جمال العربية
جمال العربية
حين أنشد المتنبي: (على قدر أهل العزم) هل من تفسير لامتداد هذا الصوت فينا - مخترقًا العصور والأحقاب, طاويًا الأماكن والبلاد - سوى أنه الصوت المُفْتَقدُ في زمن الهزيمة والتراجع, الصوت المدوّي والمجلجل في زمن الخرَس والسّكوت, الصوت البليغ المحكم في زمن العجمة والرطانة والسوقية, الصوت الجامع لحكمة النفس الإنسانية في اعتصارها للخبرات والتجارب والمواقف والأحوال في زمن خُواء النفس وتهافت الروح? أجل, هذا هو صوت أبي الطيب المتنبي, أحمد بن الحسين - يخزُنا - عبر القرون - بِسنان كلماته, وهو ينشد الأمير الفارس العربي سيف الدولة الحمداني بعد انتصاره الساحق على جيوش الروم الجرارة في معركة (الحَدَث) مهنِئًا بقوله:
يقول ديوان المتنبي في التقديم لهذه الغُرّة الفريدة من غُرر أبي الطيب: (وسار سيف الدولة نحو ثغر الحدث لبنائها, وقد كان أهلها أسلموها بالأمان إلى الدمستق سنة سبع وثلاثين, فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمَادى الأولى سنة ثلاث وأربعين, وبدأ في يومه فخطّ الأساس وحفر أوله بيده ابتغاء ما عند الله جل ذكره, فلما كان يوم الجمعة نازله ابن الفقاس (دُمستق النصرانية) في نحو خمسين ألف فارس وراجل من جموع الروم والأرمن والروس والبلغر (البلغار) والصقلب والخزريّة, ووقعت المُصافّة يوم الاثنين انسلاخ جُمادى الآخرة من أول النهار إلى وقت العصر, وأن سيف الدولة حمل عليه بنفسه في نحو خمسمائة من غلمانه وأصناف رجاله فقصد موكبه وهزمه, وأظفره الله تعالى به وقتل نحو ثلاثة آلاف من مقاتليه, وأسر خلْقا من أسحاريّته وأراخنته, فقتل أكثرهم واستبقى البعض, وأسر توذس الأعور بطريق سمندويه ولقندويه, وهو صهر الدمستق على ابنته, وأسر ابن ابنة الدمستق, وأقام على الحدث إلى أن بناها ووضع بيده آخر شرافة منها في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب, فقال أبو الطيب, وأنشدها إياه بعد الوقعة بالحدث):
القصيدة لوحة عريضة شاملة, المشهد الأساسي فيها مشهدُ البطولة والشجاعة والمغامرة, والتطبيق الميداني لمقولة المتنبي في الشطر الثاني من مطلع القصيدة: (وتصغرُ في عين العظيم العظائم). أين سيف الدولة - في خمسمائة من غلمانه وأصناف رجاله - من جيش الروم المدرع مقاتلين وخيْلا, يملأ شرق الأرض وغربها, وأصواته المخيفة تتصاعد إلى الجوزاء, وتعداده الهائل - خمسون ألفًا - يضم أجناسًا ولغات شتى? في مثل هذا الموقف تصبح الشجاعة تهورًا والثبات جنونًا, لكن سيف الدولة - وهو العظيم في جوهره - صغُر في عينيه المشهد, وعَلتْ عزيمته على الحسابات التي تقذف بالرعب في القلوب, فكانت كلمة السرّ في قول المتنبي: (وقفت), و(الوقوف) ثبات وشجاعة في وجه هذا الطوفان القادم, المتفوق عَددًا وعُدّة بما لا يسمح بأي مقارنة, و(الوقوف) في لحظة يعرف فيها كل واقف أن الموت حتمية لاشك فيها:
وهنا لابد من الإشارة إلى ما أغرم به الدارسون, والبلاغيون, وهم يردّدون ما ذكره الديوان من أن سيف الدولة أنكر على المتنبي تطبيق عجزيْ البيتين على صدريْهما, وقال له: يَنبغي أن تقول:
وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
قال: ووجه الكلام في البيتين على ما قاله العلماء بالشعر أن يكون عجز البيت الأول مع الثاني, وعجزُ الثاني مع الأول, ليستقيم الكلام, فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيلِ بالكرّ, ويكون سباء الخمر مع تبطن الكاعب. فقال أبو الطيب: أدام الله عز مولانا سيف الدولة إن صحّ أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلم منه بالشعر, فقد أخطأ امرؤ القيس, وأخطأت أنا. ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك, لأن البزاز يعرف جملته, والحائك يعرف جملته وتفصيله, لأنه أخرجه من الغزلية إلى الثوبية. وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد, وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء, وأنا لمّا ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى ليجانسه. ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسًا, وعينه من أن تكون باكية قلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم, لأجمع بين الأضداد في المعنى. فأعجب سيف الدولة بقوله, ووصله بخمسين دينارًا من دنانير الصلات, وفيها خمسمائة دينار. وفي القصيدة أيضًا هذا النَّفَس العُروبي, الذي عرفه المتنبي, وأطلقه في شعره - قبل أن يتكلم عنه أهل هذا الزمان -, وهذا اليقين الذي لا يتزعزع, بالنصر الذي يصنعه فارس عربي, نذر نفسه وجيشه وإمارته الصغيرة (حلب), قلعةً صامدة في وجه هجمات الجيوش, التي تُحرّكها إمبراطورية الروم, واحدة بعد أخرى, فارسٌ يرى شاعره حجم مسئوليته, وعظم دوره, وهو يخاطبه بقوله: (أَتوْكَ) يجرّون الحديد, بكل ما في (أَتوْكَ) هذه من الحفْز والاستثارة, والتنبيه إلى الخطر الداهم, ويكون رد سيف الدولة ردًا عمليًا متمثلاً في الثبات المُجسّد لليقين: (وقفْتَ), فلا مهرب ولا فرار, ولا التماسَ لنجاةٍ أو حرصًا على حياة, وأنّ سيف الدولة في مثل هذا الموقف, بكلّ الحسابات, التي يعرفها البشر, فعل شيئًا من هذا كله أو فكّر فيه, لما لامه أحد, لكن حسابات سيف الدولة كانت تجسيدًا لهذا (اليقين), الذي تُبدع في تصويره ونسْجه قصيدة المتنبي, شأنها شأن بقية (سيفياته), التي توّج بها جبين سيف الدولة على مدار أكثر من تسع سنوات. وفي فنون الحرب والالتحام, يسجّل المتنبي تفوّق السيوف على الرماح, ويصوّر احتقار سيف الدولة للردينيات وهي الرماح المنسوبة إلى رُديْن - المشهورة بصنْع الرماح - مؤثرًا استخدام البِيض أي السيوف المجلوّة الصارمة:
وتبقى صيحة أبي الطيب: (على قدر أهل العزْم), ونحن نتلفّت من حولنا, باحثين عنهم, وعن جذوة (اليقين), التي دونها تصبح الصدور خاوية, والإرادات - إن كانت هناك إراداتٌ - هشّة, والثبات في وجه التحديات, حتى لو كان الوقوفُ مغامرةً, وجنونًا وانتحارًا. تبقى صيحة (أبي الطيب) درسًا في حقيقة الشعر الباقي, محتفظًا بكيميائه ومائه وكهربائه, والحكمة الباقية, مُلفّعة بالكشف والرؤية النافذة, والبصيرة الثاقبة. أجل. يبقى درس (المتنبي)
|