إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

التخصص في الأدب العربي...هل من مستقبل?

هل من مستقبل للاختصاص بالأدب العربي? سؤال نطرحه اليوم بسبب ما هو شائع عن ازدياد اتجاه الطلاب نحو المواد العلمية والعملية. لاشك في أن الاختصاص بالأدب العربي مرتبط بسوق العمل, وخصوصًا بحاجة قطاع التعليم, ومادام الأدب مادة من مواد التعليم في مدارس العالم كله, فستبقى الحاجة إليه قائمة في المستقبل.

ولكن الأدب ليس مادة تعليمية وحسب, بل هو مادة تربوية أيضًا. إنه سجل ثقافة الأمة ولغتها وأخلاقها, ووسيلة لتطوير الأفكار, ونقل التجارب, وتوسيع الخيال, وإرهاف الذوق, وتنمية ملكة التعبير. لهذا لا يسع أي أمة أن تستغني عن تدريسه, وتكتفي بالعلوم وحدها, على أهميتها, فمناهج تدريس العلوم, التي تقوم على المسلّمات, والصيغ الجاهزة للتطبيق, تحمل خطرًا محققًا على التربية, وخطرها ينبع من قابليتها لتحويل الطالب إلى إنسان, تتحكم القوالب في تفكيره, فتغيّب عنده التحليل والرأي الشخصي وحس النقد والجدل, وتقولبه في الصورة, التي ترسمها له المسلمات السائدة. وهذه تربية أصولية حقيقية تمنع نمو الفرد, وتجمّد الفكر, وتقمع الفن, فتهدم كل مقومات التمدّن. لهذا كان تدريس الأدب ضرورة تربوية لبناء الشخصية الفردية, وضرورة اجتماعية لترسيخ المبادئ الإنسانية, وضرورة حضارية لتطوير الفكر البشري.

ولكن لابد للاختصاص في الأدب العربي في المستقبل, من أن يلتزم بالأهداف, التي تبرر وجوده, ونحن لو نظرنا إلى برامج الأدب في البلاد العربية, لوجدناها تتجه عكس هذه الأهداف. فهي تهتم لتاريخ الأدب, لا للأدب نفسه. وتختار في الغالب القصائد التي تدور على الحكّام, والأوضاع السياسية, لا تلك التي تتناول حياة الناس وقضايا الإنسان, حتى ليكاد الطالب يظن أن العرب لم يكتبوا في غير المدح والرثاء والفخر. وهذا ما جعل نصوص هذه البرامج مقطوعة الصلة بالحياة, تدفع الطالب إلى التمثّل والحفظ, بدلاً من أن تجذبه إلى القراءة والتذوّق. والمعروف أن القراءة هي غاية تدريس الأدب, ومنها يستمد الطالب ما يساعده على تصوّر ذاته, ورسم صورة العالم حوله, وصورة علاقاته بالآخرين.

لقد قدّم أفلاطون مفهومًا عموديًا للأدب, حين اعتبره وحيًا منزّلاً, وكان العرب في الجاهلية يؤمنون أيضًا بأن لكل شاعر شيطانًا يوسوس له بالشعر, أما أرسطو فقدم مفهومًا أفقيًا, حين اعتبر أن الشاعر إنسان يستجيب في شعره لحاجات الناس. ومازال التنافس بين المفهومين مستمرًا, ولكن الغلبة عندنا, كانت دائمًا لشياطين الشعر, للوحي الهابط على الشاعر, للإعجاز الذي يحمل الدارس على النظر إلى النص من الخارج فيدرس صياغته, ويقف عند شكله وأسلوبه, ويدقق في أدوات تعبيره. أما المعاني الاجتماعية, التي ترقّي تفكير الناس, وتعزز فيهم إنسانيتهم, فهي في المقام الثاني. لا, ليس الأدب جثة للتشريح, ولا نصوصًا محنّطة نستظهرها جيلاً بعد جيل, ولا أخبارًا نردّدها, كما سجّلتها كتبُ الأخبار. إنه فن لا حدود له, ومعانٍ إنسانية تعبّر عن حالات وتصوّرات وتجارب ومشاعر وآراء. إنه سيرة العقول المجتهدة والقلوب المجرّبة.

لابد إذن من وضع برامج تُخرج دراسة الأدب العربي من جمودها, وتخلصها من رجعيتها, وتفتح النوافذ والأبواب أمام تراثنا لنخرج منه شياطينه, ويدخل إليه الهواء والنور. لامفر من تحويل الاختصاص في الأدب العربي اختصاصًا بتطوير التفاعل مع هذا الأدب, والبحث له عن سبل جديدة للكتابة, ومناهج جديدة للتحليل, وآفاق جديدة للنظر, تعيد إليه حيويته وتصالحه مع قرّائه, حينذاك يصبح لأدبنا مستقبل حقيقي.

 

لطيف زيتوني