شعاع من التاريخ سليمان مظهر

شعاع من التاريخ

كريستينا... المرأة الرجل... الهاربة من العرش..!

كانوا كلهم في انتظار ولي العهد, الملك يجلس في غرفة مجاورة لغرفة الملكة يتحدث في عصبية مع شقيقه الأصغر, وأفراد الأسرة المالكة يطلون من الشرفة على جموع الشعب الزاخرة وفي الأعماق منهم قلق, ورجال البلاط يروحون ويغدون ويعدون المواثيق الجديدة لتذاع على الشعب, والوصيفات في أركان القصر يتحدثن في همس وينظرن إلى باب مخدع الملكة في انتظار البشير بميلاد الصبي الجميل, ألم يجمع أساطين علم الفلك في المملكة بعد تأملاتهم ودراساتهم العميقة لما بين أبراج الكواكب على أن الملكة ستضع هذه المرة وليا للعهد...!

ولكن كذب المنجمون ولو صدفوا, فما كان المولود الجديد غير طفلة, لعلها كانت قد وطدت العزم قبل أن تولد على أن تكون صبيا, فجاءت وفي صوتها خشونة, وعلى كل أجزاء جسمها شعر غزير هو إلى الجنس الآخر أقرب وأولى...! وما كاد يعلن النبأ حتى أصيبت الملكة بنوبة هستيرية من الكمد والغضب, وظهر ذلك واضحا مع مر الأيام القليلة التالية إذ أبغضت الملكة الطفلة بغضاً شديدا. وظلت سادرة في بغضها لها فلم تعن بالمحافظة عليها, وكانت تقشعر من مجرد النظر إليها ولا ترى فيها أكثر من حشرة صغيرة حتى أصبحت الطفلة البائسة كمّا مهملاً لا يؤبه له ولا يلتفت إليه, وزاد الطين بلة أنه حدث ذات صباح أن سقط أحد الأعمدة على مهدها فكاد يهشّمها تهشيماً, كما خلف لها حادث آخر عاهة مستديمة إذ كسرت إحدى كتفيها, فظلت هذه الكتف المكسورة أعلى من الكتف السليمة مما زادها قبحا ودمامة.

على أن التعويض للطفلة جاءها من أبيها الملك السويدي جوستاف أدولف, فقد أعرب عن سروره بالمولودة الجديدة رغم بشاعتها, وعقب على مجيئها بقوله: (لنشكر الله على عطيته, وإني لآمل أن أجد في هذه الابنة ما يعوّضني عن الولد, وليحفظها الله كما وهبني إياها....!).

أما الطفلة نفسها فقد عانت الكثير, وكانت طفولتها قاسية يابسة مجرّدة من أي عطف أو رعاية أو حنان, لكنها كانت تقاوم قسوة الحياة وقسوة الأم بشكل عجيب, فلم يكن أحد يعطف عليها سوى أبيها الذي كان والداً قبل أن يكون ملكا, ولما سافر في إحدى غزواته كان مما يقطع نياط القلوب أن تظل الطفلة تنتحب ثلاثة أيام بلا انقطاع حتى تقرّحت عيناها, إذ استشعرت في سفره حرمانها من القلب الوحيد الذي كان يرق لها ويعطف عليها ويحميها من اضطهاد أمها القاسية الرهيبة..!

تقليد الرجال!

نمت الطفلة الصغيرة وشبت ولكنها مع هذا كانت تأبى أن يلقبوها باسم كريستينا, فليلقبوها إذا شاءوا بالأمير كريستين, فهي لا تحب الضعف, وفي لقب الأميرة ما يشعر بالضعف, ومن هنا أيضا كرهت أن ترتدي زيّ النساء, وعمدت إلى ملابس الرجال ترتديها لتستعيض بها عن تلك الأثواب الفضفاضة التي تعوقها عن تقليد الرجال في حركاتهم وسكناتهم ونشاطاتهم. وفي الحق لقد كان الجو الذي أحاطت به الفتاة نفسها يسهل لها ذلك الأمر كله, فقد مات أبوها جوستاف ملك السويد العظيم في ميدان القتال وهي بعد في الرابعة من عمرها. ولكنه كان يدرك ما يمكن أن تسومه إياها أمها من عذاب حتى أنه نص في وصيته على سحب الوصاية على العرش بعده من الملكة, بل وزاد على ذلك بأن جرّدها من مهمة الإشراف على تربية وليّة العهد, ونص في وصيّته على أن يتكون مجلس الوصاية من خمسة من كبار رجالات السويد ومفكّريها ليست من بينهم أمها الملكة إليتانور, وزاد على ذلك أيضا بأن عهد إلى مستشاره الأول أوكسنتاين بتنفيذ الوصية. فسهر المستشار على هذه المهمة بأمانة ودقّة, فكان أول عمل أداه هو أن سحب الطفلة من الأم التي كانت قد استولت عليها وأبقتها بجوارها في جناحها في القصر الذي طلت جدرانه باللون الأسود بدعوى الحزن على زوجها, وأرخت على نوافذه الستائر السوداء التي تركتها مسدلة ليلا ونهارا حتى أصبح المكان كالمقبرة, وراحت ترغم الطفلة على البقاء معها تنتحب وتولول معها, واشتدّ ندبها وصياحها كما لو كانت قد أصيبت بمسّ من الشيطان حينما أرغمها المستشار على تسليمه الطفلة غير عابئ ولا مكترث بندبها وصياحها وعويلها.

كان الوصي يشرف بطريقة جادّة على تربية الملكة الصغيرة التي كان يدرك ميولها, وكان هو نفسه يحب أن يجعل منها ملكا تَقود لا ملكة تُقاد. وعرف أنها لا تطيق جوّ هؤلاء النسوة اللواتي لا همّ لهنّ إلا أن يجلسن يطرّزن في خمول ويراعين أدق قواعد أتيكيت القصور. فجعلها وهي في السادسة تستقل بجانب من القصر بعيداً عن الأم وحاشية الأم أيضا, وراح هناك يقوم بتنشئتها النشأة التي أرادها لها, نشأة الفتى الذي يحبّ ركوب الخيل ليسابق الريح, ويأكل من طعام الجندي الخشن لينمو قويا صلب العود, ويدرس الفلسفة واللغات ليعرف كيف يتحدث إلى كل الناس. وأثمر ذلك الجو القاسي الذي أحاطها به مربّيها فأوجد فيها قوة إرادة لا تعرف اللين, وصلابة رأي لا تهتز أبدا. فما إن بلغت سن الرشد وتنحى مجلس الوصاية ليترك لها الأمر حتى ملكت بيمينها كل شيء. وقررت بتلك الصلابة وهذه الإرادة طلب عقد الصلح وإنهاء حرب الثلاثين التي كانت قد بدأت في عهد أبيها بين السويد وبروسيا وروسيا وبولونيا. واهتزت البلاد كلها للنبأ وهتف رجال الدولة:

... نطلب الصلح...? إن هذا معناه الاستسلام. وجدير بنا أن نموت في الميدان من أن نسعى إلى صلح هو الذل والهوان...!

وأجابت كريستينا في صلابة الرجل:

- إنني أحب البطولة وأقدّر الشجعان, إلا أنني أكره الوحشية, الوحشية التي تجد في ميدان القتال أوسع حلبة تتيح فيها للسفاحين والقتلة إبراز ما تحوى قلوبهم من الضغينة والبغضاء والحقد على المجتمع الإنساني...!

وانتهت حرب الثلاثين بإرادة كريستينا, وخرجت منها السويد صفر اليدين.. وهتف رجال الدولة:

- إن النكبات تتوالى على البلاد ما ظلت وحدها على العرش, فلتتزوج واحدا من أمراء الأسرة, يكبح ذلك الجماح...!

ولكنها أجابت في كبرياء:

- إن مركزي وآمالي لا يسمحان لي بالخضوع لإرادة رجل, لقد نشأت وأنا أشهد الرجال جميعا يحنون هاماتهم لي, فكيف تريدون لي أن أسلم قيادي لرجل...?! ومن يومها كرهت الأشراف ورجال الأرستقراطية في البلاد, وأبت إلا أن تلقي بتقاليدهم عرض الحائط. فأصدرت أمرها ذات يوم بتعيين أحد رجال العامة الأفذاذ عضوا في البرلمان, وثار هؤلاء, فكيف تسمح الملكة لنفسها بأن تجلس أحد رجال العامّة الأفذاذ عضوا في البرلمان مع الأشراف المختارين?! وابتسمت الملكة وهي تقول: (يا أصدقائي... كم من الأمراء من لا يستحق لقب أجير الأرض, وكم من الأجراء من يستحق الارتفاع إلى مركز الأمراء...?!).

رجل ولا كل الرجال...!

أثبتت كريستينا أنها في ميدان الجد والصبر والعمل الدءوب لا يشق لها غبار, فقد كانت على درجة خارقة من الصبر وقوة الملاحظة, وكانت في كل أعمالها أبعد ما تكون عن طبيعة المرأة وأقرب ما تكون إلى طبيعة الرجال, فالأعمال التي يروقها أداؤها ويحلو لها إنجازها هي الأعمال التي يضطلع بها الرجال, ويكفي أن يكون العمل من أعمال النساء لكي يثير اشمئزازها وكراهيتها كمحادثات النساء وشواغل النساء, وأظهرت بسالة نادرة في مواجهة الأخطار, وكانت ذات صفات ممتازة قوية وهي كلها من صفات الرجال, وعليه فقد كانت النتيجة أنها لم تستطع أن تكون رجلا ولم تستطع أن تكون امرأة!

كان كل من يحتك بها من رجال الدبلوماسية وممثلي الدول يصفها بذلك الوصف, ومن أبرز ما وصفت به ما قاله عنها الدوق دي جيز: (إنها رجل أكثر منها امرأة, تعلو إحدى كتفيها عن الأخرى, إلا أنها تعمد إلى إخفاء هذا التشويه بوسائل خاصة تصطنعها في ملابسها التي تميل دائما إلى أن تشبه زيّ الرجال. أما أحذيتها فهي تشبه أحذية الرجال, ولا غرابة في ذلك, ففي صوتها الأجش ما يقرّبها إلى الرجال, ومع ذلك وبرغم مظهر المرأة المسترجلة فيبدو عليها النبل والعراقة, وهي تجيد الكلام بثماني لغات وتلمّ بمختلف نواحي العلوم والفنون والآداب. إن كريستينا امرأة غريبة الأطوار وليست بمخلوقة عادية على الإطلاق...).

واستمرت الحياة تسير, وفي كل يوم يحاول رجال البرلمان ورجالات البلاط إقناع كريستينا بالزواج من أي رجل من الطبقة الأرستقراطية في البلاد دون جدوى, فهي لا تريد, وما من أحد يستطيع أن يثنيها. ومع اشتداد ضغط رجالات السويد المسئولين على الملكة أن تتزوج هددت بالتنازل عن العرش إذا أصرّوا على رأيهم, فنزلوا عنه, ومع ذلك فقد انهال عليها طلاب يدها من جميع أصقاع العالم, فمن ملك إسبانيا إلى ملك البرتغال إلى ولي عهد النمسا الشاب, أما أهل السويد فكانوا يفضلون على كل هؤلاء شارل جوستاف ابن عمها ليتزوجها, وعندئذ اقترحت كريستينا أن تتنازل لابن عمها عن العرش مفضلة ذلك على الزواج منه, أو من غيره على السواء, وظل سبب فزعها من الزواج سرّا مغلقاً أمام المؤرخين لم يستطع أحد منهم النفاذ إليه وإماطة اللثام عنه!

النزول عن العرش

ذات يوم وهو الحادي عشر من شهر فبراير 1654, فوجئت البلاد بعد اعتكاف الملكة لثلاثة أيام لا تقابل فيها أحدا, بأن كريستينا تقدمت إلى الحكومة بطلب نزولها على العرش لابن عمّها الأمير شارل جوستاف. فاجتمع على الفور حكّام المقاطعات وممثلوها من الشعب في مدينة (إيسال) القديمة للنظر في طلب الملكة العجيب, وأمام هذا الحشد الزاخر من أفراد الشعب والساسة, تولّت كريستينا بسط الأمر بنفسها بجرأة نادرة للشعب المبهوت: (إنني أريد أن أحيا الحياة التي أريدها لنفسي لا الحياة التي تريدونها لي. أما الملكية فهي ترهقني بأعبائها وتقاليدها التي تحدّ من الحرية. ولست أريد أن أعيش حياتي أسيرة لتقاليد البلاط).

وكان الرد أن توسل الجميع إليها كي تظل محتفظة بعرشها وتقلع عن تلك الفكرة البغيضة إليهم. وكان مندوب الفلاحين في سذاجة وبساطة تعبيراته وخلوّها من أي تنسيق أو تزويق أبلغ الخطباء جميعا. إذ وقف يوجّه الكلام إلى الملكة قائلا:

(بحق السماء عليك يا آنسة, ماذا أنت فاعلة? لقد آلمنا جميعا أن نعلم أنك تريدين تركنا, نحن الذين نحبك بقوة وإخلاص, ترى هل تستطيعين أن تكوني أسعد حالا في المستقبل مما أنت الآن? إنك ملكة متوّجة على كل هذه البلاد, فإذا تخليت عن هذا الملك العريض المترامي الأطراف, فأين يمكنك أن تجدي مثيلا له في العالم? إنك إذا نفذت فكرتك هذه - ونرجو ألا تنفذيها - فإننا سنكون آسفين للغاية. وأنت أيضا ستندمين على فعلك ولكن بعد فوات الوقت. ولهذه الأسباب, فإنني وسائر إخواني نلحّ عليك في الرجاء كي تتريثي ولا تنزلي عن العرش. فإنك بهذا تحافظين على شرفك وعلى سلامتنا في وقت واحد, أما إذا أصررت على فكرتك فإنك ستعرّضيننا جميعا لخطر محدق, استمري يا آنسة في طريقك بالشجاعة التي عرفناها فيك, وكوني ملاذا لهذا الشعب مدى الحياة, أما نحن من جانبنا فسنبذل قصارى جهدنا لمعاونتك على تحمّل أعبائك الجسيمة: لقد كان أبوك رجلا باسلا وملكا محبّا لشعبه, ولقد طاف بالعالم كله محاربا مقاتلا في سبيل رفعة شأن السويد. وقد أطعناه وأحببناه طوال حياته, وأنت ابنته, وإننا لنقرر هنا أنك قد حكمت هذه البلاد بصدق وأمانة وإخلاص. ونحن نحبّك من أجل ذلك من صميم قلوبنا. ولن ندعك تتركيننا, فأرجوك يا آنسة ألا تتخلي عنا مادمت على قيد الحياة...)!

وعندما انتهى مندوب الفلاحين من خطابه البسيط البليغ, تقدم من الملكة وشدّ على يدها بقوّة, ثم انحنى على تلك اليد فقبّلها, وما إن أدار ظهره لينصرف حتى غلب عليه التأثر فأخرج من جيبه منديله الكبير وأخذ يسعل بشدة ويتمخّط فيه...!

كيف لم يمس كلام ذلك الفلاح ومنظره وبراءته قلب كريستينا?! وكيف لم تهتز أوتار ذلك القلب عند سماع تلك العبارات الصادرة من الأعماق?! لم يبد على الملكة أنها تأثرت بما رأت وسمعت, فقد كان الإصرار على تنفيذ فكرتها متغلبّا عليها...!

ونزلت كريستينا عن عرش أبيها وتم تنصيب ابن عمها ملكا على عرش السويد, وارتدت كريستينا وهي لم تبلغ الأربعين بعد معطفها الملكي المصنوع من المخمل الأزرق, وأمسكت الصولجان بيمينها, بينما وضعت التاج على رأسها, وسارت يحفّ بها كبار رجال الدولة إلى قاعة الاجتماعات الفسيحة بالقصر حيث كان حكّام الولايات ورجال البلاط والسفراء الأجانب مجتمعين. وجلست على كرسي العرش لآخر مرة وإلى يمينها ولي العهد الذي سينادى به ملكا. ولما تمت تلاوة كتاب التنازل تقدم منها الأشراف واحداً واحداً وأخذ كل منهم يجرّدها من وسام من أوسمة الملك التي كانت تتحلى بها. إلى أن جاء دور رئيس الوزراء وكان عليه أن يرفع التاج من على رأسها فإذا به يأبى في إصرار أن يمد يده إلى رأس الملكة. فما كان منها إلا أن نزعت تاجها بيديها ووضعته أمامها, وإذا بها تبدو في آخر الأمر في ثوب أبيض غاية في البساطة, وتأخذ في إلقاء تحية الوداع على الحاضرين. وتدفقت العبارات المؤثرة على لسانها وهي توجّه إلى خلفها نصائحها وإرشاداتها وإلى شعب السويد تحياتها ودعواتها. فكانت في ذلك الموقف ملكة عظيمة وإنسانة رائعة وامرأة عادية تتمنى أن تكون (امرأة) حقيقية في يوم من الأيام!.

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات