأسلحة البيولوجية والكيميائية بين الحرب والمخابرات والإرهاب

سيظل موضوع الأسلحة البيولوجية والكيميائية هاجساً متجدداً مع البشرية بعد ثبات تسرب هذه الأسلحة من مكامنها العسكرية والعلمية إلى أيدي الأفراد والجماعات المدموغة بالإرهاب, ومن ثم ستظل معالجته من زوايا مختلفة مطلباً معرفياً متجدداً.

في موضوع من أهم موضوعات الساعة, ومن أخطر ما تبرزه الساحة الإعلامية هذه الأيام وهو موضوع (الإرهاب) يأتي هذا الكتاب.

ويقع الكتاب في 239 صفحة من القطع المتوسط, وقد قدم له د. أسامة الباز مستشار رئيس جمهورية مصر العربية للشئون السياسية.

وتتضح أهمية الموضوع في أن العالم أجمع وجه أنظاره إلى الإرهاب الذي نجح في فرض عولمته, قبل عولمة التجارة, والحضارة, والثقافة.

ويربط د. أسامة الباز في تقديمه للكتاب بين أسلحة الدمار الشامل البيولوجية واكتشاف خريطة الجينات البشرية مما قد يمثل مزيداً من الخطورة في أن تبحث بعض العقليات الإجرامية عن أسلحة تصيب شعباً بعينه, أو جنساً بذاته.

وفي تقديمه يبرز المؤلف تصريحات بعض المسئولين ومن أبرزها ما قالته (كاثيلين بيلي) مديرة مراقبة التسليح المساعد السابق في الجيش الأمريكي: (إن صنع ترسانة من الأسلحة البيولوجية لا يحتاج إلى أكثر من عشرة آلاف دولار للأجهزة المستخدمة, وحجرة لا تزيد مساحتها على 25 متراً مربعاً, ولن يستغرق هذا وقتاً طويلاً, فالخلية البكتيرية التي تنقسم كل 20 دقيقة يمكنها أن تُعطي بليون نسخة خلال 10 ساعات, والزجاجة الصغيرة من هذه البكتيريا تعطي عدداً لا نهائياً خلال أسبوع واحد, يمكن أن يقضي على نصف سكان واشنطن العاصمة الأمريكية).

أمّا دوافع تأليف الكتاب فيصرح عنها الكاتب بقوله: (ولعل الذي دعاني إلى كتابة هذا الكتاب, هو الشغف بالموضوع, ونقص المعلومات المتاحة عنه...).

وفي الواقع فإن الأمر يتعدى نقص المعلومات, فما يتاح من هذه المعلومات الشحيحة يصعب توثيقه وإثباته, ويتعذر تصديقه في بعض الأحيان, فربما كان التهويل من باب الحرب النفسية أو ما يمكن أن نسميه (الإرهاب بالإرهاب).

الاستهداف العنصري

لقد أشار الكاتب في بداية مقدمته للكتاب إلى أنه (ربما يُحجم الكثيرون عن الحديث في موضوع الأسلحة البيولوجية كوسيلة ربما تكون من أقوى أسلحة الدمار الشامل حتى لا يصاب الناس بالذعر والخوف من جراء هذا الحديث)... ويؤكد أن هذا (قد يكون خطأ جسيماً لأن عدم الحديث عن الخطر لا يعني عدم وجوده, بل على العكس ربما يؤدي إلى مضاعفة آثاره التي تنجم نتيجة عدم الاستعداد لمجابهته).

ومع الاعتراف بأن هناك اختلافات فردية في القابلية للشعور بالخوف والاستجابة للذعر والهلع والرهبة, ومع الحيطة والحذر اللذين رعاهما الكتاب فهناك الكثير في الموضوع مما يثير المخاوف, هذا بجانب أن معظم المصادر الإعلامية تميل إلى تحريك المشاعر وإثارة الأحاسيس حتى يتحقق لها أكبر الوقع والأثر, فعادة ما يتم سرد الروايات وتذكر التفاصيل والمشاعر مما ينقل القارئ إلى مسرح الأحداث ويزيد من تأثير الرواية. ولا يعني هذا أن الموضوع يخلو من الخطورة, فيكفي أن نعرف أن (هناك 17 دولة تمتلك إمكانات تصنيع الأسلحة البيولوجية, وأن هناك 39 نوعاً يمكن استخدامه كسلاح بيولوجي, يكفي استنشاق واحد على مليون من الجرام منها لقتل إنسان ضخم الجثة), أضف إلى هذا أن (الانتهاء من إعداد مشروع الجينوم البشري قد يمكن بعض الدول من اكتشاف اختلافات متميزة في جيش أو شعب معين, مما يمكن أعداءه من إعداد سلاح بيولوجي يتم توجيهه إلى هذا الشعب الذي يحمل هذا الجين الذي يميزه عليه, أو يصيبه ببعض الأمراض الخطيرة والمزمنة...). ولو أن الكاتب عاد مرة أخرى واستبعد هذا الاحتمال لأن النقاء الجيني أمر مستبعد. نضيف إلى ذلك أن إحصائيات الوبائيات التي قد تشير إلى زيادة إصابة شعب معين أو جنس معين بمرض محدد لا تتوقف على التركيب الجيني فقط بل هناك عوامل عديدة منها ما ذكرها ابن خلدون في مقدمته عن خصائص سكان مختلف الأقاليم من بيئة ومناخ, ومنها ما كشفت عنها الدراسات الحديثة من عادات غذائية وسمات ثقافية, فإذا كان المجتمع متراخياً في تطبيق القواعد الأخلاقية والدينية تفشى به الإيدز. ومع هذا وذاك, فإن مجرد احتمالية ورود هذه الفكرة قد يبعث البعض على الإحساس بالخوف من المجهول في المستقبل وهذا هو الهدف من الإرهاب, ولكننا نتفق تماماً مع الكاتب أن إخفاء هذه المعلومة كتمان للعلم له آثار وخيمة وعواقب جسيمة, ولا يخرجنا من هذه الدائرة الشيطانية سوى المزيد من البحث التجريبي, والسبق في العلوم البيولوجية, والإحاطة بقدر الخطر ومقداره الحقيقي.

ومن بين صفحات الكتاب (صفحة 86) نستخرج خطراً أشد, وإن كان أبعد احتمالاً وهو: (إمكان إحضار كائنات غريبة من الفضاء واستخدامها في مثل هذه الأغراض). وقد تكون التجارب التي تُجرى في الفضاء بهدف التعديل الوراثي لبعض الكائنات لهذا الغرض, في الواقع المر أننا لا نعرف ولن نعرف. إلا أن (غياب الدليل ليس دليلاً على الغياب), وعلينا بذل المزيد من الجهود في هذا الصدد.

ويتناول الفصل الأول من الكتاب (الأسلحة البيولوجية) ويعتبرها أقوى أسلحة الدمار الشامل. ويبدأ المؤلف بتقسيم أسلحة الدمار الشامل إلى ثلاثة أقسام هي: أسلحة نووية وذرية, وأسلحة كيميائية, وأسلحة بيولوجية, ثم يتطرق إلى الأعباء الاقتصادية والتكاليف الباهظة لهجوم باستخدام السلاح البيولوجي, ثم يختتم هذا الفصل بمناقشة الأسلحة البيولوجية لتدمير الاقتصاد والمحاصيل الزراعية. وتقع التكلفة في عمليات النشر والنقل مما يؤكد على خطورة الإرهاب الداخلي, فكما ذكر الكاتب فإن تحضير الميكروبات لا يمثل صعوبة أو مشكلة.

ويعرف الكاتب الأسلحة الكيميائية بأنها (عبارة عن مجموعة من الغازات السامة التي تم تحضيرها كيميائياً), ويضرب لها أمثلة: غاز الدموع, غاز القيء, غاز الخردل, والغاز الخانق, وغاز الدم, وغاز الأعصاب.

أمّا الأسلحة البيولوجية فيعرفها بأنها (تتكون من كائنات حية معدية تعيش وتتكاثر). ويخصص لها عنواناً في كتابه عن أشهر الجراثيم المستخدمة في تصنيع الأسلحة البيولوجية, ويدرج ضمنها سموم البوتيولينيوم وسموم أفلاتوكسين.

ولا يقتصر الأمر على مجرد التصنيف والتقسيم, بل يحمل أهمية كبرى في الانتشار والخطورة. ففي حالة الهجوم بالمواد الكيميائية تقتصر الإصابة المباشرة على من يتعرض للهجوم فقط, أمّا المواد البيولوجية فإنها قد تستقر في البيئة لسنين عديدة, كما قد تنتقل بين البشر إلى من كانوا بمنأى عن الهجوم.

ويحدد الكاتب (في صفحة 28) أهم الخصائص المُثلى لاستخدام الكائنات الدقيقة كسلاح بيولوجي, وهي: (سرعة انتشار وإحداث العدوى, ومدى السُمية, التي تحدثها, والثبات في حالات الجو المتقلبة, وسهولة تصنيع وتخزين كميات كبيرة من هذا السلاح في حالة نشطة, والقدرة على إحداث المرض بشكل حاد ومؤثر ومميت).

كما يلخص الكتاب العناصر التي ينبغي توافرها في السلاح البيولوجي وهي: (الكائن الحي (أو السموم الناتجة منه), ووعاء الذخيرة, ووسائل الإطلاق, ووسائل نشر السلاح البيولوجي على شكل رذاذ).

وتأتي قرب نهاية هذا الفصل إشارة إلى ما قام به الأمريكان في حربهم ضد فيتنام.

ويحمل الفصل الثاني عنوان: (تاريخ استخدام الأسلحة البيولوجية), وهو فصل نعبره إذ نشرت العربي مقالاً سابقاً ركز على الجزء التاريخي, لكن من مفارقات هذا التاريخ التي يوردها الكتاب الذي نعرضه قوله:

(وكان العلماء الذين يشرفون على إنتاج وأبحاث هذه الأنواع من الأسلحة (في أمريكا) هم أنفسهم العلماء اليابانيين الذين تم أسرهم واعتقالهم, والذين كانوا يشرفون على برنامج الوحدة 731, وبعد اعتقالهم صدر قرار بالعفو عنهم, وعدم محاكمتهم كمجرمي حرب نتيجة ما فعلوه أثناء التجارب التي أجروها على السجناء, في مقابل أن ينقلوا كل أسرار هذه الأبحاث إلى الأمريكيين).

كما يشير الكاتب إلى عادة السلطات الحكومية في الإنكار والتنصل ويضرب مثالين من أمريكا ومن روسيا.

فمن المعروف أنه لإجراء الدراسات الحقلية والميدانية لا تستخدم البكتيريا الضارية, بل تستخدم منها نسخ مقلدة أو صور غير كاملة ومن هذه النسخ بكتيريا سيرراشيا مارسيسنس Serratia marascens التي تتشابه مع مسبب مرض الجمرة الخبيثة, وكان من المعتقد أنها غير ضارة, أي لم يثبت ضررها إلى أن أجرت جامعة ستانفورد بحوثا في عام 1950م, وأثبتت أضرارها وضراوتها, ورغم نشر هذه البحوث استمر الجيش الأمريكي في إجراء تجاربه ونتج عن ذلك إصابة أحد عشر مريضاً في سان فرانسيسكو وتوفي واحد منهم, وتم عزل هذه البكتيريا منهم جميعاً. ويرد مركز السيطرة أو التحكم في الأمراض بأنه: (بتحليل السلالة التي تمت من خلالها العدوى في الأماكن المذكورة, تبين أنها ليست هي السلالة المستخدمة بواسطة الجيش الأمريكي أثناء إجرائه لهذه التجارب).

السهم يرتد إلى صاحبه

لا يختلف الأمر كثيراً في روسيا. ففي عام 1979م تسربت بكتيريا الأنثراكس من معمل تابع لوزارة الدفاع السوفييتية في سفير دلوفسك ونتج عن هذا التسرب إصابة 77 شخصاً, وموت 66 آخرين.

وأنكرت الحكومة الروسية ذلك تماماً, وصرحت بأن سبب انتشار مرض الحمى الفحمية أو الجمرة الخبيثة (الأنثراكس) كوباء في تلك المنطقة هو استيراد بعض التجار لشحنة من اللحوم المريضة, التي تم بيعها في السوق السوداء دون رقابة أو كشف من الحكومة... وهو تبرير ساذج لا تقبله مخيلة كل من لديه عقل أو إلمام بطبيعة المرض وأعراضه.

ثم يعود المسئولون ليعترفوا بأن ما حدث كان خطأ فنياً في عدم تغيير مرشح الهواء. والرجوع إلى الحق فضيلة, ولكن الذنب الذي لن يغتفر هو ما رسخته الأكذوبة التبريرية من احتمالية انتشار الوباء عن طريق تناول اللحم, وهو أمر لا يمكن إصلاحه, وضرر لا يمكن تلافيه.

ويفرد الكاتب الفصل الثالث للأسلحة الكيميائية ويستعرض الدول التي استخدمت الكيماويات في حروبها في عرض تاريخي موجز, وإن كانت بعض المعلومات محل تساؤل, إلاّ أنه كما سبقت الإشارة يصعب نفي أو إثبات أغلب الادعاءات الواردة في الساحة بالنسبة لهذا الموضوع.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الفصل, ما أشرنا إليه آنفاً من أن استخدام الأسلحة البيولوجية والكيميائية تتعدى آثاره المصابين بها وتمتد إلى الحالة النفسية للقوات المتحاربة, فعلى الرغم من أن القوات الألمانية وجهت 6 آلاف اسطوانة من غاز الكلور ضد القوات البريطانية والفرنسية, ونجحت في قتل أقل من ألف محارب إلا أن الرعب كان قد سيطر على خمسة عشر ألفاً من الجنود في ميدان المعركة, نتيجة الأعراض التي مات بسببها زملاؤهم مما أثر على معنوياتهم.

ويبرز نظام صدام حسين في أنه استخدم الأسلحة الكيميائية وتفوق في الإجرام من ثلاثة جوانب:

الجانب الأول: ترك العراق من الأدلة والوثائق والبراهين والشواهد ما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ولا يفسح مكاناً للجدل أنه قد استخدم الأسلحة الكيميائية.

الجانب الثاني: أن العراق استخدم هذه الأسلحة ضد أعدائه في الخارج في حربه مع إيران, وضد أبنائه في الداخل لقمع قومه الأكراد ومنعهم من المطالبة بأبسط حقوق الإنسان.

الجانب الثالث: أنه لم يتورع عن استخدام كل أنواع الأسلحة الكيميائية من غاز الخردل الحارق, إلى التابون, والسارين.

ثم يناقش الفصل كيفية تصنيع الأسلحة الكيميائية, ويقسمها حسب درجة تأثيرها إلى: كيماويات قاتلة, ومعطلة, ومضايقة. ويتناول كل قسم منها بالشرح والتبسيط من حيث أنواعها, وتأثيرها, وطرق العلاج منها والتخلص من مخلفاتها.

بين الإرهاب والمخابرات

وفي الفصل الرابع تحت عنوان: (المخابرات والإرهاب والأسلحة البيولوجية والكيميائية, يتنقل الكاتب بنا عبر روايات شائقة عن استخدام الروس لسمّ الرايسين لاغتيال المنشقين البلغار, إلى قصة مؤسسة المستحضرات البيولوجية, ومحاولات تلويث مصادر المياه والهواء والطعام, ومحاولة اغتيال خالد مشعل وإرهاب الموساد الإسرائيلي, ونشر سلمونيلا التيفوئيد في بوفيهات السلطات ببعض المطاعم في أمريكا, وقصة أخصائي الميكروبيولوجي (هاريس) الذي أجهضت محاولته نشر بكتيريا الطاعون, مع اعترافه فيما بعد بأنه كان ينوي أن يلصق التهمة بالعراق.

ويروي الفصل مجموعة أخرى من الأحداث التي تؤكد على خطورة هذه الأسلحة, وسهولة إنتاجها, والابتكارات الإجرامية في نشرها, وينتهي الفصل بمجموعة من الصور والأشكال والخرائط.

ويستقل الفصل الخامس بسيناريو مفترض لحادث افتراضي متخيل عن نشر مسبب مرض الجمرة الخبيثة في مباراة نهائية لكرة القدم في مدينة نورث إيست بالولايات المتحدة, يعد نموذجاً للدراسة خاصة في مجال إدارة الأزمات.

أما الفصل السادس فيورد بالتفصيل جهود نظام صدام في الحرب البيولوجية والكيميائية, وهو فعلا كان كابوس... ويتناول الكاتب بإسهاب برنامج التسليح الكيميائي والبيولوجي لهذا النظام والدور الأمريكي في هذا التسليح البيولوجي ثم ينتقل إلى استخدامات نظام صدام لهذه الأسلحة ضد إيران.

ويختتم بجريمته الشنعاء في احتلاله للكويت وصدمة المجتمع الدولي.

ويختتم الكتاب بالفصل الحادي عشر عن كيفية الاستعداد لمواجهة إرهاب الأسلحة البيولوجية والكيميائية, ومحاور العمل, ومراحل تشخيص المرض المعدي أو الوباء, وطرق الاستعداد والوقاية, والأعراض النفسية الناتجة عن التعرض لهجوم بالأسلحة البيولوجية, وما الذي ينبغي عمله لتخفيف المضاعفات النفسية خاصة.

 

عبد الهادي مصباح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات